شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
من ناهض حتّر إلى صامويل باتي… عن أسلمة الحيّز الرقمي وتطبيع الكراهية وتمجيدها

من ناهض حتّر إلى صامويل باتي… عن أسلمة الحيّز الرقمي وتطبيع الكراهية وتمجيدها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 24 أكتوبر 202011:16 ص

لقد كان مُرعباً. بهذه الكلمات يمكن توصيف إقدام فتىً من أصول شيشانية في الـ 18 من عمره لأبوين لاجئين فرَا من الحرب في بلدهم إلى فرنسا، على ذبح معلم التاريخ والتربية المدنية، صامويل باتي، على خلفية عرض الأخير رسوماً كاريكاتورية للنبي محمد ضمن مناظرة في حصة مدرسية عن حرية التعبير. اعتبرها الجاني مسيئة للنبي وتُشوهه، فقطع رأس المعلم وعرض صور الضحية مقطوع الرأس على تويتر وأرفقها برسالة منه إلى "ماكرون أمير الكفرة". وهي جريمة إرهابية تأتي بعد أيام من تصريح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن الإسلام في أزمة، وأن "في تلك النزعة الإسلامية الراديكالية عزماً معلناً على إحلال هيكلية منهجية للالتفاف على قوانين الجمهورية وإقامة نظام موازٍ يقوم على قيم مغايرة، وتطوير تنظيم مختلف للمجتمع". وبعيداً عن صوابية التصريحات الماكرونية من عدمها، تكمن إشكالية أساسية في أن الإسلامويين يرفضون حتى هذه اللحظة النظر إلى أنفسهم في المرآة بتجرد وموضوعية، ويطورون دائماً معايير وحججاً لتغليف المشكلة بدل تعريتها ومواجهة موروثهم العنيف بجرأة وتحليل ونقد.

يكمن جانب آخر من المشكلة في محاولة الإسلامويين فرض رؤيتهم على الحيز الأوروبي العام، ونقل الأيديولوجيا الخاصة بهم والحساسة تجاه معتقداتهم وحرية التعبير من الذات إلى الشارع، أي بتحويل النسبي إلى مطلق، في الدول العلمانية التي فروا إليها. على الرغم من إدراكهم في مكنوناتهم أن أوروبا العلمانية هي ضمانة لكل الأديان ولحق الاعتقاد والتعبير، وأنها برغم كل شيء ما زالت ما يمكن أن يعبر عنه بالعالم الحر، ولو كانت دينية تفضل ديناً معيناً في دساتيرها كما تفعل دولهم التي فروا منها لما استقبلتهم. 

في المُحاججة، يعتبر كثير من الإسلامويين أن لأوروبا، وبالذات لفرنسا اللائكية تاريخاً استعمارياً عنيفاً، في محاولة للربط بين الحيزين الإجراميين، بالدفاع عن جرائم الحاضر الإسلاموي باسم رد الفعل / الضحية على جرائم الماضي الاستعماري، وإعلاء لشماعة "هم سيئون ونحن كذلك"، وذلك في نزعة ماضوية تُمجّد الانتقام. يمكننا التعبير عن ذلك بأن هناك موتى يرسمون المستقبل، وخطورة هذا الطرح في أنه يُعبّر عن أمة ترى أن كل مستقبلها هو في استعادة الماضي، ترفض التفاعل مع الحضارة الإنسانية وإحداث أي مراجعة ولا تتقدم نصف خطوة. 

يكمن جانب آخر من المشكلة في محاولة الإسلامويين فرض رؤيتهم على الحيز الأوروبي العام، ونقل الأيديولوجيا الخاصة بهم والحساسة تجاه معتقداتهم وحرية التعبير من الذات إلى الشارع، أي بتحويل النسبي إلى مطلق، في الدول العلمانية التي فروا إليها

وهم الإسلامويون أنفسهم الذين يُمجّدون إساءتهم للأديان الأخرى باسم حرية المعتقد في ذهابٍ بعيد نحو المعايير المزدوجة، إذ منذ أشهر أقدمت امرأة بحرينية على تحطيم مجموعة من التماثيل الهندوسية – الأصنام في قاموسها والآلهة في القاموس الهندوسي – في متجرٍ انتصاراً لدينها. أخذت السلطات البحرينية موقفاً إيجابياً باعتقال السيدة ومحاكمتها، لكن السؤال ظل مفتوحاً: ماذا لو استّل هندوسي سكينه وقتلها دفاعاً عن دينه؟ مما لا شك فيه، كان سيتم رفض الفعل وتجريمه وتمجيد هذه "الشهيدة" المفترضة من قطاعات إسلاموية واسعة. يتكرر الأمر كل عيد أضحى، عند وقوع صدامات إسلاموية – هندوسية على خلفية ممارسة المسلمين شعائرهم بالتضحية بالأبقار المقدسة لدى الهندوس، لا سيما مع وصول حزب "باهرتيا جاناتا" الهندوسي للسلطة، الذي يعتبر حماية الأبقار من أهم الأولويات لديه. فثلما يعتقد الإسلامويون أن لديهم أوتارهم الحساسة وخطوطهم الحمر، عليهم تقبل أن الآخرين لديهم ذلك أيضاً. 

