عادة ما يكون ردّ الفعل الأوّل تجاه ما هو Cute أو "كربوج" التالي: "أوووووو"، تأوّه يختزل الكلمات، فلا "لغة" تولد بداية، بل صوت ممتد يرافقه ودٌّ ورغبة بالاحتضان. نفضل استخدام الكلمة بالإنكليزية، لغياب ما هو قرين لها باللغة العربية، لكن الأهم، أنه بعد التأوّه ينطقُ البعض العبارة الشهيرة: " كم هو كيوت، أود التهامه!" أو "أودّ أكله!".
التأمّل في العبارة السابقة يحيلنا إلى التناقضات في مفهوم الكيوت، فما يبدأ كرغبة باللمس والتحبب ينتهي بما هو غروتيسك، الالتهام والتجزيء والتقطيع، هذه الرغبة في لمس مع ما هو كيوت محاطة بحذر جسدي دائم، كونه شديد الهشاشة والضعف، مع ذلك يحرك فينا الرغبة بتطبيق العنف المباشر عليه، ضمّه بقوة أو عصره باليد أو عضه.
يتميّز الكيوت بلا جديته، سواء كان غرضاً أو شخصاً أو قطة صغيرة، وعادة ما نستخدم التصغير اللغوي لإضفاء صفة الكيوت على شيء ما وإبراز ضعفه. التصغير هنا عاطفي، لا يرتبط بالتقعيد اللغوي، كـ"كليب" و"زبورة"، فوصف كيوت يختزل الخصائص التي يمتلكها الموضوع، ويبرز الضعف وعدم قدرة على الفعل، في ذات الوقت تشير هذه الصفة إلى العنف الخفي الذي من الممكن أن يتلقاه من الآخر، ذاك الذي لا يتم الوصول إليه مباشرة، كونه لاحقاً على الإحساس بالتعاطف، إذ ينقضي الأمر عادة حين مشاهدة ما هو كيوت برد فعل مؤقت، لمسه ثم تمنّي التهامه.
تحمل كلمة cute الانكليزية الأصل دلالات متناقضة لما هو "ذكي" و"مخادع" في آن معاً، وكأنه يثير التعاطف وينبه الحذر، كالقطة التي ما إن نراها كيوت حتى تبدأ بالخرمشة
تعود كلمة Cute بالإنكليزية إلى منتصف القرن الثامن عشر، وكانت تستخدم لوصف الأطفال، النساء وبعض "الاستعراضات النسائية"، لكن مع صعود ثقافة الكيوت، أصبح الأكيد أنها ليست حكراً على "النساء"، ويقال أيضاً إن الأصل الإنكليزي هو تبسيط لكلمة acute، التي تحمل معنى مزدوجاً، "الذكي" و"المخادع"، وكأن الكيوت يثير العواطف وفي ذات الوقت يترك المشاهد حذراً مما قد يحصل، كالطفل الرضيع الذي يكون كيوت ثم يتقيأ، أو القطة التي تكون كيوت بداية ثم تقوم بالخرمشة.
"الكيوت" صفة جوهرية: الخريطة النازية للأطفال الجميلين
افترض تشارلز داروين أن المولودين الجدد، سواء كانوا بشراً أو حيوانات، يُفعّلون حين النظر إليهم خاصية تطورية تجعل البالغين يحنون عليهم، بسبب ضعفهم وهشاشتهم الجسدية، إذ يستثيرون في داخلنا مشاعر الحنان والرغبة بالاحتضان، بكلمات أخرى، يفعّلون رد فعل أبوي أو أمومي.
طور هذه الفرضية لاحقاً عالم الحيوانات النازي، كونراد لورينز، عام1943، وأنتج ما يسمى "مخطط الطفولة"، وهي مجموعة من الخصائص الشكلية والحركية التي تجعل الأطفال يولّدون رد الفعل الكيوت لدى الكبار، ولخصها بالتالي: "رأس أكبر من الجسد نسبياً، أعين كبيرة ومبطنة، وجنتان ممتلئتان، أطراف سميكة وقصيرة، حركات خرقاء وكتلة شبه مطاطة".
هذه الخصائص تحرك لدى البالغين الرغبة بالعناية والاهتمام بما هو كيوت، والأهم أنها مشتركة لدى جميع البالغين، بشراً كانوا أم حيوانات، ويمكن توليد رد الفعل هذا في أي وقت في حال تمكنّا من إنتاج هذه الخصائص، التي تُعتبر جذر أي رد فعل عاطفي، كونها جزءاً من "خريطة الغريزة" الثابتة لدى كلّ المخلوقات.
هذه النظرية لم تُثبت حتى الآن، بصورة أدق، لم تُنتقد كلياً، وما زالت مستخدمة بالرغم من عدم شمولها، فمثلاً، يمكن للنمور البالغة أن تصبح كيوت، تنكر من نوع ما يرتديه البالغ يمكن أن يجعله كيوت، وينسحب الأمر على حقيبة يد أو سيارة أو قلم.
المقاربة السابقة تنفي القوة الثقافية التي يمكن أن تُولد الكيوت، كونها قائمة على تصنيف "علمي" دقيق، ما يعني أن هناك أطفالاً ليسوا "كيوت" ولا يستحقون العناية، كما أنها تجعل من رد الفعل العنيف أو الغروتيسك، مجرد آلية تطورية لا واعية، تتفعّل في سبيل العناية بـ"الأجمل" وإهمال الأقل جمالاً، بوصفه لا يمتلك فرصة بالنجاة.
هناك مقاربة أخرى لفهم تناقضات الكيوت، ثقافية أكثر منها تطورية، ترى أن الكيوت يروّج أولاً للسعادة، ثم يستدعي العجز وعدم القدرة على الفعل، وبما أن هذه الصفة ليست "جوهرية"، فهي تشويه من نوع ما، فلا شيء "يولد" كيوت، ما يعني أن الأمر عملية عنف نمارسها على الموضوع في سبيل إسعادنا بهشاشته. هي ممارسة سادية، حسب تعبير دانيل هاريس، الباحث في شؤون ‘الكربجة‘، ممارسة نُخضِعُ لها الموضوع في سبيل خلق التعاطف وتحريك رد الفعل الجسدي التعاطفي تجاه الكيوت، فنحن من نلبس الأطفال بشكل محدد لاستعراضهم علناً، وكأنهم "أغراض" نشكّلها حسبما نريد.
يرتبط الكيوت أيضاً بالتدجين والقدرة على فرض القوة على ما هو برّي أو عنيف أو "طبيعي"، في سبيل جعله ملائماً للحياة اليومية، ولا نتحدث فقط عن القطط، بل يشمل الأمر الحيوانات الكبرى أيضاً، أسوداً، نموراً.. لكن هذا العنف التدجيني والرغبة بتكوين الموضوع قد يصل حدود الغروتيسك المتخيلة، كما في بعض الصور المسرّبة من سجن أبو غريب في العراق، إذ نرى الجندية الأمريكية Lynndie England، تجرّ أحد المعتقلين ككلب مروّض، تستعرضه ثم تعذبه، في تحقيق للرغبة الخفية التي يحركها الكيوت، وهي انتهاك الهشاشة وتعنيف الموضوع الأضعف، ليس فقط عبر "تدجينه" بل أيضاً عبر تهديد لحمه وشكله المتماسك.
كأن الكيوت يخفي الأذية، سواء كانت من الخارج أو الداخل، هناك "خداع" ما، كون الكيوت يولّد ردّي فعل متناقضين، اللطف ثم العنف الذي ينتظر التحرر، لا ندري مصدر هذه الرغبة بالالتهام والتمزيق، لكن نعلم أنها تراود البعض، وهي ذاتها التي قد تدفعنا لتمزيق دبّ محشو، أو كما يفعل بعض الأطفال الأشقياء، تعذيب القطط وتشويهها بعد مداعبتها.
هذه النزعة للتحويل إلى كيوت نراها في ممارسات يومية تبدو بريئة، طفلة محجّبة بعمر الـ4 سنوات، تقرأ من القرآن، صور كثيرة من هذ النوع تتبادل يومياً، يتحول فيها "الطفل" إلى موضوعة للعنف الديني ومادة استعراضيّة في سبيل كسب التعاطف والود، وتوظيف الإحساس بالبراءة التي تحويها "الصورة"، لتحويل الأيديولوجيا إلى زينة تستثير التأوهات والرغبة بالضم والتقبيل.
أبدية الطفولة المعدية
خلقت شروط العمل والحياة في الألفية الجديدة حنيناً إلى الطفولة تمثل بما هو "كيوت" رغبةً بالتخلص من سلطة الرقابة الاجتماعية وبتبني عدم الوعي بالذات الذي يتمتع به الأطفال والحيوانات الصغير، والحصول على متعة التخلص من المسؤولية، وراحة الانحلال من الدور القاسي المرتبط بالبالغين وأساليب تقديمهم لأنفسهم بجدية
ما هو كيوت يعتمد على عدوى التعاطف، أي أننا نريد مشابهته بمجرد رؤيته، وكأننا نتماهى معه للحظات، لكن في حالتنا هذه، هناك ما هو لاحق على الاستلطاف، ألا وهو الرغبة بالانتقام، القضاء على الموضوع الكيوت لعجزنا عن التطابق معه، أو التهامه، كما تقول العبارة الشهيرة، في سبيل جعله جزءاً "جوهرياً" منّا، هذا يعيدنا إلى أساطير الشباب الأبدي، ذاك الذي يتحقق بالتهام الأطفال الرضّع أو شرب دمائهم.
فعّلت الألفية الجديدة الحنين إلى الطفولة الذي يتجلى في ثقافة الكيوت، والتي أخذت أشكالاً رمزية متعددة، تطبيقات الصور تحوي مؤثرات تكسب الوجه خصائص طفولية تتطابق مع مخطط لورينز: الأعين الكبيرة، الوجنتان الممتلئتان الحمراوان والجلد الأملس. مثال آخر هو قيام البعض بالحديث بصوت طفولي، بأسلوب يثير الأعصاب ويحرك الرغبة باللكم، دون القدرة على القيام بذلك طبعاً، فمن غير الممكن لأحدهم أن يملأ وجهاً "شبه طفل" بقبضته.
السبب وراء هذا الحنين هو شروط العمل والحياة في الألفية الجديدة، فتقنيات الاستلاب تُمارس على الأفراد في أدق تفاصيل حياتهم، والرقابة الهائلة، سواء كانت اجتماعية أو سلطوية، لا يمكن الفرار منها، ما يحرّك الحنين إلى الطفولة الذي يتجلى بالكيوت، كونه يعكس رغبةً بتبني عدم الوعي بالذات الذي يتمتع به الأطفال والحيوانات الصغيرة.
يراهن هذا الحنين أيضاً على متعة التخلص من المسؤولية، وراحة الانحلال من الدور القاسي المرتبط بالبالغين وأساليب تقديمهم لأنفسهم بجدية، هو تحرر من الرقابة الاجتماعية والسطوة المرتبطة بها، تلك التي نضبط إثرها سلوكنا، ونحرص بسببها على عدم السهو أو نسيان أنفسنا.
"الكيوتنس" هنا خيار تمثيل جمالي aesthetic representation ، أي أسلوب لتقديم ذاتنا علناً بصورة مختلفة عن تلك المفترضة، وكأننا في عالم ما بعد القيمة، أو ما بعد البلوغ، فتراكم المسؤوليات حرمنا من لحظات الطيش واللا جدوى، ليظهر التمثيل الجمالي الكيوت كمهرب من "الخارج" وقوانينه، في ذات الوقت هو دعوة عامة للتعاطف وإبراز للضعف، خصوصاً حين لا يكون في سياق حميمي بل بين "البالغين" المسؤولين عن كلماتهم وأفعالهم، هذا الحنين يتجلى في حالة الفتاة التي تعيش حياتها البالغة كطفلة تحتاج لرعاية دائمة، إرضاع، تغيير حفاضات، أغنية ما قبل النوم.
يظهر الحنين الطفولي في الدور الذكوري أيضاً، فالطيش والتحامق يثيران التعاطف والرغبة بالمساعدة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بأذى جسدي، وكأن العطب الذي يصيب أحدهم نتيجة إصابة طائشة ما، ليس إلا نتيجة لعجز أعمق، سببه عدم بلوغ، أو "كيوتنس" من نوع ما، أدى إلى الإصابة، هذه المقاربة تظهر في الشخصيات الكوميدية بصورة واضحة، الممثل السوري محمد خير الجراح، يؤدّي شخصية "أبو بدر" في مسلسل باب الحارة، الشخصية التي تمتلك صوتاً طفولياً وتحاول أن تلعب دور "الرجال"، لكنها تفشل دوماً، الأهم أن أبو بدر يتعرض للتعنيف الجسديّ من قبل زوجته ومن هم حوله من "رجال"، هو يستفز عنفاً لدى من حوله بسبب طيشه ومحاولته العيش في زمن طفولي نوستالجي لا ينتمي إلى "مسؤوليات" الآن، وحتى حين نتعاطف مع إصابته، فالأمر يعود لخاصية فيه لا لما قام به.
تكمن تراجيدية ما هو "كيوت" cute، في توازي التعاطف والحب مع العنف، ألم يتسبب جمال النبي يوسف بمآسيه؟
تظهر "الكيوتنس" كصفة تراجيدية، يتوازى فيها "التعاطف والحب" مع "العنف"، ويمكن هنا تأويل حكاية النبي يوسف بشكل آخر، ألم يتسبب جماله بمآسيه، هناك دوماً إعجاب به يليه عنف شديد، إذ رمي في البئر، واتهم الذئب بأنه أكله -مصادفة عبثية عن الالتهام-، ثم قطّعت النساء أصابعهن لأجله، ثم راودته زوجة العزيز عن نفسها وتسببت بسجنه، بالتالي، ما هو هذا "الجمال" أو "الصفات" التي جعلته محبوباً حد القتل والرغبة بأن يُبتلع.
تماهي الحدود بين الطفولة والبلوغ، يتضح أكثر في سياق الفانتازمات الجنسية، "راقصة البالية" و"المشجعة" و"تقليد القطة"، كلها عناوين منتشرة في المواقع الإباحية، تثير الرغبة بعنف الإيلاج، انتهاك الهشاشة والضعف الظاهري لجسد المؤدية الكيوت وتفعيل ممارسة جنسيّة بديلة عن الالتهام، يختلط فيها العنف مع الشهوة.
الهيمنة "الكيوت"
تستخدم ماكينات المقامرة المنتشرة على الإنترنيت وفي بعض العواصم الأوروبية رموزاً "كيوت"، كالإيموجي التي نستخدمها في وسائل التواصل الاجتماعي لتثير رغبة المارة والمتصفحين في اللعب، وإغرائهم باللاجدية واللطف، أيضاً تقوم الشركات الكبرى بتقديم ألعاب محشوة و كؤوس "كيوت" لموظفيها، لخلق جو من "الألفة"، وإخفاء الاستغلال وساعات العمل الطويلة، عبر مكافئة من هذا النوع، كل هذا ليس إلا توظيف سطحي للـ"كيوت" كأداة دعائية للمؤسسة، لكن السلطة نفسها قد توظف جماليات "الكيوت" لتقديم ذاتها بصورة مختلفة، وهذا ما نراه بوضح في اليابان، فهناك حيوانات محشوّة تمثل كل مدينة، وبعضهم يلعب دور الـ"شرطة" الذين نضحك على فيديوهاتهم وأسلوب تصرفهم، ونرغب بلمسهم والتصور معهم، كـ"بيبو كون"، شرطي طوكيو الشهير، لكن نهاية، وبالرغم من أنه دبّ محشوّ تحته رجل، بيبو كون ينتمي إلى جهاز الشرطة المسؤول عن الحفاظ على النظام العام واصطياد مخالفيه، فالكيوت هنا أسلوب جمالي توظفه السلطة للاختلاف عن الشكل الجدي الذي تتبنّاه، وتقديم صورة تثير التعاطف والرغبة بـ"الاحتضان"، بعيداً عن هالة الرعب التي تبثها الشرطة المسؤولة عن ضبط حياة المواطنين.
تعيد السلطة ترتيب مكوناتها بأسلوب كيوت، لتثير استعطاف مواطنيها، إذ تستفيد من شعور العطف و"الأمومة" الذي يولده ما هو كيوت لتقترب أكثر من موضوعاتها، إذ تستدعي الهشاشة والعجز لاستثارة عدوى التعاطف، وهذا ما نراه في الصور الكيوت لأسماء الأسد وبشار الأسد، وهما يساعدان أحد جرحى الجيش النظامي، صورة تثير التأوه، رأس الهرم يساعد أصغر مرؤوسيه في لحظة ضعفه، بل وكأنه يعينه على الوقوف، دفقة من التعاطف والحنان، يختفي وراءها عنف يرتبط بموقف الاثنين، و هنا تظهر استفادة السلطة من مفهوم "الضعف"، إذ تراهن ماكينة البروباغاندا على رد فعلنا "التطوري" حول الأضعف ،كونه أسبق على ذاك الواعي والسياسي، خصوصاً أن رد الفعل تجاه الكيوت أساسه جسدي، تحركه هشاشة اللحم البشري في حالات ضعفه، وهكذا تظهر ازدواجيّة الكيوت مرة أخرى، هو مخادع وماكر وفي ذات الوقت يطلب الحنان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...