شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
علبة، خزنة، صندوق، تابوت... سحر الصناديق المغلقة

علبة، خزنة، صندوق، تابوت... سحر الصناديق المغلقة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 9 نوفمبر 202004:10 م

يعود سحر الصناديق إلى العصور القديمة، حيث كانت تخبأ فيها أكثر الأشياء أهمية وخطورة، كما في صندوق باندورا على سبيل المثال، الذي حوى الآثام كلها.

علبة، خزنة، صندوق، تابوت، كلها مصنوعات لاحتواء الأَنْفَس والأَثْمَن، سواء أكان هذا الأنفس مجوهرات، رسائل غرامية أم أجساداً بشرية في طريقها نحو التعفن، لذا من الضروري التفريق بين الصناديق ذات الاستخدام المقدس، قبور الأولياء، صناديق المصاحف، الذخائر المقدسة والرسائل الملهمة، والصناديق الأخرى، الدنيوية، المستخدمة لحفظ "الأشياء"، كمستحضرات التجميل، الإسعافات الأولية، النقود وقطع الزينة.

على الأغلب، ولحاجة الإنسان المستمرة لأمكنة مغلقة، استخدم كل المواد التي عرفها لصنع الصناديق، من الخشب إلى العظام إلى العاج، ثم المعادن بأنواعها، قبل أن يستقرّ آخر الأمر على "الهارد ديسك" الذي يتمتع، رغم هشاشته الظاهرية، بمنعة هائلة يلزم خبراء ومعدات لفك رموزها وانتهاك أسوارها.

في الأزمنة القديمة كان الاهتمام منصباً على تزيين الصندوق أكثر من صلابته، إذ كانت الصناديق مجرد ألعاب وهدايا معتنى بها للسيدات، تمهيداً لـ "مفاوضات الزواج"، يفسّر ذلك الاعتناء الكبير بزخرفتها الخارجية والرسوم واستخدام الأصداف والمعادن ومختلف صنوف التطعيمات التي تحتفل بالحب والخصوبة، حتى لعبة الشطرنج، كانت على شكل صندوق يضم الطرفين اللذين سوف يتنازعان حتى الموت لاحقاً، في ارتباط رمزي لحب السلطة والتفوق.

في مسرحية "تاجر البندقية" لشكسبير، كان على المتنافسين على قلب بورتيا الاختيار بين تابوت من الذهب، الفضة أو الرصاص، وبينما فشل الاثنان اللذان اختارا التابوتين المصنوعين من الذهب والفضة في الحصول على صورتها، رفض باسانيو المظاهر الخداعة واختار التابوت الذي يحوي صورتها، التابوت الأقل ثمناً، في حكمة شكسبيرية من النوع العميق والدقيق: الخدعة تكمن في الزخرفة.

أيضاً مثّل "حصان طروادة" نوعاً من الصناديق المخادعة، التي يجب ألا نركن لمظهرها الجميل، إذ ربما تحتوي على موت خفي، خدعة تحتفظ بها لنا الحياة قبل أن تلقينا في صندوقها الأخير.

من الضروري التفريق بين الصناديق ذات الاستخدام المقدس، قبور الأولياء، صناديق المصاحف، الذخائر المقدسة والرسائل الملهمة، والصناديق الأخرى، الدنيوية، المستخدمة لحفظ "الأشياء"، كمستحضرات التجميل، الإسعافات الأولية، النقود وقطع الزينة

الصناديق الضيقة على اتساعها

الصندوق واحد من المفاهيم التي حفرت عميقاً في الذات البشرية واكتسبت معاني خارج دلالتها اللغوية المباشرة، أداة للهو تحولت إلى واحد من أشدّ المفاهيم رسوخاً في نفس البشرية، بدعة لاحتواء المهمل والمتروك أثناء رحلات التنقّل الطويلة أصبحت مخزوناً لا يكفّ عن الإدهاش والمفاجأة: "التفكير داخل وخارج الصندوق"، الصناديق ذات المرايا التي تظن أنها فارغة فيظهر فيها الهيكل العظمي لجدتك، حفر الأرض المكعبة لصبّ أساسات النهب الرأسمالي، حاويات التخزين البحرية التي أصبحت وسيلة الهروب من بلدان الحرب، صندوق الشاحنة الذي نقل "مخدوعي" غسان كنفاني... دلالات رومانسية وأخرى ذات فجاجة قاتلة.

صندوق العرس: جواز العبور من عالم الطفولة إلى عالم النضج، مساحة تحتوي أقنعة الدور الجديد الذي سترتديه الزوجة في بيت عبوديتها المستجدة. يبالغ في تزيينه وتوشية حوافه ليخفي الجريمة التي ينطوي عليها: اختصار للذات في بضعة أزياء، أقنعة وعبودية مبهرجة بالإنجاب والطاعة، ثم يورّث كما تورّث الوصايا الموشحة بتقبيل يد السيد والسمع والطاعة.

التوابيت: يشبه التابوت هودج العروس، أداة استعراضية يتم الطواف بها في الطريق إلى المقبرة. متقشّفة وفقيرة لأنها عامة، لا تعني أحداً، ثم يلقى بالجثة بدون صندوقها في حفرة مستطيلة، بحيث يكون التابوت آخر الفراغ الذي يعرفه الميت. تصنع غالباً من الألمنيوم الخفيف لضمان الديمومة، وكيلا يحفر الموتى على جدرانها أسماء من يحبون بأظافرهم المزرقة، يعاد استخدامها بعد غسلها من صيحات الزوجات ودموع الأبناء.

الصندوق المعدني للبسكويت، على خزانة الأحذية، قرب المدخل: مثل الدرج الأخير من الخزانة، توضع فيه الأشياء التي تظن أنك لا تحتاجها: بطاريات نصف فارغة، أقلام رصاص مكسورة السن، أرقام تلفون بدون أسماء، حبكات شعر صدئة، إبرة مشكوكة بكركر خيطان، فواتير عن سنوات سابقة، مواعيد بلا تحديد. مرة وجدت فيه والدتي التي كنت قد أضعتها منذ زمن، كانت ترتي جواربي المثقوبة وتحكي حكاية للجندي الصغير ذي الرجل المقطوعة، ومرة ضعت فيه وخرجت بعد سنتين لأجد نفسي كهلاً.

غرف البيوت، صالات الاستقبال، عيادات الأطباء النفسيين: صناديق مخادعة، تشبه الدمية الروسية ماتريوشكا، تفتح صندوقاً لتجد صندوقاً آخر، لعبة لا نهائية من التخمينات والأجساد المغلقة المتلاصقة، ما إن تقبض على معنى فيها حتى يظهر لك معنى آخر بألف لغز وألف احتمال. لا ينفتح آخر قفل لها بالموت، بل بالذاكرة، بالصورة الأخيرة لك وأنت ممدد على سجّادة المطبخ، مطعوناً بسكين تقطيع البصل.

الصناديق ذات المرايا التي تظن أنها فارغة فيظهر فيها الهيكل العظمي لجدتك، حفر الأرض المكعبة لصبّ أساسات النهب الرأسمالي، حاويات التخزين البحرية التي أصبحت وسيلة الهروب من بلدان الحرب

صندوق الفرجة، التلفزيون والمرايا المتعاكسة: الثقب الصغير الذي نطل منه بعين واحدة إلى العالم، ثم نكتشف أن هذا العالم هو نحن لكن بلا كآبتنا المزمنة وألمنا الكامن. نحن، أشباهنا، نتف من حواراتنا المقتضبة، ألسنتنا المقطّعة بالوصايا والخوف، نعدّل ربطة العنق، نقرأ المعوذتين ونمضي في البلاد، باسم "الرب الذي خلقَ، من جزمةٍ أفقا".

في زمن الحداثة الأولى، تمت إثارة دهشتنا لتنوع الصناديق وتنوع مفاهيمها ووظائفها، خصوصاً من حيث قدرتها على إخفاء ما تحتويه، مفاجأة الخفاء هذه أعيدت لنا مؤخراً، في زمن الحداثة الثاني، عندما اكتشفنا أن المحتوى المرهون بالغموض والسحر والتوقّع فارغ كفقاعة، كسحابة من المطاط المنفوخ بالهواء، وجود بلا معنى، كأنه قناع لسهم يهسّ في الفراغ، عرفنا أننا مكشوفون، لا أسرار لدينا ولا قصص غامضة، حكايات فقط، حكايات قصيرة لا حكمة خلفها ولا مغزى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image