شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
مغامرة الفشل... عن السقوط والسقوط ثم السقوط مجدداً

مغامرة الفشل... عن السقوط والسقوط ثم السقوط مجدداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 4 أكتوبر 202005:22 م

عام 1980، سجّل الفنان الأمريكي بول كوس، فيديو لنفسه وهو يرتدي ثياباً عادية وخفين مطاطين، وأمامه منحدر معدني، وعلى طول الفيديو نشاهده يحاول التسلق للأعلى، أي قمة المنحدر المعدني، ليسقط بعد عدة خطوات، يستمر الأمر كذلك لمدة غير محددة، مع محاولات كوس التشبث والحفاظ على مكانه. لانهائية الفيديو تأتي من كونه عُرض في صالة فنية لا في سينما، أي لا علامات على بدايته أو نهايته، ويمكن أن يتكرر إلى الأبد، هو مستمر طالما نشاهد كوس يتسلق ثم يسقط، وهكذا دواليك.

التكرار السيزيفي للسقوط

أول ما يخطر على البال حين مشاهدة هذا الفيديو هو سيزيف، ذاك التيتان الذي عوقب بأن يحمل صخرة إلى قمة الجبل لتتدحرج ساقطة من جديد. يدّعي ألبير كامو أن سيزيف كان سعيداً، وكأن التكرار هنا جزء من إيقاع لا يمكن التحكم به، ولا بد من تجاوزه للنظر من أعلى الجبل، لا التركيز فقط على التكرار نفسه. بصورة أدق، كسر علاقة التحديث مع الصخرة، محرك الحكاية، التي بدونها لا عقوبة أبدية، لكن الاختلاف أن كوس يتسلق بنفسه، يسقط بجسده ويفشل، يختبر حدود "مهارته" و"لياقته" إلى ما لانهاية، بسبب طبيعة المنحدر نفسه الذي يستحيل تسلقه إلى الأعلى.

يسقط كوس بسبب وزنه، تصميمه البشري وكتلته العضلية التي تمنع إتمام التسلق، وكأنه وجد نفسه أمام هذا المنحدر المعدني الصناعي دون أن يمتلك "الطاقة" الكافية لتجاوزه. هو رجل في مجتمع حداثي، لا يمتلك الطاقة والقدرة على مواجهة هذه العقبة المبتذلة، وكأنه محكوم بالفشل ضمن مواجهة تستنزف طاقته دون أي مهارة مكتسبة من السقوط، بعكس الرياضي وفنان الأداء. ما يختزنه جسد كوس بعد كل محاولة، هو الألم الجسدي والحس بالإحباط والعجز.

ماذا يعني أن تكون وحيداً وتسقط وحيداً دون أن يراك أحد، مراراً في تكرار عبثي؟ وهل يجعل منك هذا السقوط اللامتناهي مجرد أخرق آخر يحاول أن يتخطّى "المستحيل"، أم يتكشف عن أمل زائف بالنجاح؟

التكرار هنا قدري نوعاً ما، وهنا نستعيد سبب عرض الفيديو في صالة لا في سينما، لا علامات على البداية أو النهاية، بل تكرار دائم. نحن فقط من نقرر الرحيل والتوقف عن المشاهدة. لكن، ما هي فعالية كوس لحظة هذه الدورة العدمية؟ كوس لا يكتسب أي خبرة أو مهارة جسدية يمكن استخدامها لاحقاً، بل ومن وجهة نظر سياسو- حيوية، هو يهدر "طاقته"، هو ينفي عن نفسه احتمالات العمل ويراهن على التكرار غير المنتج، يهدد القيمة التي يمتلكها كيد عاملة.

صحيح أن بول "ينتج" عملاً فنياً، لكن هذا العمل لا يمكن بيعه أو امتلاكه. هو لا يتمرن، بل يحتج عبر جسده ذاته، مهدور الطاقة والمهدد بالوقوع والإصابة. وهو بهذا لا يعملنا أي مهارة لتجاوز "العقبات"، ولا يحاول تطوير أداة أو خدعة للوصول إلى القمة، أي نتيقن أثناء المشاهدة من أنه لا يمكن له فردياً تخطي العقبة مهما بلغ من قدرة.

الأهم أن كوس لا يستعرض هذا "الفشل"، لا جمهور أثناء تصوير الفيديو، نراه هو فقط، أي لا يستعرض اللحظة الراهنة لـ "الأداء" بل يمارسه سراً ويعرض لنا النتيجة: "انظروا، سقطت مراراً وها أنا أريكم". هذه النتيجة نقابلها أحياناً بسخرية، يمكن لنا ببساطة أن نمشي بعيداً أو ألا نشاهد الفيديو، أي أن نترك كوس لـ "لعبته" و"فشله" دون أي اهتمام، وكأنه مجرد أخرق آخر يحاول أن يتخطّى "المستحيل".

