"يتصل بي زوجي ليخبرني برغبته في الاحتفال وقضاء ليلة جميلة بمناسبة مرور ثماني سنوات على زواجنا، لم أبالغ حين أقول إنني لم أتذكر أصلاً عن أي زواج يتحدث وأي مناسبة"، تقول لينا إبراهيم (33 عاماً)، من غزة، متزوجة وأم لثلاثة أطفال.
ردت لينا على زوجها مازحة: "أنا لا أذكر شيء وبالكاد أعرف اسمي"، وأقفلت المكالمة.
"انقطعت علاقتي بالناس"
في بيت صغير لا تتجاوز مساحته الـ 30 متراً، تعيش لينا يومها، ما بين مأكل ومشرب ونوم واستقبال ضيوف… حتى الحمام يغيب عنه النور، وكذلك خصوصية العائلة بأكملها.
تكمل لينا: "كالعادة رفضت الاحتفال بهذه المناسبة كباقي المناسبات، سواء العامة أو الشخصية. الأمر لا يقف على كونه احتفالاً بسيطاً ويمر، لكنه كافٍ لأن يفتح أبواب مأساتي كلها منذ أن تزوجت قبل 10 أعوام حتى الآن، لأنه لم يتغير شيء وأنا بين جدران هذه (الخمّ)".
"لا أحد يشعر بمعاناة امرأة تعيش في غرفة تفتقد كل مقومات الحياة الأسرية الخاصة ومشاركة اللعب واللهو مع أطفالي، كذلك الحياة المجتمعية، فجميع علاقاتي بالبشر انقطعت، لأني لا أستقبل ضيوفاً في منزلي: أين سيجلسون وكيف؟ وأكتفي بعيش معركتي الداخلية مع نفسي دون مشاركة أحد".
"عشت طفولتي في قلق وخوف وشعور بالذنب لأني كنت أنام مع والديّ في زاوية صغيرة بالمنزل، ورأيتهما يمارسان الحميمية بدون قصد مني"
لا تعتقد لينا أنها تعيش حالة طبيعية في ظل واقع غير طبيعي لا يسمح لها سوى ممارسة متطلباتها الأساسية من مأكل ومشرب، يقولون لها يكفي أن تعيشي مستورة بين الجدران بدلاً من أن تتشردي في الشارع. أي شكوى أكثر من ذلك يعتبرها الناس، العائلة وأصدقاؤها، نوعاً من التذمر المفرط من حياتها الزوجية.
ترى لينا أن غياب مساحتها الشخصية بشكل كلي، يخلق لديها مشاكل نفسية وزوجية وأسرية، فهي دائماً وباستمرار تشعر كأنها لص، تخفي كل ما هو متعلق بأغراضها الشخصية في "صرّة صغيرة"، تقذفها عادة بعيداً عن أعين أطفالها، كذلك تواجه تحدياً كبيراً في ممارسة أي علاقة حميمية مع زوجها تحسباً لملاحظات الصغار، فهي تدرك تماماً أن الإدراك والفضول للطفل في هذا السن شديد، فتبقى في صراع داخلي وخارجي، هذا ما صنع فجوة كبيرة بينها وبين زوجها.
"أسكن في زنزانة"
كشفت ورقة بحثية عن واقع الحق في السكن في قطاع غزة في ظل استهداف المساكن، واستمرار القيود المفروضة على إعادة الإعمار، أن قطاع غزة يعاني من أزمة سكن متفاقمة، في ظل ازدياد الكثافة السكانية وانخفاض عدد المساكن، حيث تبلغ الحاجة السنوية من المساكن لمقابلة الزيادة السكانية الطبيعية حوالي 14 ألف وحدة سكنية، وتتفاقم أزمة السكن في ظل الأزمات التي تعصف بقطاع غزة، جراء الحصار الذي تفرضه قوات الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، وزيادة مشكلة الفقر إلى ما نسبته 53%، وارتفاع البطالة بنسبة 52%.
مخاوف لينا على أطفالها عاشتها الفتاة سوسن، اسم مستعار (28 عاماً)، فشكّل لديها الأمر أزمة نفسية لا زالت تعيش تداعياتها حتى الآن، منذ أن كان عمرها 9 سنوات، إذ إنها ترفض فكرة الزواج والعيش في منزل يفتقد لمتطلبات الحياة الكريمة، سواء على صعيد السكن أو العلاقة الأسرية والخصوصية، لا سيّما أنها كانت تفتقدها في منزل عائلتها.
تقول سوسن: "كنت أعيش في منزل صغير لا تتجاوز مساحته 70 متراً. نحن خمسة أفراد، أنا وأمي وأبي وأشقائي الصبيان، وبالطبع كوني الفتاة الوحيدة بينهم كانت أمي شديدة الحرص علي. تمنعني أحياناً من الضحك بصوت مرتفع حتى لا يسمع صوتي الجيران، نظراً لضيق مساحة المنزل، وتلزمني بارتداء ملابس محتشمة داخل المنزل الشبيه بزنزانة، تفصل أجزاءها قطع قماش الستائر. بعض الملابس لم تكن تروق لها لأنها لا تجوز أمام أشقائي، فجسد المرأة كله عورة".
"تذكرت أمي كل هذه التفاصيل لكنها تغافلت عن أهم تفصيل هو الأكثر خصوصية، وهي أني كنت أنام برفقتها هي وأبي، في زاويتهم الصغيرة، فلا يسعني قول إنها كانت غرفة، لكن ما فاجأني مشاهدتي العلاقة الحميمة بينهم دون قصد".
كان ذلك المشهد كافياً لتكمل سوسن حياتها كلها في قلق ورعب كبيرين، خوفاً أن تكون والدتها قد لاحظت، رغم أن الأمر ليس ذنبها. ومنذ تلك اللحظة بدأت فكرة تكوين عائلة بالنسبة لها أمراً مرعباً، تحسباً لأن يعيش أولادها نفس التجربة، طالما أن أغلب العرسان اللذين تقدموا لها لا يملكون سوى "زنازين" صغيرة للسكن، وفق وصفها.
الأطفال والخصوصية
الأخصائية النفسية والمجتمعية نيفين حسونة، تعلق لرصيف22 أن البيئة تسهم في تكوين شخصية الأبناء، بما يؤثر على المجتمع ككل. لاسيما فيما يخص عامل الخصوصية الذي يظل مؤثراً ويترك انطباعات نفسية مختلفة على الفرد، وبكل أسف هنالك أسر تتغاضى عن هذه القضية لعدم وجود وعي عند الوالدين.
تضيف حسونة: "الطفل يبدأ بالفطرة منذ صغره بالتعبير عن رغبته في احترام خصوصيته، إذ قد يرفض طفل لا يزيد عمره على تسع سنوات، دخول أمه الحمّام أثناء استحمامه، أو دخولها غرفته أثناء تغيير ملابسه، تزداد هذه الرغبة في سن المراهقة، وقد يذهب إلى حد بعيد للحفاظ عليها ويبدأ بالانفصال عن والديه".
"في الكثير من الأحيان، تسكن عائلات كاملة في أماكن محدودة، كما يلاحظ في قطاع غزة الذي يتميز بكثافة سكانه مقارنة مع مساحته، ما يُفقد الطفل والأهل كل معايير الخصوصية بأشكالها المتعددة"، تقول حسونة.
وأشارت حسونة إلى أن مسألة الخصوصية لها أبعاد كبيرة، الطفل الذي يشعر بفقدان الخصوصية في المنزل والتي تتعلق بوالديه، كرؤيتهما في علاقة حميمية، أو مشاهدة شقيقاته أو والدته بملابس غير ملائمة، بدوره يخلق لديه أفكاراً سلبية، ويمنعه من التطور النفسي السليم وتنمية هويته الذاتية، فتتكون لديه خبرات صادمة.
تتابع حسونة لرصيف22: "هنا يبدأ الحس الإدراكي بشكل سلبي قد يدفعه في معظم الأحيان للتقليد أو التحرش بالآخرين، أو قد يتم التحرش به ويظل صامتاً، وقد يخلق لديه شخصية مهزوزة ومتوترة طيلة عمره".
"الطفل الذي يشعر بفقدان الخصوصية في المنزل والتي تتعلق بوالديه، كرؤيتهما في علاقة حميمية، بدوره يخلق لديه أفكاراً سلبية، ويمنعه من التطور النفسي السليم وتنمية هويته الذاتية"
لا يبدو الأمر في مخيم الشاطئ الذي تسكنه لينا، بعيداً كل البعد عن مخيم البريج وسط قطاع غزة، حيث تعيش هديل حسن (28 عاماً)، في غرفة صغيرة، تضم غرفة نوم ومطبخاً وحماماً، على سطح أحد المنازل، بناتها خمسة أكبرهن 14 عاماً، وطفل صغير 3 سنوات.
مشهد المنزل كاف لوصف معاناة هديل.
لم ترو هديل الكثير عن تفاصيل حياتها، لكنها اكتفت بالقول إن مشهد المنزل كاف لوصف معاناتها. كانت هديل تجلس بغطاء رأس وعباءة، هكذا تقضي وقتها بالغرفة دون أن تمارس أبسط حقوقها حتى في اختيار لباسها ولباس بناتها.
تقول هديل لرصيف22: "بغض النظر عن منظر المنزل، أنا لا أستقبل ضيوفاً، وأعيش بمفردي مع عائلتي تقريباً، علاقاتي مقطوعة عن الجميع بسبب ظروف سكني".
"تظل هنالك مساحة مفقودة، وهي الخصوصية لكل امرأة وفتاة في سن بناتي، حتى أنه لا يوجد مكان يمارسهن فيه حقهن الطبيعي، هنالك توتر شديد بالمنزل ومراقبة عامة. فمثلاً لا تستطيع إحداهن الذهاب للحمام إلا بعد خروج والدها من المنزل، وطيلة الوقت زوجي مغادر حتى يوفر لهن مساحة كافية، إضافة إلى أن علاقتي به صارت مثل الأخوة في المنزل، منذ كبرت الفتيات".
حاولت هديل تقديم طلب لوزارة الإسكان لمساعدتها في بناء منزل، لعدم توافر مقدرة مادية، فوضعتهم الوزارة في قائمة الانتظار، تقول: "كالمعتاد، حياتنا في غزة كلها انتظار".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون