تتوّج مدينة دهب الساحلية في محافظة جنوب سيناء المصرية، على عرش المدن السياحية الأكثر حضورًا لشرائح عديدة من الطبقة الوسطى، لما تتمتّع به من طبيعة مميزّة، ولتكاليفها المعتدلة، التي لا تجعل السفر إليها حلمًا بعيد المنال.
يستمتع السائحون من الداخل والخارج بهذا السحر، وتجرّب نساء مصريات التحرر الذي قد لا يجدنه في أحيائهنّ، أو في المدن الساحلية المطلة على البحر المتوسط كالإسكندرية ومرسى مطروح، في حين أن "العالم الموازي" الذي تعيش فيه نساء دهب، من السكان البدو الأصليين، لا يعلم عنه عشاق المدينة وزائروها شيئًا.
"أتمنّى أزور القاهرة"
حافية القدمين، تسير نورا عبدالصمد (10 سنوات) على الشاطىء الرملي لمنطقة "اللاجونة"، التي تبعد عن المدينة بضعة كيلومترات، تبيع أنواعاً من الحلي المصنوع من خيوط ملونة، والذي تصمّمه أحيانًا حسبما يختار المشتري الألوان، وتستمر عملية البيع أحياناً عشر ساعات أو أكثر.
تحكي نورا لرصيف22: "توقظني أمي صباحًا مع شروق الشمس، أنا وأخوتي الثلاثة، مريم وحسن وعبدالله، وأكبرهم في الرابعة عشرة من عمره، لنبيع الـ"حظاظات"، التي جلست طوال الليل لغزلها، على الشواطيء للسيّاح، ثمّ نعود مع غروب الشمس، لنعطي أمي ما معنا من أموال، وهكذا كل يوم، بلا إجازات، لكن بعد الوباء خلَت البلدة إلّا من السكان الأصليين، وبعض الأجانب وأبناء الأقاليم الذين يعيشون في دهب منذ زمن بعيد".
وتتابع: "لا أعرف مقدار المبلغ الذي أكسبه، لكنني أبقى طوال اليوم أحاول بيع كل ما في جعبتي من حليّ أمي، حتى أعود بما يكفي لإطعامنا، ونلتقي أنا وإخوتي في نهاية اليوم ونسير معًا إلى منزلنا في منطقة العصلة".
"البحر هو حياتي وحياة كل سكان مدينة دهب "الأصليين"، لكنّه حُرّم علينا منذ أن أصبحنا فتيات كبيرات، هذه هي العادات، وأكتفي بمفروشاتي لتأمين احتياجات الأسرة"
لا تأكل نورا وإخوتها شيئاً طوال اليوم، فأسعار الطعام "لا تناسب إلا الأجانب، وسكان القاهرة"، وعندما تشعر بالعطش تطلب ماء من أصحاب المطاعم أو الفنادق، وتتابع دراستها بعد الغروب، أما في الشتاء فيمكن أن تستمر عملية البيع حتى الثامنة مساء. تقول: "أجد من بين الزبائن من يشتري أحيانًا كل ما تبقى معي من حليّ، بعضهم يعطيني حلوى، وبعضهم وخاصة من المصريين "سكان القاهرة" يحاورني ويسألني عن حياتي وعن تفاصيل المدينة، ويعرض أن يطلب لي الطعام، لكنني أرفض، فلا أحب أن يرانا أهل القاهرة التي أتمنى أن أزورها يومًا "شحاذين"، نحن لسنا كذلك ولن نكون".
" النساء الأكثر تهميشاً"
تخرج ليلى (50 عامًا) من منزلها كلّ يوم عند الثامنة صباحًا، تستقل سيارة الأجرة، التي يملكها ابن جارتها، ويتكسب منها لتوصيل المصطافين، وصولاً إلى منطقة اللاجونة، تحمل مفروشات لتأجيرها للسياح، في منطقة خالية تمامًا من كل شيء إلّا من الرمال، تكون وجهة عشاق الطبيعة والعزلة والبحر، وتحمل مع صديقاتها صندوقًا مليئاً بالثلج لتبريد زجاجات المياه الغازية والعصائر وقطع من الحلي التي تبيعها للنساء أو الرجال، فلديها ما يناسب الجميع، تصنعه بيديها وتبيعه.
تقول ليلى لرصيف22: "نخرج كل يوم أنا وبعض النساء من المنطقة، نبيع ما نملكه من حليّ، لنطعم به عائلاتنا، لكنني أكبرهنّ سنًا، وأربي أحفادي الثلاثة، الذين مات أبوهم في حادث سير، حين ذهب للعمل في الغردقة، بعد توقف السياحة تمامًا هنا قبل سنوات".
"نبيع ما نملكه من حليّ، لنطعم به عائلاتنا".
وتضيف ليلى عن ظروف البلدة الاقتصادية هذه الأيام، قائلة: "الأحوال ساءت بشكل كبير بعد الحديث عن الوباء، خلت البلد من السيّاح، وانقطع مصدر رزقنا، وما كنا نربحه، لم يكن يكفي أن ندخر منه تحسبًا للظروف، لكن أهل الخير لم يتركونا، وكنا نتعاون معًا لإعداد الطعام بأقل تكلفة ممكنة لأطفالنا، لكنها كانت أيامًا أصعب من التي شهدناها عام 2011، وكنا نظن أنّها لن تعود ثانيّة، لكنني أدعو الله ألا نراها، فقد كنا نشعر أنّ العالم أوشك على الانتهاء".
وترى المحامية والناشطة النسوية الشابة، مريم عبدالسلام، أنّ هناك شرائح عديدة من النساء في مصر هي الأكثر تهميشًا، ومن بين أكثرهنّ تهميشًا، نساء سيناء، تقول لرصيف22: "هنّ الأكثر إقصاءً من عملية التنمية، وتعزيز حقوقهن، فالسياحة يمكن أن تكون مصدر رزق جيد، لكنّه لا يكفي لحياة آمنة ومستدامة، خاصة في ظل اضطرابات سياسية لا تضمن سيولة الأموال إلى هؤلاء السكان".
"ننفق ونقترض"
إلى جانب ليلى، تفترش سَكينة (39 عامًا)، بضاعتها، وتصنع المشروبات الساخنة على موقد صغير، تجلبه معها كل صباحٍ إلى الشاطيء، وبوشاح أسود اللون، تخبئ وجهها الذي أحرقته الشمس، فحوّلته وجه عجوز قاربت على الثمانين، وهي شابة لم تبلغ الأربعين بعد.
تروي سَكينة لرصيف22: "لديّ ثلاثة أطفال، مات رابعهم بالسرطان، قبل أربعة أعوام، فلم نكن نعرف شيئًا عن السرطان قبل ذلك، حتى أخبرنا الطبيب في الوحدة الصحيّة أنه يجب أن نذهب به إلى مصر، حيث أمهر الأطباء في علاج هذا المرض، لكن كان الأوان قد فات، أسابيع قليلة ورحل ابني ذو الخمسة أعوام، وأخبرنا الطبيب أنّ الأمر يمكن أن يكون وراثيًا في العائلة، ويمكن أن يصاب أي من إخوته لاحقًا، لكن مرض ابني، الذي جاء في خضم انقطاع مصدر رزقنا (السياحة)، جعلنا ننفق كل ما لدينا، ونقترض من الآخرين، لذلك أحاول أن أعمل أطول فترة ممكنة، لأدخر أنا وزوجي أي مبلغ لنحمي بقيّة أطفالنا من مصير أخيهم".
لا تأكل نورا وإخوتها شيئاً طوال اليوم، فأسعار الطعام في مدينتها "دهب" لا تناسب إلا الأجانب، وسكان القاهرة، وعندما تشعر بالعطش، تطلب ماء من أصحاب المطاعم، وتتابع دراستها بعد الغروب
تشير عبدالسلام إلى وجود العديد من الجمعيات الأهلية والخيرية في جنوب سيناء، ومدينة دهب، لكنها غير كافية للنهوض بهذا المجتمع، "الذي تعاني نساؤه عدة آفات بدايةً من الروابط القبلية التي تحتم على النساء نمطًا محددًا من الحياة، إلى عدم وجود مؤسسات وطنية كافية لدرء الآفات التي يعتبرنها أمرًا طبيعيًا ومسلمًا به، من زواج القاصرات، إلى التسرب من التعليم، والحرمان من الميراث، وانعدام الحق في الصحة والتعليم الجامعي".
المدارس الموجودة في جنوب سيناء حديثة النشأة، بحسب عبد السلام، ما يعني أن كل نساء الجيل الأقدم أميّات تمامًا، وترى أنّ "البداية تكمن في تطوير عملية السياحة، والنهوض بالمجتمع السيناوي، وهو أمر بدأ بعد فتح المجال أمام بعض النساء للعمل في الإرشاد السياحي، خاصةً أنّهن ملمّات جيدًا بجغرافيّة المدينة، لكننا نعوّل على المزيد من الجهد الحكومي لترسيخ عملية التنمية، لأنّ عدد السكان قليل جدًا، وأي جهد ستظهر نتائجه سريعًا".
"البحر حرام علينا"
تقف نفيسة (44 عامًا) على حافة الشاطيء، وتكتفي أن يبلل البحر أطراف جلبابها المتدلي إلى أسفل، ولا تجرؤ على تجاوز المساحة الرملية، التي تباغتها الأمواج الهادئة.
ترى نفيسة أنّه لا يجوز لها نزول البحر بالرغم من أنّها تجيد السباحة، التي تعلمتّها في طفولتها مع أعمامها ورجال العائلة. حين بلغت وأصبحت شابة، لم تغمرها مياه البحر ثانية. تقول: "البحر هو حياتي وحياة كل سكان المدينة، لكنّه محُرّم علينا منذ أن أصبحنا فتيات كبيرات، هذه هي العادات ولا يجوز لنا تجاوزها، وأكتفي بالجلوس أمامه كل يوم، وافتراش مسنوجاتي اليدوية أمام الفندق، لأؤمن مصدر رزق لعائلتي".
"أكتفي بالجلوس أمام البحر".
تعد مدينة دهب، الوجهة الأكثر تفضيلًا للسائحين الأجانب، خاصة من روسيا وألمانيا، لما تتمتع به من طبيعة بكر، لم تطلها يد الحداثة بعد، وبمجرد رفع الحظر عن السفر في أغسطس الماضي، شهدت رواجًا كبيرًا، وبلغت نسبة الإشغال فيها 95%، وفقاً لتقارير وزارة السياحة التي نشرتها جريدة المال.
شهدت دهب منذ بدايات الألفية الجديدة تطورات كبيرة، بحسب من تحدثنا معهم من العاملين وسكان المدينة، من حيث إنشاء الفنادق والمنتجعات السياحية، وصارت وجهة مثالية للعمالة المصرية، خاصة من الدلتا والصعيد، بعضها كانت عمالة موسمية، والبعص الآخر استقر في المدينة وأصبح من السكان الدائمين، وساهم في تطوير المدينة، التي حلّت عام 2019، وفق تقرير "ناشيونال جيوغرافيك"، في المركز الأوّل، كأفضل شواطيء الشرق الأوسط، بالرغم من عدد السكان الذي لم يتجاوز 5 الآف نسمة، وفق آخر تعداد حكومي في عام 2006، وربما كان عدد السكان القليل هو سر احتفاظ المدينة بجمالها الأخّاذ، الذي دفع بعض سكان أوروبا، إلى العيش فيها، واتخاذها موطنًا جديدًا، رغم كل ما يعيشه أهلها من ظروف، خاصة النساء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...