ماذا تفعل في حال عدم وجود أي منفذ لك لتكون فيه جزءاً من هذا الكوكب؟! أو أي مساحة حرّة تجعل منك تفصيلاً مهماً من التكوين الخاص بهذا العالم؟
أن تمضي يومك منتظراً لتحصل على أحد حقوقك البسيطة في الحياة، هو انتظار سيدفعك لتأخذ خطوة بعيداً عن واقعك، خطوة تجعلك ولو في لحظة ما جزءاً لا يتجزأ من عالم الأحلام والخيال، هذا الانتظار يدفعك لتكون محوراً رئيسياً وصاحب رأي في أي موضوع يُذكر أمامك.
نتيجة لانتظارنا الذي لا ينتهي، لم تمنع الحرب السورية البعض من "الشماتة". نحن في سوريا، رغم كل ما نمر به، لا نترك أي فرصة تجعلنا شامتين بأي حدث يصيب أي مكان، أو من الممكن أن تكون حالة الضعف التي نمر بها هي السبب في أن تكون أقوى رد فعل لنا هو الشماتة.
من السهل علينا جعل أي شيء موضع نكتة.
عند بداية الاحتجاجات الفرنسية ضد سياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2018 بسبب أسلوب الإدارة في فرنسا، إن كان تجاه الداخل الفرنسي أو علاقاتها الخارجية. كان فريق من الشعب السوري يصنع "الميمز" وينشر النكات حول ما يقوم به الشعب الفرنسي، وكيفية تعامل السلطة الفرنسية مع تلك المناشدات. وبالتالي كانت تلك الاحتجاجات أحد مكامن الكوميديا في حياتنا وأحد أبرع أنواع الشماتة التي قام بها البعض منّا.
لربما كانت هذه النكات والدعابات هي الطريقة الوحيدة التي وجدنا بها منفذاً للتعبير عما يدور في داخلنا بسبب كثرة الأعمال الكوميدية التي كنّا نشاهدها في رمضان، والتي ما زالت صوتنا الوحيد حتى يومنا هذا... نلجأ لمشاهدتها في كل فترة تقسو بها الحياة علينا.
نتيجة لانتظارنا الذي لا ينتهي، لم تمنع الحرب السورية البعض من "الشماتة". نحن في سوريا، رغم كل ما نمر به، لا نترك أي فرصة تجعلنا شامتين بأي حدث يصيب أي مكان، أو من الممكن أن تكون حالة الضعف التي نمر بها هي السبب في أن تكون أقوى رد فعل لنا هو الشماتة
إذا قمت بتصنيف دول العالم بحسب المصطلحات الجديدة، نأتي نحن في الصدارة، التنمر نمارسه وكأننا من أوجده على الرغم من أنّ هذه المصطلحات قد تأخرت في الوصول إلينا ولكنها أصبحت لغتنا الرئيسة.
من غير المعقول أن تمشي في شارع ما في هذه البلاد دون أن تسمع كلمة طائشة تجعل منك موضوع حديث ربما يستمر ساعات طويلة، الموضوع شبيه بالاستيقاظ باكراً. تصفح سريع للمواقع الافتراضية ثم تنظيم برنامج اليوم المستمد من هذا التصفح.
عندما كان "أنس وأصالة" يحاولان معرفة جنس مولودهما عن طريق برج خليفة، كان أحد الأفراد يشاهد البث المباشر، وقد أكمل ساعاته الست على دور البنزين، ولكن ذلك لم يمنعه من التكلم عن براعة "أنس وأصالة" في تسويق نفسيهما.
عند اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بحقوق "المثلية الجنسية" كان القتال قد بلغ ذروته عام 2014 في الداخل السوري... ومع ذلك كان هذا الموضوع هو الأكثر تداولاً في محركات بحثنا.
في الوقت الذي تسعى الحرائق لإنهاء ما تبقى من هواء نتنفسه من غاباتنا في مختلف المناطق، يقف بعض أفراد شعبنا بين مؤيد ومعارض حول ترشح أدونيس للمرة الثانية من أجل جائزة نوبل للآداب. هذا الاختلاف الذي صنعناه لأنفسنا أصبح سيد أي خبر وأي حدث. وكأن ما لم يستطع أي مبعوث دولي أو دولة ما إنقاذنا منه، سينجح به أدونيس.
هذه الحرب اللعينة جعلت منّا متحكمين بالعالم عبر حساباتنا الافتراضية.
البعض يتكلم عن العدوان على أرمينيا، وآخر يحلل انفجار بيروت ويوجه التهم، نعزّي بأمير الكويت، ونشاهد المناظرة الرئاسية الأميركية، ونكشف المؤامرات التي تحاك ضد أبعد بقعة جغرافية، وفي الوقت نفسه نشاهد طوابير تنتشر في كل الأماكن في بلادنا.. طوابير طويلة يقف فيها الأفراد للحصول على أبسط حقوقهم دون أي إضاءة، ولكن ما أدراك. الاحتفال بعيد ميلاد مونيكا بيلوتشي هو أكثر أهمية من حاجاتنا.
نحن في سورية لم يبق لدينا أي شيء نشعر من خلاله بوجودنا وتطورنا سوى هذه المصطلحات وهذه الآراء.
أن تقضي معظم ساعات يومك تبحث في "التريند" العالمي وكأنها أهم الواجبات التي عليك تحمل مسؤوليتها، يعني أن عجلة تطورنا توقفت منذ زمن بعيد، والآن "التريند" هو كل ما نملك.
هذه الحرب اللعينة جعلتنا نعيش في عالم بعيد تماماً عما يحدث في الواقع، نختلق الحكايا ونبرع بطرح آرائنا في قضايا العالم. وكأنها كل ما نملك لنبقى أحياء.
ما الغريب في تولّي الشعب المنكوب زمام المبادرة في تفاصيل العالم، ما زلنا نتصدّر نشرات الأخبار، وعند الحديث عن أي اختلاف بين طرفين يكون الاختلاف موضوعه نحن.
أصبحنا وجهة النظر الوحيدة في أي حديث منتشر، لم نعد نتصدر تلك الأخبار بأرقام عالية للسياح ومعارض الفنانين السوريين ودمشق عاصمة الثقافة العربية.
أصبحنا نتصدرها بقتال لا ينتهي، وأزمات لن تنتهي، ولّى زمن الحديث عن معرض دمشق الدولي وعن القدود الحلبية.
إنّه زمن الحديث عمن يبسط سيطرته في تلك المنطقة، عن قانون قيصر الذي جعل منّا شعباً جائعاً بكل ما تعنيه الكلمة من سوء تجاه بلد لم يعرف التنمر عندما كان في حالة السلم بل عرفه في أشد حالات الخراب.
"من برا هالله هالله ومن جوا يعلم الله". هذا المثل الشعبي هو الاختصار الوحيد لمعظمنا، نحن من بعيد نبدو وكأننا المتحكمون في كل مسارات العالم، ولكن اليوم، نحن أكثر الشعوب المًتحكم بها عبر التاريخ، أغلبنا دمى يتم التحكم بها... كل ما نعيشه لم نصنع منه شيئاً يذكر
من الصعب أن تجد رأياً موّحداً لدى قسم لا يَستهان به منّا.
تختلف اهتمامات البعض ولكن ما يجمعهم هو الانقسام في الرأي.
وعند تصفحك تصنيف حرية الرأي في دول العالم... تجدنا في المراتب العشر الأخيرة.
البعض منّا يسعى جاهداً على الأقل ليحتل المرتبة الأولى في الانفصال عن الحياة الواقعية.
لربما نحن البيئة الأكثر انفتاحاً على مشاكل العالم، وأكثرها تضرراً منه في الوقت نفسه.
"من برا هالله هالله ومن جوا يعلم الله".
هذا المثل الشعبي هو الاختصار الوحيد لمعظمنا، نحن من بعيد نبدو وكأننا المتحكمون في كل مسارات العالم، ولكن اليوم، نحن أكثر الشعوب المًتحكم بها عبر التاريخ، أغلبنا دمى يتم التحكم بها... كل ما نعيشه لم نصنع منه شيئاً يذكر.
نحن نعيش بناءً على نتائج لأفعال لم نقم بها قط.
نحاول الهرب وكأنه الفعل الوحيد المتبقي لنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...