غياب المشاهدين يعيدنا إلى اللعنة السيزيفية: لا يوجد أحد لاستجدائه أو الأداء أمامه، النتيجة فقط، وثيقة مشكوك بأمرها، أقرب إلى حركات أكروباتية فردية، تهدد حتى مفهوم اللاعب، فلا قاعدة نفسر بها ولا مرجعية مشابهة لهذه اللعبة. أن تكون وحيداً وتسقط وحيداً دون أن يراك أحد، والأهم، هل يمكن لأحد أن يشارك بهذه للعبة؟ كيف يعلم أحدهم أن ما يقوم به إن حاول تقليد كوس ضمن القواعد أو خارجها؟ هل هناك مهارة خفية يتم استعراضها دون أن ندركها؟ هل كان هناك محرّك لكوس حينها كي يكرر فعلته إلى ما لا نهاية؟

ربما هناك أمل زائف بالنجاح يحركه من أسفل المنحدر إلى أعلاه، وحسب تعبير ألبير كامو، يمكن أن نسميّ هذا بـ "الأمل الإجباري"، لكن كامو يستطرد قائلاً إن هذا الأمل الإجباري والزائف هو الدين، ويسأل: "ألا يكشف الفشل المتكرر، ودون أي تبرير أو تفسير لا غياب التسامي، بل وجوده ؟"، يمكن أن نجيب: ربما لا، لا يثبت وجود التسامي، خصوصاً أن هذا الفشل يختزن في الذاكرة والكلمات والجسد نفسه، في اللحم والعظام، ويمكن القول إنه يكشف لنا السخرية، وهي القاعدة التي تحكم التكرار العبثي.

"الفشلة"... أولئك المغامرون

سواء كنا جدّيين أو غير جدّيين، النتيجة واحدة، سواء كان الموقف من التكرار ثورة على نظام الإنتاج أو محاولة لارتقاء أعلى المنحدر، فالنتيجة واحدة: السقوط. يتضح ذلك حين نفترض أن كوس لا يتمرن على النجاة ولا يكتسب خبرة من سقوطه، أي إن واجه عائقاً مشابهاً في حياته "الطبيعية" لن يتمكن من تجاوزه، إن كان موته متوقفاً على تجاوز المنحدر، فسيموت بالرغم من ساعات "تمرينه" السابقة، هو يستعرض أمامنا بصورة لا نهائيّة احتمالات موته، تنويعات على السقوط، واختبار لاحتمالاته المتعددة دون أي عبرة أو درس.

هناك أيضاً جانب ساخر آخر، المهارة الذي يطوّرها كوس، لا تتعلق بقوته الجسديّة أو تجاوز المنحدر، بل بالقدرة على التكرار مع معرفة النتيجة الحتمية. هو ربما يهزأ من نفسه وممن يشاهدون الفيديو، وكأنه يحاول تطوير مهارة اللاتصديق، أي ينفي النتيجة التي توصل لها في كل مرة حالاً ويعيد الكرّة، وهنا نرى كوس وكأنه يخاطبنا، نحن نبحث عن التصديق وعن يقين ما أو علامة تشير إلى إدراكه بأنه سيقع، أو أن معجزة ستحصل وسيتمكن من تجاوز المنحدر، لكن إصراره على الفشل يعيدنا إلى سؤال كامو، ربما تسامي كوس أو التسامي الناتج عن الفشل ناتج عن المواجهة مع نظام التأويل الذي نمتلكه، كونه "يشير" دوماً إلى المسلم به، وهو السقوط الذي لا فكاك منه.

لا نتحدث عن الفشل المُلهم بالصيغة التي يرددها المخترعون أو رجال الأعمال، الفشل في تلك الحالات أسلوب للتعلم، أو مواجهة للمصاعب واكتشاف المهارات، بل نتحدث عن الفشل العدمي، العقيم، الذي لا معرفة ولا مهارة من بعده، مجرد تكرار أبدي، خفيّ، لا يراه أحد ولا نتعلم منه سوى الهدر، ونتيجته: جسد متعب وعائق مبتذل كمنحدر معدني لا يمكن تجاوزه.

إذا كان الفشل العدمي، العقيم، الذي لا يحقق معرفة ولا مهارة، هو مجرد تكرار أبدي، خفيّ، لا ينتج عنه سوى الهدر والتعب، فإن "الفشلة" مغامرون مخلصون يتبنون ما هو معطوب ويؤشرون عليه دوماً وأبداً

تكمن نشوة الفشل في اليقين الدائم الذي يخلقه، اليقين بأن الأمر هكذا وأبداً هكذا لن يتغير مهما حصل، تسليم أبديّ بعدم القدرة التي تزداد يقيناً مع كل تجربة، هذا اليقين يدهش المشاهد -إن وجد-، فالنشوة يخلقها الثبات والضبط التام واليقيني لكل الشروط المحيطة باللعبة. أولئك "الفشلة" مغامرون، لا يكتشفون الجديد بل يرسخون ما هو يقيني، يتبنون ما هو معطوب ويؤشرون عليه دوماً وأبداً، بل وللمصادفة البحتة والبعيدة، مُخلصين، فحسب تأويل جورجيو أغيمبين في كتابه "مغامرة"، يرى أن كلمة مغامرة "Avanture" في التفسير اللاتيني-المسيحي للكلمة تعني "المسيح"، ذاك الذي راهن على فشله الشخصي ويقينه الذاتي بأنه لن تحدث أي معجزة لتوقف صلبه، كما صلب الذين من قبله وأمام عينيه، وهذا فعلاً ما حصل، تكررت النتيجة أمامه واختبرها، ونقلها لنا الجمهور المدهوش من اليقين بأن هذا "العائق" لا يمكن أن يتغير "الآن" و بهذا "الأسلوب"، يشير أغيمبين أيضاً إلى المعنى الثاني للكلمة المشتق من "سوء الحظ"، ذاك العائق الذي لا يمكن تجاوزه إن وجد الشخص نفسه أسيره.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image