في الآونة الأخيرة، شهدت الصحافة المغربية ولادة جنس صحفي جديد يقوم بالأساس على السب والقذف والتشهير، والدخول في أكثر التفاصيل حميمية للأشخاص، وانتقلت المنابر التي تتبنى هذا الجنس الصحفي الجديد من نشر الشائعات، كما هي عادة المواقع الصفراء، إلى البحث في الحياة الخاصة وتسريب المعطيات الشخصية والسرية أحياناً، مرفقة بالصور والإثباتات.
هذه الممارسات تقوم بها العديد من المواقع في المغرب، لكن يختص بها ويتفرد فيها دون منازع، منبر إعلامي يدعى "شوف TV". يملك المنبر مراسلين في المغرب بأكمله، في المدن والقرى أيضاً، ويسبق حتى الشرطة أحياناً في الحضور إلى مسارح الجرائم. لا مانع لديه من إجراء حوار مع أي شخص، سواء كان امرأة، طفلاً، من ذوي الاحتياجات الخاصة أو حتى في حالة سكر، أهم شيء بالنسبة له هو عدد المشاهدات التي سيحققها الفيديو.
"شوف TV" حالياً هي القناة الإلكترونية الأولى بالمغرب، ويتجاوز عدد متابعيها 18 مليون متابع، ولا تزال تفاجئ الرأي العام المغربي يوماً بعد يوماً بنوعية القضايا التي تطرحها، بدءاً بتصوير لحظة اكتشاف زوجة لخيانة زوجها ببثّ حي ومباشر، ووصولاً إلى إرسال مصور ليتتبع خطوات صحفي آخر، ويصوره في لحظة خروجه من الحانة، كما حصل مع عمر الراضي وعماد استيتو.
ومساهمة منه في إغناء الجنس الصحفي الجديد الذي أسسه، بدأ صاحب القناة والمشرف عليها دريس شحتان (وهو بالمناسبة معتقل سابق، قضى محكومية بسبب نشره إشاعات عن صحة الملك محمد السادس، قبل أن يخرج من السجن بعفو ملكي) بنشر مقالات رأي يطلق عليها اسم "البوح"، يستهدف فيها بالأساس مجموعة من الصحفيين والمناضلين، وتختصّ في فضح حياتهم الخاصة والتشهير بهم بكل الطرق الممكنة.
لمدة طويلة ظل الصحفيون المهنيون ينتقدون هذا المنبر فيما بينهم وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تويتر وفيسبوك، لكن دون أن يعيروا الموضوع الاهتمام الكافي، وحتى مع ابتداء حملة التشهير بحق بعض الأشخاص، ظل الجسم الصحفي غير مهتم بما يفعله المنبر تحت قيادة المشرف عليه، باستثناء بيان وجهه بعض الصحفيين إلى السلطات العمومية والوزارة الوصية على قطاع الإعلام والاتصال و المجلس الوطني للصحافة، و الإطارات والهياكل النقابية الوطنية للصحافة والإعلام، من أجل الوقوف أمام الانتهاكات التي يقوم بها المنبر، لكن دون أي نتيجة تذكر.
حتى لو كان لصاحب القناة مشكل شخصي مع كريمة أو مع التوجه الذي تمثله، فما ذنب طفلها؟ وكيف تسمح الإدارة المغربية لنفسها بالتواطؤ مع هذا العبث، وتسريب وثيقة شخصية تخص طفلاً قاصراً، كل ذنبه هو أنه ولد في دولة لا يحترم البعض فيها خصوصيات الآخر ولا حميميته؟
الأسبوع الماضي، قرر صاحب القناة رفع سقف التحدي، وكلل مقالاته التشهيرية بـ "بوح" جديد، بطلته/ ضحيته هذه المرة، هي المناضلة والحقوقية كريمة نادر، رئيسة ائتلاف 490، خارجين عن القانون، والوجه المعروف بالدفاع عن حقوق المرأة والحريات.
كريمة نادر معروفة في الأوساط الحقوقية في المغرب، كأم عازبة تربي طفلها وتحاول توفير عيش كريم له، تقوم بدور الأم والأب معاً بكل فرح، وينعكس مجهودها إيجاباً على طفلها الذي يعرفه أصدقاؤها من خلال الصور التي تنشرها على صفحتها في فيسبوك. الكلّ يحترم كريمة، ولم يسبق لأحد أن تجرأ على حياتها الخاصة بهذا الشكل الوقح، إلى أن قرر "أبو وائل"، كما يلقب صاحب القناة نفسه، أن يجعل منها ومن طفلها موضوعاً لمقالاته.
فمنذ مدة دأب "أبو وائل" على حشر اسم كريمة في كتاباته، والتحدث عن علاقاتها الخاصة وحياتها بطريقة غير مباشرة، لكن قوبل ما يكتبه بالتجاهل، سواء من طرف كريمة نفسها أو من طرف الصحفيين والمناضلين، الذين رغم أنهم كانوا يبدون امتعاضهم لما يفعله، إلا أنهم كانوا متفقين على أن التجاهل هو الطريقة المناسبة للتعامل مع مثل هذا الانحطاط من ناحية، ومن ناحية أخرى، لأن جميع من كتب عنهم هم أشخاص راشدون يستطيعون الدفاع عن أنفسهم وطرق أبواب القضاء إن اقتضى الأمر.
لكن فعلته الأخيرة التي ذكر فيها طفل كريمة بالاسم واللقب، وتحدث فيها عن والده، وأرفقها بوثيقة رسمية تفترض فيها السرية، ولا تسلم إلا للأب أو الأم، لكنه مع ذلك حصل عليها من مكتب الحالة المدنية، كانت "القشة التي قسمت ظهر البعير"، ووضعتنا جميعاً أمام واقع يسائل إنسانيتنا وضمائرنا.
حتى لو كان لصاحب القناة مشكل شخصي مع كريمة أو مع التوجه الذي تمثله، فما ذنب طفلها؟ ماذا سيستفيد المنبر والمشرف عليه ومتابعوه من قراءة تفاصيل مشابهة؟ وكيف تسمح الإدارة المغربية لنفسها بالتواطؤ مع هذا العبث، وتسريب وثيقة شخصية تخص طفلاً قاصراً، كل ذنبه هو أنه ولد في دولة لا يحترم البعض فيها خصوصيات الآخر ولا حميميته؟ وألم يحن الوقت كي تتدخل المؤسسات المعنية، سواء بحماية الطفولة أو بحماية الحياة الخاصة، أو المشرفة على قطاع الاتصال، لإيقاف هذا التطاول؟
خرجت كريمة لاحقاً في فيديو عبر صفحتها في فيسبوك، تعلن فيه قرارها متابعة القناة وصاحبها قضائياً، وتخبر أصدقاءها أن المقال وصل إلى طفلها عبر الواتساب، وحمّلت المنصة والمشرف عليها مسؤولية الأضرار المعنوية والنفسية التي قد يتعرض لها.
على جميع المغاربة أن يفهموا أن طفل كريمة اليوم هو أطفالهم غداً، وأن السكوت عن المساس بصورة النساء والاعتداء على القاصرين من أجل التنكيل بمن نختلف معهم، هو مشاركة ضمنية في انهيار جميع منظومات القيم والأخلاق
وفي انتظار أن نرى ما ستتكلل به الدعوة القضائية التي سترفعها الأم ضد القناة، وما ستفعل الجهات المسؤولة والهيئات المختصة أمام هذا الانتهاك الخطير لحقوق الطفولة أولاً وللحياة الخاصة، على جميع المغاربة أن يفهموا أن طفل كريمة اليوم هو أطفالهم غداً، وأن السكوت عن المساس بصورة النساء والاعتداء على القاصرين من أجل التنكيل بمن نختلف معهم، هو مشاركة ضمنية في انهيار جميع منظومات القيم والأخلاق.
وإذا كانت كل الانتهاكات التي قام بها أبو وائل، في هذا المقال والمقالات السابقة، لأخلاقيات مهنة الصحافة وللقوانين المغربية، سواء منها القانون الجنائي أو قانون الصحافة والنشر، أو حتى للدستور المغربي الذي ينص على الحق في حماية الحياة الشخصية للأفراد، غير كافية كي تقوم وزارة الاتصال بأخذ الإجراءات اللازمة بحقه، فإن سيف التشهير سيظل مسلطاً على رقاب الجميع، وسيحل الإرهاب والخوف بدل الأمن والأمان اللذين من المفترض أن توفرهما دولة الحق والقانون لجميع مواطنيها، باختلاف توجهاتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...