شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"لدينا بطيخ في الشتاء وكستناء في الصيف"... قصص من "سوق الوحام" في عمّان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 22 أكتوبر 202002:28 م

تنظر السيدة سهى داودية، 62 عاماً، إلى ابنها رامز وهو يجلس بجانبها، وترفع طرف بنطاله ثم تنظر أسفل ركبته اليسرى، وتضحك وهي شاردة في قدم ابنها وتقول: "ليتني كنت في عمّان وقتها بدلاً من ليبيا، كان من الممكن أن أنقذ رامز من وحمة الحصرم هذه".

لم تسمح الظروف للسيدة سهى، عندما قضت فترة أولى حياتها الزوجية في ليبيا بسبب عمل زوجها هناك، عندما اشتهت أثناء فترة حملها بابنها البكر رامز في فصل الشتاء، أن تتذوق طعم الحصرم الذي يعد من أهم الفواكه الحمضية في فصل الشتاء، لزيارة "سوق الوحام" أو "سوق الوحمة" في قاع المدينة في العاصمة عمّان، وتحديداً في منطقة وسط البلد، فلو كانت الظروف قد سمحت بذلك لما كان لـ "خصلة" الحصرم الموجودة كوحمة في قدم ابنها وجود، بحسب اعتقادها.

السيدة سهى واحدة من الذين تحدثت معهم/ن رصيف22، والذين يعتبرن أنفسهم/ن شهود عيان على أهمية "سوق الوحمة" في سوق البلد في عمّان، ليست لأهميته المعنوية والرمزية باعتباره أهم معالم سوق وسط البلد فقط، بل أيضاً تلك الأهمية المتعلقة بأنه استطاع، وما يزال، سد الرغبات الملحة للحوامل بتذوق طعم فاكهة الصيف في "عز" الشتاء وبرده القارس، وتذوق فاكهة الشتاء في "عز" موجات الحرارة المرتفعة.

وتتابع سهى: "في شهري الثالث من حملي بابني رامز، أصابتني رغبة شديدة لم أستطع السيطرة عليها بتذوق طعم الحصرم، مع أني بالمناسبة لست من محبي هذه الفاكهة بقوة. وقتها كان فصل الشتاء في ليبيا، ولا أنسى الجهد الذي بذله زوجي على مدار أيام وهو يبحث في أسواق الخضرة عن حصرم لسد حاجتي له، لكن كل محاولاته باءت بالفشل".

وأضافت: "في ذلك الوقت لم تكن هناك وسائل التواصل والاتصال الحديثة، لكني في مرة وخلال اتصالي بالهاتف الأرضي مع والدتي رحمها الله، أخبرتها بحاجتي الشديدة لتناول الحصرم، أذكر وقتها أنها شهقت خوفاً وألحت علي بالاستمرار بالبحث عنه حتى لا تتحول هذه الشهوة على شكل حصرم على جسم ابني، وبعد إقناعها باستحالة وجود الحصرم في ليبيا في فصل الشتاء، سألتني: أنتوا ما عندكو سوق وحمة زينا".

تعود سهى وتضحك وهي تنظر إلى العلامة بارزة في قدم ابنها رامز التي تصرّ أنها وحمة الحصرم، وتختم: "ليت في ذلك الزمن كان هناك دي اتش إل، أو آرامكس، لكانت والدتي قد أرسلت لي الحصرم إلى ليبيا".

"ماذا كانت عمّان زمان أصلاً؟ كانت تتمحور حول وسط البلد في السابق. عندما كنت أقف على باب محلي كنت أسلم على 80 شخصاً يمر من وسط البلد، وسوق الوحمة لا تقل قيمته الرمزية عن شارع الملك حسين ولا البريد ولا حتى البتراء!"

سوق لتلبية ما تشتهيه الحوامل

زرت "سوق الوحمة" للمرة الأولى في وسط البلد تزامناً مع إعداد هذا التقرير، وتعمدت ألا ألجأ إلى "غوغل ماب" ليدلني على الطريق هناك، بل فضلت اللجوء إلى قاعدة: "من يسأل الناس لا يتوه"، وأن اكتشف من خلال سؤال الناس عن حجم شهرة "سوق الوحمة". وصدقاً لم يكلفني الأمر الكثير من الوقت، فبمجرد أن نزلت من سيارتي وسألت أول شخص صادفته دلني على المكان بإصبعه قائلاً: "هناك مكانه... هذا أفخم سوق خضار في البلد".

بحسب إشارة إصبع ذلك الشخص، توجهت إلى زقاق صغير المساحة وكبير في كمية ألوان وأصناف وروائح الخضار والفواكه فيه، فما إن تدخل إلى "سوق الوحمة" الذي يستقبل زواره بلافتة كبيرة، حتى تشمّ رائحة حمضيات، ومن الوارد جداً أن يرتطم وجهك بثمرة رمان كبيرة، معلقة مثل لمبات الإنارة. وبلا شك وأثناء المسير لا يخلو المشهد من أصوات الخلاطات التي تخلط أنواعاً مختلفة من العصائر والكوكتيلات، كثير منها تكون مزيجاً لفواكه لا تشبه بعضها في التصنيف، "حمضيات أو عكسها"، لكنها بلا شك تسد رغبة من يشتهي من الحوامل اللواتي يقصدن "سوق الوحمة".

وفي آخر زقاق "سوق الوحمة" يصادفك رجل ثمانيني اسمه محمد الشالاتي، يجلس على كرسي بلاستيكي، مستنداً بظهر الكرسي على مدخل واحدة من محلات السوق، بدأ حديثه معي بقوله: "لم يمض وقت طويل على عملي في سوق الوحمة، فقط 56 عاماً"، فهو وبحسب قوله، ورث هذه المهنة من أبيه وجده، ويبلغ عمر السوق أكثر من 77 عاماً، كما يقول.

"أنا أول من صنع الكوكتيل للحوامل" يتباهى محمد الشالاتي، ذاهباً إلى أن فكرة  وجود سوق لتلبية ما تشتهيه الحوامل، جاءته عندما كانت عائلته تستبق ما تشتهيه من فواكه الصيف في فصل الشتاء، وبالعكس، من خلال "تفريز" تلك الفاكهة في "فريزر" بيت العائلة، وتحولت تلك الفكرة إلى مشروع أصبح اسمه "سوق الوحمة"، وجاءت تسميته من قبل الصحف الورقية الأردنية بحسب قوله.

"في عندك أسكدنيا؟" واحد من الأسئلة التي تتكرر على مسامع محمد الشالاتي في فصل الشتاء، يسأله أزواج، تصل أحياناً طريقة سؤالهم حد "التوسّل"، خوفاً من ألا يجدوا الأسكدنيا لسد شهوة زوجاتهن، وأن تصبح الأسكدنيا علامة وحمة على الطفل القادم.

ومن الأشياء الطريفة التي تحدث في "سوق الوحمة"، كما جاء في حديث أهم رموزه، العم محمد الشالاتي، مواقف ربما تشي، رغم طرافتها، بجانب محزن بعض الشيء، وهو الحالة الاقتصادية التي تصعّب على كثير من الحوامل وأزواجهن شراء فواكه سوق الوحمة، إذ يغلب عليها شيء من الارتفاع في الأسعار نظراً لتميز موسمها، ويتابع: "كثير من الأحيان تأتي امرأة حامل على أساس أنها تريد شراء فاكهة صيفية في الشتاء أو العكس، وقبل أن أضع الكمية التي تريدها في الكيس لشرائها، تطلب أن تتذوق حبة، فتكتفي بالحبة التي أعطيتها إياها كعربون تسويق لفاكهتي، وتخرج من المحل وهي على يقين أن تلك الحبة التي ذاقتها أنقذت جنينها من الوحمة".

سألت العم محمد لو أتيت إليك في شهر الشتاء وطلبت بطيخاً هل سأجده عنك؟ أجاب: "ليس فقط بطيخ، وكرز أخضر وأحمر أيضاً، ولو أتيت في الصيف سوف أعطيك كستنا".

وختم حديثه أثناء تطرقه إلى رمزية "سوق الوحمة" في وسط البلد وقال: "ماذا كانت عمّان زمان أصلاً؟ كانت تتمحور حول وسط البلد في السابق. عندما كنت أقف على باب محلي كنت أسلم على 80 شخصاً يمر من وسط البلد، وسوق الوحمة لا تقل قيمته الرمزية عن شارع الملك حسين ولا البريد ولا حتى البتراء!".

تكمن أهمية "سوق الوحمة" بأنه استطاع، وما يزال، سد الرغبات الملحة للحوامل بتذوق طعم فاكهة الصيف في "عز" الشتاء وبرده القارس، وتذوق فاكهة الشتاء في "عز" موجات الحرارة المرتفعة

عادة جميلة متأصلة في مجتمعنا الأردني

في الجهة المقابلة لمحل العم محمد الشالاتي، هناك محل في "سوق الوحمة" لعائلة الخمسيني ياسين الزامل، الذي كان يجلس قبالة جهاز التفريز في محله، وأخذني معه في جولة داخل هذا الجهاز الذي رأيت فيه: حصرم، عكوب، خروش، توت أبيض، توت أسود، كستناء وكميات من المشمش.

يصف ياسين الزامل "سوق الوحمة" بأنه: "ليس فقط رمزاً من رموز وسط البلد، بل أيضاً عادة جميلة ما زالت متأصلة في مجتمعنا الأردني، ورغم مرور أكثر من 77 عاماً على السوق، ورغم كل التطورات التي طرأت على مجتمعنا، إلا أنه ما يزال هناك رواد للسوق حتى اليوم".

ومن القصص الطريفة التي يعود بنا معها الزامل في الذاكرة: مرة قبل 15 عاماً، جاءت سيدة توحمت على بطيخ في شهر كانون الثاني/ يناير، لكن الزوج، الله يهديه، لم يقبل شراء البطيخ معترضاً على سعره، ورغم بكاء زوجته التي كانت معه، رفض أيضاً العرض الذي قدمته له بأن يأخذ حبة بطيخ واحدة مجاناً، بعد ستة شهور من ذلك الموقف زارتني تلك الزوجة مصطحبة ابنتها التي أنجبتها، ودلتني على وحمتها على خدها التي تشبه حز البطيخ".

وفي مرة كما أضاف الزامل: "جاءني شخص على شفته وحمة تشبه الشمندر، قلت له الله يسامحه والدك، كيلو الشمندر بنصف دينار فقط".

برأيك الوحم وهم؟ سألت ياسين الزامل، وأجاب خاتماً حديثه: "لا أعرف ما إذا كانت وهماً، لكن أعرف أنه لا عيب ولا حرام".

التقيت امرأة حامل مع والدتها في السوق، سألتهن عن سبب وجودهن هنا وأجابت الوالدة: "ابنتي في شهرها الثاني من الحمل، واشتهت بشدة طعم الكستناء، وأنا متأكدة أنني لن أجد ما ترغبه سوى في سوق الوحمة، رغم أنني أعرف أن سعر الكستناء سيكون غالياً، لكن لا بأس في ذلك، بدل أن تتحول الكستناء على شكل وحمة في جسم حفيدي أو حفيدتي القادمة".

وأجابت على سؤال ما إذا كانت قد حدثت معها حالة أن اشتهت فاكهة ليست في موسمها: "لم يحدث معي ذلك، لكن شقيقتي اشتهت الكرز الأخضر في شهر شباط/ فبراير، ووالدتي رحمها الله أتت بها هنا إلى سوق الوحمة ووجدت مبتغاها".

هل الوحام وهم؟

سألت ذات السؤال الذي سألته للزامل من "سوق الوحمة" لأخصائي أمراض النسائية والتوليد، الدكتور عزام الميخي: هل الوحم وهم؟ أجاب: "لا يوجد هناك حالة علمية طبية تسمى الوحم أو الوحام، لكن بالتأكيد هناك حالات تشعر بها الحامل أنها تشتهي تناول أشياء، منها ما تكون مستحيلة أصلاً".

 ويوضح: "تشتهي كثير من الحوامل تناول الحجارة والأتربة، وأحياناً كثيرة تناول براز الحيوانات، وهذا شيء طبيعي، لكن فيما يتعلق بالوحام فلا نتعامل معه كأطباء بجدية، وعن العلامات التي تكون في جسم الجنين بعد الولادة لا تسمى وحمة بل علامات ولادة".

في نهاية زيارة "سوق الوحمة" التقيت بالصدفة زميلاً بريطانياً يعمل مراسلاً لإحدى القنوات الفضائية الأجنبية، وسألته عن سبب وجوده هناك أجابني: "سمعت عن سوق الوحمة، وأعتقد أنه يستحق عمل تقرير عنه"، وهذا ما كنت لاحظته داخل محلات السوق المعروضة فيها إطارات لصفحات صحف أردنية وعربية وحتى أجنبية، كتبت عن السوق على مدار عقود. 


 


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard