شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بعد تسع سنوات عدت سائحاً إلى المكان الذي بدأت فيه لاجئاً

بعد تسع سنوات عدت سائحاً إلى المكان الذي بدأت فيه لاجئاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 12 سبتمبر 202005:55 م

 صورتان.


الصورة الأولى هي لقطة من فيلمي القصير "منفى"، صورت في نهاية العام 2011. 

الصورة الثانية هي صورة التقطتها في نفس المكان في صيف العام 2020.

تسعة أعوام فصلت لقائي الأول بالمكان عن لقائي الأخير. تسع سنوات تغيّر الكثير فيها: سوريا صارت خراباً، قامت في لبنان ثورة إن لم نقل ثورات، وحدث انفجار أردى بيروت خراباً، تغيرت أنظمة في مصر، ومن ثم استبد ديكتاتور بها، اليمن صار خراباً، دول قامت وأخرى ماتت، أحوال البشر تغيّرت، لاجئون ويمين متطرف ويسار خذل الثورات، وصل ترامب إلى رئاسة أمريكا، وصل النازيون إلى البرلمان الألماني، الدنيا ما عادت هي الدنيا، وكذلك حياتي ما عادت هي، مذ وطئت قدمي مخيم اللجوء للمرة الأولى.

بعد تسع سنوات أعود إلى المكان نفسه كي أكتب نهاية هذه القصة، قصتي. كان لا بدّ للحكاية من نهاية. لا تصلح حكاية هذا المكان أن تنتهي هكذا. لا. يجب أن أرى نهاية هذا المكان، وأن أكتب نهاية قصتي معه.

في المرة الأولى/ الصورة الأولى، كنت لاجئاً ضعيفاً، لا أعرف لغة المكان، أُعامل بشكل سيء وبعنصرية مبطنة، لا حقوق لي، أشعر برغبة حقيقية بالانتحار، أشعر بأن العالم نبذني، لا أحد يحبني ولا أحد يريدني. صورة باهتة زرقاء لبناء رمادي متهالك.

في الزيارة الأخيرة/ الصورة الثانية، كنت سائحاً مع حبيبتي وابنتنا الصغيرة، نسافر ونقضي إجازتنا في الغابات السوداء. أعود إلى النقطة التي انطلقت منها في هذه البلاد. أعود إلى مخيم اللجوء اللعين وأقف على الجسر نفسه. ألوان الصورة واضحة، لكن مبنى اللاجئين غير موجود. لقد تمّ هدم البناء الذي عشت فيه واحدة من أسوأ مراحل حياتي، وتمّ إنشاء بناء آخر مكانه، بناء ملوّن، ليكون سكناً لكبار السن.

في المرة الأولى/ الصورة الأولى، كنت لاجئاً ضعيفاً، لا أعرف لغة المكان، أُعامل بشكل سيء وبعنصرية مبطنة، لا حقوق لي، أشعر برغبة حقيقية بالانتحار، أشعر بأن العالم نبذني، لا أحد يحبني ولا أحد يريدني. صورة باهتة زرقاء لبناء رمادي متهالك

لا أعرف ما الذي شعرت به وأنا أتجوّل في المكان. أحاول مذاك اليوم أن أعرف مشاعري. كنت أعرف المكان جيداً. هذا الطريق المختصر الذي يوصلني إلى نهر الراين وهذا الجسر الواصل إلى السوبر ماركت الوحيد في القرية، وهذا الطريق الواصل إلى البلدة المجاورة وهذا الجسر الفاصل بين ألمانيا وسويسرا، لكن البناء اختفى. البناء غير موجود، البناء اللعين الذي شكّل مجتمعاً غريباً من لاجئين قدموا من أطراف العالم بحثاً عن حياة تشبه الحياة.

في ذلك البناء المهدوم حيث تتشكل علاقات لا تشبه العلاقات الاجتماعية العادية، حيث يتعرف المرء على جوانب من نفسه لم يكن يعرفها من قبل، حيث الحياة لا تشبه ما نعرفه ونتعلمه خلال حيواتنا. في ذلك البناء المهدوم تعلّمت كيف أصنع طعاماً شهياً بمكونات رخيصة، في ذلك المكان كوّنت صداقات لا أعرف كيف بدأت وكيف انتهت، في ذلك المكان بنيتُ جزءاً من ذاكرتي الأسوأ. هدموا البناء وهدموا تلك الذاكرة.

مكان كذاك، كان لا بد له من أن يُهدم. لا بد لمكان شكّل ذاكرة بشعة لمئات الأشخاص أن يُهدم. لا بد له من أن يختفي، ذلك البناء الرمادي الكبير البشع، ذلك المكان الإهانة، المكان الذل.

في الصورة الأولى أقف على ذلك الجسر الذي يمرُّ فوق سكة القطار وأنا أشعر بالخوف من المستقبل وبضياع حاضري وماضيّ. لا أعرف أحداً هنا سوى لاجئين مثلي لا حول لهم ولا قوة، ولا أريد أن أعرف أحداً. أريد أن أختفي. أريد أن أختفي عن وجه الأرض كيلا أعيش في هذا المكان، في مصنع الألم والقهر والذلّ هذا. في الصورة الأولى، كنت فقيراً معدماً لا أملك حق الطعام، بعض قروش يعطونني إياها في كل أسبوع كي أعيش منها، وهي في الحالة العادية لا تكفي وجبة طعام واحدة. (بعد تسع سنوات وفي المكان نفسه تناولت وجبة عشاء مع عائلتي الصغيرة في مطعم محلي ودفعت على وجبة واحدة ما كنت أتقاضاه كمساعدات لمدة ثلاثة أسابيع، ليس لأن المطعم ذو سعر مرتفع بل لأنّ المساعدات كانت مجهرية). 

في الصورة الثانية، يبتسم لي من أقابل من أهل القرية، يرحبون بالسائحين ويبتسمون في وجوههم. أبتسم وأنا أتذكر نظرة الاحتقار والازدراء والشفقة في أحسن الأحوال التي كانت تقابلني حين أتيت إلى هذه القرية لاجئاً

في تلك الصورة الملتقطة في شتاء بارد، قالوا إن ألمانيا لم تشهد مثله منذ سنوات طويلة، لم أكن أرتدي سوى "ما يشبه المعطف"، شيء خفيف أرتديه لا يقيني البرد. في ذلك الشتاء الحقير لم أكن أملك من أمري شيئاً، لم أكن أملك ثياباً تدفع عني البرد، لم أكن أملك طعاماً يقيم صلبي، لم أكن أملك مفاتيح حياتي، لم أكن أملك قرار مستقبلي بيدي. في تلك الصورة، في ذلك اليوم، كنت أنتظر معجزة ما، وأنا أعرف بأن عصر المعجزات انتهى. في ذلك اليوم اللعين. في تلك الصورة. في تلك الصورة.

في الصورة الثانية، أقف على ذلك الجسر الذي يمرُّ فوق سكة القطار وأنا أنظر نحو ماضيّ المؤلم. ابنتي التي تبلغ سنتين ونصف السنة تقفز من حولي. حبيبتي تسألني عن تفاصيل حياتي في ذلك المكان. وأنا أفكر بأن عليّ أن ألتقط صورة تشبه ذلك المشهد من فيلمي. في الصورة الثانية كنت سائحاً مثل باقي السيّاح، يبتسم لي من أقابل من أهل القرية، يرحبون بالسائحين ويبتسمون في وجوههم. أبتسم وأنا أتذكر نظرة الاحتقار والازدراء والشفقة في أحسن الأحوال التي كانت تقابلني حين أتيت إلى هذه القرية لاجئاً. عندما التقطت هذه الصورة شعرت بأنّني انتقمت من هذا العالم، من هذه الحياة.

صورتان، والفارق بينهما تسع سنوات، وحياة مرّت وتغيرت كأنها تسعون سنة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard