يطلق الجندي المختبئ رصاصة قربه، متعمداً عدم إصابته، ثم يقول بصوت عالٍ: "كان بمقدوري أن أقتلك، ولكنني لا أستطيع تحمّل فكرة قتل إنسان". يجيبه: "يمكنك أن تخرج، فأنا أشاركك الفكرة ذاتها".
خرج الجندي وأخبره أن الرصاصة التي أطلقها كانت آخر رصاصة معه، وأنه ضد الحرب، لكنه دخلها رغماً عنه... ابتسم وقال له: "أنا لدي مخزن كامل في بندقيتي، ولكنني مثلك لا أريد القتل، ولم أرغب في خوض هذه الحرب".
الجندي الذي أطلق آخر رصاصة في بندقيته كان شاعراً يكتب قصيدة النثر، والجندي الذي يملك مخزناً كاملاً من الرصاص في بندقيته كان يكتب المسرحيات. تحدثا عن السينما والرواية والموسيقى والمسرح والشعر... كان رأيهما متقارباً في ما يخص الموسيقى، واختلفا قليلاً حول السينما والرواية، وحين وصل النقاش إلى المسرح والشعر دبّ الخلاف بينهما بشكل واضح، وظهر التطرف والانحياز وعدم قبول الآخر، وبدأت بينهما حرب لا تُسفَك فيها الدماء.
لحظة الصفر أعلنها "المسرحي" بقوله: لا بد أنك تتذكر جيداً الخلافات والانقسامات التي حدثت مع ظهور قصيدة النثر، وما قيل عنها من أنها دخيلة على الشعر، وتفتقر إلى الموسيقى والإيقاع والعمق في معالجة القضايا الإنسانية الكبرى، ولا يكتبها إلا الأشخاص الذين عجزوا عن كتابة الشعر وفق القوانين الأدبية المتفق عليها من قبل كبار الشعراء والنقاد...
سيهز "الشاعر" رأسه بمعنى أنه يتذكر، بينما يكمل المسرحي بنبرة المنتصر: بالطبع لم يتعرّض المسرح لذلك، ولا يمكن لأحد أن يوجّه له مثل هذه الاتهامات، فهو أبو الفنون، وفيه من السحر والعمق الكثير، كما أنه يعالج قضايا إنسانية كبرى، ويُعبّر عن ألم وهموم الناس المستضعفين والهامشيين في الحياة، ولا يمكن إنكار تأثيره على شعوب العالم في ما مضى حين لم يكن هنالك تلفاز ولا سينما، فالمسرح يملك تاريخاً عريقاً على كوكب الأرض... المسرح حرك الشعوب ضد حكامها الظالمين، المسرح...
"الخلاف في الرأي يفسد الود والمحبة وكل قضايا العالم طالما أني أمتلك بندقية، ومَن يمتلك بندقية لن يتسامح مع أعزل يخالف رأيه"
يقاطعه الشاعر: أحترم رأيك يا صديقي، ولكنني لا أتفق معه، صحيحٌ أن المسرح كان له أثر وأهمية في الماضي، ولكن هذا كان في الماضي، أما الآن فلم يعد له هذا الحضور القوي، ولا ذاك التأثير على الناس، ولا يمكنه أن يحرك شيئاً باستثناء الستارة على خشبته... فهناك الكثير من البدائل البصرية التي حلت محله وجذبت الأنظار وغيّرت وأثّرت في عقول الناس... المسرح الآن هو أشبه بالقطار البخاري، أو بالموقع الأثري، يمكن أن تذهب لمشاهدته من باب الفضول والتسلية لمرة واحدة أو مرتين لا أكثر... أنا على سبيل المثال بعد أن قرأت الشعر والقصة والرواية قلت لا بأس أن أقرأ المسرح، ولم أحبّه كجنس أدبي، وأيضاً القصة القصيرة لم أحبها...
يتناول المسرحي بندقيته المركونة على الجدار ويضعها في حضنه ويمرر يده عليها ببطء ثم يقاطعه: إنْ كنت لا تحب المسرح والقصة القصيرة فهذا لا يعني أن تنكر أهميتهما وأثرهما عبر السنين... يبدو أن خلافنا جوهري في ما يخص قصيدة النثر والمسرح، ولكن الجميل بهذا الخلاف أنه لا يحتاج إلى بنادق كي يتم حله، وليس من الضروري أن يكون رأينا متشابهاً، يكفي فقط أن يقبل كل منّا رأي الآخر... أليس كذلك؟
"صحيح أن الحروب نشأت بسب خلاف بالرأي ولكن في نفس الوقت البشرية تطورت بسبب ذلك أيضاً"
يوافق الشاعر بهز رأسه لأنه أحس بتهديد مبطّن في كلامه، بينما يكمل المسرحي حديثه: إنّ قصيدة النثر ليست عريقة، وهي ابنة مشوّهه للشعر، فالشعر في ما مضى كان يحمل المعرفة، ويطرح قضايا وجودية وفلسفية تفتقر لها قصيدة النثر التي تتصف بالسهولة والوضوح والاهتمام بهوامش الحياة أكثر الأحيان، بينما المسرح لا زال محافظاً على عراقته وأصالته رغم أنه مضت سنوات طويلة على ظهوره مقارنةً بقصيدة النثر الغضة الهشة. أليس كذلك؟ ألا ترى أن رأيي منطقي ومصيب؟
ينظر الشاعر إلى البندقية التي في حضن المسرحي. يعلم أن فيها من الرصاص ما يكفي لقتله عشرات المرات، وأن كلامه فيه نوع من التهديد المبطن. رغم ذلك، وبلهجة فيها تحبّب يقول: يا صديقي، ما تقوله بخصوص المسرح صحيح، ولكن ليس في هذه المرحلة. فلو ألغينا التجنيس الأدبي، برأيي لن يكون هناك مسرح ولا سينما ولا رواية ولا قصة قصيرة، لن يكون هناك إلا الشعر، فالشعر هو الجمال والدهشة التي نشعر بهما في السينما، والموسيقى، والرقص، والحب، وفي حياتنا حين نراقب حركة الكواكب في المجرة عبر التلسكوب، وحين تغني أمي العجوز "بإيدي بإيدي يا شوك الدار كله لمّيتو بإيدي، وما نِلت غير الشقى والتعب". حتى في كرة القدم مارادونا كتب الشعر بمهاراته وأهدافه... الشعر هو الجمال أينما وجدناه... وبناءً عليه، يا صديقي، أنا أعترف بأن المسرح كان في ما مضى جزءاً من هذا الجمال، ولكن الآن لم يعد يحقق تلك الدهشة كما في السابق إلا في حالات نادرة جداً. هذا رأيي ومن حقك ألّا تتفق معه.
يغضب المسرحي من هذا الرأي الذي لم يسمعه من قبل، ويعتبره هراءً، ويرد بكلام مستفز، فيحتد النقاش بينهما ويعلو صوتهما ويقاطع كل منهما الآخر، وفي لحظة انفعال يوجه المسرحي بندقيته نحو الشاعر، فيخفض ذلك الأخير نبرة صوته، ويقول: لا بأس لا بأس يا صديقي... اهدأ، لا يستحق الأمر أن تصوّب سلاحك نحوي، كل ما بيننا هو مجرد خلاف في الرأي ووجهات النظر حول قضية ثقافية، وأعتذر لأنني انفعلت.
يقاطعه المسرحي غاضباً: مجرد خلاف؟! مجرد خلاف في الرأي ووجهات النظر؟! قابيل قتل هابيل بسبب الخلاف في الرأي ووجهات النظر، والكثير من الحروب، إنْ لم تكن كلها، حدثت بسبب خلافات في الرأي ووجهات النظر، حتى العشاق يفرقهم الخلاف في الرأي ووجهات النظر... حين لا أستطيع إقناع الآخر برأي أشعر أنني هُزمت والرأي الآخر سيجعلني أعيد التفكير بالكثير من الأمور التي كانت حقائق غير قابلة للشك بالنسبة إلي، وهذا يقلقني ويخيفني... وأنت ببساطة تقول: مجرد خلاف في الرأي ووجهات النظر!
يرد الشاعر بخوف: ولكن يا صديقي، أنا لا أفرض عليك رأيي. أنا فقط أقوله، وأنت حرّ بأن تقبله أو ترفضه. هنالك الكثير من الحوارات والندوات الثقافية التي شهدت خلافات عميقة حول قضايا ثقافية، وكل طرف احترم رأي الآخر رغم أنه لا يتفق معه. اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. صحيح أن الحروب نشأت بسب خلاف بالرأي ولكن في نفس الوقت البشرية تطورت بسبب ذلك أيضاً.
يرد المسرحي: أنت مخطئ. الخلاف في الرأي يفسد الود والمحبة وكل قضايا العالم طالما أني أمتلك بندقية، ومَن يمتلك بندقية لن يتسامح مع أعزل يخالف رأيه.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.