شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الكبار في السن خسروا الكثير ومن الجيّد أن يجرّبوا أشياء جديدة

الكبار في السن خسروا الكثير ومن الجيّد أن يجرّبوا أشياء جديدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 7 نوفمبر 202009:21 ص

في نيسان/ أبريل من عام 2011، شاهدت بالصدفة على إحدى المحطات التلفزيونية مقطعاً من حفل زفاف الأمير ويليام وكيت ميدلتون، والذي دُعي السفير السوري إليه على طريقة فيروز "تعا ولا تجي".

كانت أمي بقربي. سألتني: "عرس مين هادا؟". أجبتها: "عرس الأمير ويليام ابن ملكة بريطانيا، وحفل زفافه حدث عالمي، والمدعوون إليه من أهم الشخصيات... ووُجّهت دعوة أيضاً لسفيرنا في بريطانيا ثم قاموا بإلغائها". صمتَت قليلاً وقد بدا عليها الانزعاج، ثم علّقت: "هو بكل الأحوال كان سيعتذر عن الحضور لأنه مشغول، ولكن عيبٌ عليهم أن يقوموا بعزيمته ثم يتراجعون".

أمي اسمها جميلة أو جمّول كما أناديها. تجاوزت الثالثة والثمانين من عمرها. تبقى صامتة أكثر الأحيان، وعلى وجهها ويديها خطوطٌ وتجاعيد أجمل وأكثر من كل حركات التحرر التي قامت بها الشعوب عبر التاريخ. وهنالك خلافٌ قديم بينها وبين أبي حول غسل الثياب، وشراء المخدات والشراشف وأدوات المطبخ، وكمية الملح في الطعام... وما شابه ذلك.

جمّول لا تجيد القراءة ولا الكتابة. ومع بداية كل ربيع، تطلب منّي أن أخبرها متى تصبح الساعة الثامنة تماماً، ثم العاشرة تماماً، فالثانية عشرة... وهكذا حتى مغيب الشمس. وكلما أخبرتها عن الساعة تذهب إلى إحدى غرف المنزل لترى أين يسقط ضوء الشمس، وهكذا أصبحت تعرف الوقت بشكلٍ تقريبيّ خلال النهار.

جمّول تجيد الجمع والطرح بالحد الأدنى، وتميّز بين القطع النقدية، وتعرف العدّ حتى المئة، وتمتلك ذاكرة قوية. في إحدى المرات، حدّثتني عن طفولتها، وسردت لي الكثير من التفاصيل عنها، وعن أقاربها وأهلها، وعن أول عرس تتذكره، وكان عرس أختها الكبيرة. سألتها: "كم كان عمرك حينها؟"، فأجابت: "لا أعرف. لكنني كنت صغيرةً. وأتذكر أنه قبل أن تتزوج خالتك بيوم ذهبت معها لجلب الماء من النبع، وحين حاولت حمل الجرة الممتلئة بالماء قالت لي: ‘بكير عليكي تحملي الجرة، لأنو الجرة المليانة أكبر من عمرك’... هيك كان عمري: أصغر من الجرار المليانة مي، وبعمر كل الجرار الفاضية". ما قالته يندرج ضمن أدب الواقعية السحرية. هذا ما كان سيقوله غابريال غارسيا ماركيز لو سمعها.

"أمي تؤمن بالله والأولياء وتناسخ الأرواح، لذلك لا يشغلها الموت كثيراً، لكنها تخاف المرض والألم. حين أُصيبت زوجة عمي بجلطة دماغية شَعَرت بالخوف من أن تصاب مثلها، فأخبرتُها أن الويسكي مفيدة جداً، وتحمي من الجلطات"

في عيد ميلادي سألتها: "هل تتذكرين في أي يوم أنجبتني؟"، فقالت: "لا. بس بتذكر إني ولدتك بكوينين. رددتُ كلمة "كوينين" أكثر من مرة بيني وبين نفسي، ثم طلبت منها أن تعدّ لي أشهر السنة، فقالت: "أدار (آذار)، سباط (شباط)، تشيرين (تشرين الأول وتشرين الثاني)، كوينين (كانون الأول وكانون الثاني)، أيلون (أيلول)".

لحظتها اكتشفت أن ما تعلمتُه في المدرسة لم يكن صحيحاً، وأن السنة هي فقط سبعة أشهر، وأن شهر "أيلون" هو بداية الربيع في السنة الجمّولية.

أمي تؤمن بالله والأولياء وتناسخ الأرواح، لذلك لا يشغلها الموت كثيراً، لكنها تخاف المرض والألم. حين أُصيبت زوجة عمي بجلطة دماغية شعَرَت بالخوف من أن تصاب مثلها، فأخبرتُها أن "الويسكي" مفيدة جداً، وتحمي من الجلطات.

وبعد نقاش طويل وافقت أن تشرب رشفة ويسكي كل صباح، وبعد عدة أيام أحضرتُ تشكيلةً من الموالح والفاكهة، وأعددت عشاءً خفيفاً، وسكبت لي ولها كأسين من الويسكي. كانت هذه المرة هي الأولى التي تشرب فيها مشروبات روحية. وقبل أن تنهي الكأس الأول بدأت تضحك، وتقول لي: "ليش البيت عم يبرم؟". الكبار في السن خسروا الكثير، ومن الجيد أن نجعلهم يجرّبون أشياء لم يجرّبوها من قبل.

تنام جمّول بعد غياب الشمس بقليل، وتستيقظ أكثر الأحيان بعد منتصف الليل، لتأتي إلى غرفتي وتتأكد أنني لستُ نائماً خارج المنزل، وحين تراني سهراناً تقول لي: "لهلق سهران؟ بكرا إزا مندق طبول فوق راسك ما بتفيق".

"سألتُ أمي: كم كان عمرك؟ فأجابت: لا أعرف. لكني كنت صغيرة. وأتذكر أنه قبل أن تتزوج خالتك بيوم ذهبت معها لجلب الماء من النبع، وحين حاولت حمل جرة ممتلئة قالت لي: بكير عليكي تحملي الجرة، لأنو الجرة المليانة أكبر من عمرك... هيك كان عمري: أصغر من الجرار المليانة مي"

في إحدى المرات، كنت أتحدث مع صديقي على سكايب حين دخَلَت وسألتني: "مع من تتكلم وتضحك؟"، فأخبرتها: "مع صديقي فلان ألا تعرفينه؟". قالت: "نعم أعرفه ولكن هو خارج البلد. هل عاد؟" فقلت: "لا، ولكنّي أتحدث معه عبر الإنترنت". نظرت إليّ بتعجب وسألتني: "شو هادا الإنترليك؟". ضحكت ودعوتها لتجلس قربي، فرأت على شاشة اللابتوب صديقي الذي ألقى عليها التحية وتبادلا القليل من الكلام، ثم ذهبت للنوم.

وفي اليوم التالي، سألتني: "هل تستطيع أن تتحدث مع أصدقائك وتراهم من خلال الإنترنت؟" فأجبتها: "نعم. لماذا تسألين هذا السؤال؟". هزّت برأسها، وضحكت قائلة: "حين استيقظت هذا الصباح لم أكن متأكدة إنْ كنت البارحة قد تحدثتُ فعلاً مع صديقك أم كان هذا حلماً... شيء عجيب وغريب أن تتحدث مع شخص وتراه وهو في بلد آخر!".

قلت لها: "هنالك بشر أذكياء لديهم عقول تفكّر وتخترع أشياء غريبة وعجيبة"، فردّت: "ألست من البشر وتملك عقلاً؟ لماذا لا تفكر بإيجاد حل للضباب الذي يملأ غرفتك بسبب التدخين؟ ضحكت، وقلت: "لا تتعبي نفسك بالكلام، فأنا لن أترك التدخين لأني أحبه وكريات دمي الحمراء أيضاً تحبه، فهي تتسابق في ما بينها لحمل النيكوتين وأخذه في رحلة عبر جسدي. وحين أدخّن أول سيجارة بعد الإفطار يعطي عقلي أوامر بإغلاق كافة الطرقات الرئيسية والفرعية في جسمي، ويعطّل حركة السيّالة العصبية كي لا تزعجه بالأخبار، ويترك فقط طريقاً واحداً يصل إليه، ثم يفتح باب حديقته ويفرط ورقات ورد جوري على الدرب الممتد من باب الحديقة إلى باب بيته، ويفتح الشبابيك ويرشّ ماء الزهر على الستائر الملونة، ثم ينتظر على الباب حافي القدمين بقميصه الأبيض الناصع المغسول بصابون الغار وبنطال الجينز الأزرق ليرحّب بأول كريّة دم حمراء تحمل النكوتين، وحين تصل يضمّها بشغف مَن لم يرَ حبيبته منذ عام...". هزّت رأسها وقالت: "والله أنت ما فيك جنس العقل. العمى كل ما عم تكبر عم تجن أكتر وأكتر... العقل بيلبس قميص أبيض!" ثم غادرت غرفتي.

يحتل التدخين مع مشروب المتة المرتبة الرابعة في تصنيفي للمتع الحسية، بينما تتصدّر الصحة الجسدية المركز الأول، يليها النوم، ثم الجنس، ويأتي الطعام والمشروبات الروحية في المرتبة الخامسة... ولا يوجد أي تصنيف للقهوة بالنسبة إليّ، فأنا لا أحبّها لكنّني أقدّر تعب الجميلات البرازيليات في مواسم القطاف.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image