واحدة من نظريات نشوء الدولة، هي النظرية الإلهية، التي يعزو أصحابها نشأة الدولة إلى الإله، معتبرين أن الإنسان ليس إلا عاملاً هامشياً اختاره الإله لإدارة كيان الدولة. ربما تسرّع البعض في قطف ثمار التقدم المدني وسيادة الديمقراطية، معتقدين أننا تخلصنا من الثيوقراطية التي كانت تصور الحاكم أنه حاكم بأمر الله، وأن مطالباتك بأي تغيير في العقد الاجتماعي هي تمرد ضد هذه الذات الإلهية، وأننا انتصرنا على الثيوقراطية مرة وللأبد. لكن التطبيقات تقول العكس، ففي أكبر دولة خليجية وفي غيرها من الدول الدينية، ما زال التظاهر هو خروج على ولي الأمر صاحب الحق المطلق بالطاعة وعقوبته الإعدام، في سلسلة يستمد فيها الحاكم الجزء الأكبر من شرعيته من النص الديني الذي يستمد شرعيته بدوره من الإله، وهنا تكمن تحديداً جدلية الدين والدولة، فالشعب ينتمي لديانات وأفكار وثقافات مختلفة. أشخاص طبيعيون يعتنق كل منهم فكرة دينية معينة أو لا يعتنق ضمن مساحته الخاصة، والأصل أن تكون المساحة العامة بلا أيديولوجيا.

وهم الإسلامويون أنفسهم الذين يُمجّدون إساءتهم للأديان الأخرى باسم حرية المعتقد في ذهابٍ بعيد نحو المعايير المزدوجة.

أعني هنا بالمساحة العامة ذلك الفراغ الحر الذي يمارس فيه الأفراد حقوقهم في الفضاء العام، الذي يفترض أن يكون بلا أي لون ليظل صالحاً لجميع الألوان الفكرية، فما المغزى والمنطق من أن يكون هناك دين للشخصية المعنوية التي نُطلق عليها دولة؟ الأمر يشبه أن تمنح ديانة للشخصية المعنوية "الشركة" مثلاً، فلماذا لا يطرح دعاة النظرية الدينية سؤالاً حول دين الشركة أو الجمعية الخيرية أو المؤسسة؟ الدولة بتعبيرها النقي الأول مجموعة من الأفراد يمارسون سلطات عبر مؤسسات عامة ويتخذون قرارات تمس الجميع استناداً لإرادة شعبية ويقدمون خدمات لهؤلاء المواطنين على قدم المساواة، هذه هي ببساطة. إذا أين المنطق في سؤال ما دين الدولة؟ وأنا بعيد تماماً عن القول بأن هذا هو سؤال الإسلام، إذا ما قِسنا أي ديانة أو أيديولوجيا شمولية أو متطرفة على مسطرة الديمقراطية، سيتضح لنا أنها غير ديمقراطية من الاختبار الأول، إنه اختبار لن ينجح فيه أحد، فليس هنالك دين ديمقراطي من حيث المبدأ، وعليه، السؤال ليس الإسلام والديمقراطية، بل شعار الأيديولوجيا اليمينية الإسلاموية "الإسلام دين ودولة" الذي لا يبدو منطقياً وقابلاً للتطبيق في مجتمعات تعددية متنوعة وحرة.

هذه الخطابات الإسلاموية المتطرفة هي الدجاجة التي تبيض ذهباً لليمين المسيحي المتطرف وللشعبوية، إذ يتغذى اليمين على اليمين، وينتفخان مهددين كل مكتسباتنا الحضارية بعد نضالات إنسانية مريرة لتحقيقها، من علمانية وديمقراطية ومدنية وتعزيز لحقوق الإنسان بما فيها الحق في المعتقد والتعبير. يزداد الشعور القومي اليميني تطرفاً، وتهتز دعائم الديمقراطية وقيم التسامح مع كل حادثة إرهابية، وتزداد إرهاصات تجنيد ديني آخر لحرب أيديولوجية أخرى. وتدخل مفاهيم مثل القانون الدولي، وحقوق الإنسان، والحريات العامة، واللاجئين، والأقليات، والنساء، والملونين، ومختلطي الأعراق، والجبهات والفضاءات المدنية في دائرة الخطر والإنعاش. تشعرنا كل جريمة إرهابية، كمتفاعلين في الحقل المدني، أن الدائرة ستعاد، فقد بدأت الإنسانية بالسحر ثم الدين ثم كان القانون.

بالعودة إلى جريمة مقتل صامويل باتي، لا يمكن قراءة هذه الجريمة في حيز معزول عن الكراهية الرقمية التي مهدت لها بدايةً ومجدتها لاحقاً، إذ اعتقلت السلطات الفرنسية إسلاموياً من أصول مغربية لتحريضه والدة طالبة مسلمة في مدرسة "دو بوا دو لون" التي يعمل بها صامويل للمطالبة بإقالة الضحية، ونشر فيديو تحريضي طالب فيه برد موحد ومناسب على "النذل". تجلّت هذه الكراهية بشكل أبرز بعد الجريمة في إطلاق صفة البطولة على المجرم وتمجيده من قبل كثير من المتفاعلين الإسلامويين مع الخبر داخل فرنسا وخارجها، الذين رأوا في المجرم مسلماً ملتزماً صادقاً وشجاعاً. وهو ما يمكن اعتباره إشارة إلى أن في داخل كل منهم "داعشياً" صغيراً يحتاج قَدحة بسيطة لينطلق.

وبالحديث عن خطابات الكراهية، لا يمكن فصل هذه الخطابات التي يعج بها الحيز الرقمي اليوم، عن صفتها كفوهات للغضب قادرة دائماً على إنتاج فعل عنيف. تعيد الجريمة للأذهان ما حدث مع الكاتب والمفكر الأردني ناهض حتر، الذي استدعته السلطات الأردنية لنشره على صفحته على موقع فيسبوك كاريكاتوراً اعتُبر من إسلامويين مساً بالذات الإلهية، بعد تحريضهم كأحزاب وأفراد عليه ومطالبتهم بإنزال أقصى العقوبات بحقه، واعتبار مؤسسة الإفتاء العام الأردنية الرسمية ناهض حتر من المتطاولين على الذات الإلهية. لاحقاً اغتيل ناهض بثلاث رصاصات اخترقت رأسه على باب قصر العدالة، بعد أن اختار - كما هو متوقع منه - الخضوع للأدوات المدنية ومؤسسات دولته وحضور جلسة محاكمته في قضية "ازدراء أديان". التهمة الأكثر سخافة في الشرق.

يزداد إدراكنا اليوم أن خطابات الكراهية والخطابات التحريضية والتمييزية التي يزخر بها العالم المرقمن، على خلفية فروق واعتقادات بالتفوق الديني أو المناطقي أو الحزبي أو الجنساني أو الجندري أو تلك الموجهة ضد ذوي الإعاقة، تعزل فئات واسعة وتشعرها بالاضطهاد

يزداد إدراكنا اليوم أن ما هو محميّ في الواقع من حقوق الإنسان يجب أن يكون محمياً كذلك في الحيز الرقمي، وأن حرية التعبير أساس كل الحقوق والحريات ومفتاحها، وأن خطابات الكراهية والخطابات التحريضية والتمييزية التي يزخر بها العالم المرقمن، على خلفية فروق واعتقادات بالتفوق الديني أو المناطقي أو الحزبي أو الجنساني أو الجندري أو تلك الموجهة ضد ذوي الإعاقة، تعزل فئات واسعة وتشعرها بالاضطهاد. إذ لا يمكن اعتبار خطابات الكراهية تهديداً فقط في الحالة التي تمس فيها أحداً منا أو يشبهنا واقتصار التضامن على ذلك، فوجودنا في الحيز نفسه الذي نشاهد فيه هذه الخطابات لا يشعرنا بالأمان وينعكس سلباً علينا وهو شعور يطال بشكل أكبر الفئات الأصغر سناً. في الوقت عينه الذي يفرض فيه نمط الإنسان العصري الحديث على كل منا الوجود في فضاء عالم يزداد توجهاً نحو الرقمنة. 

ما نحن بحاجة إليه اليوم، هو استثمار غضبنا والتحرك السريع والمنظم وعدم الهدوء في مواجهة الهجومات المنظمة والممنهجة ضد قيمنا الإنسانية ومكتسباتنا الحضارية، ولا سيما منها تلك الراغبة في أسلمة الحيز الرقمي وتحطيم قيمة التعبير وإخافة الآخر غير الإسلاموي، وأن لا ننتظر سقوط ناهض أو صامويل آخر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard