انتشر مؤخراً مقطع فيديو لما قيل إنهم قوات خفر السواحل اليونانية وهم يحاولون إغراق قارب مطاطي عليه مجموعة من اللاجئين، معظمهم، إن لم يكن جميعهم، سوريون، حوادث مشابهة لهذه تحدث على الأقل منذ العام 2015.
كذلك، انتشر مقطع فيديو لمدنيين يونانيين يقفون على شاطئ ما، يصرخون بلاجئين في قارب مطاطي أنّ يعودوا إلى بلادهم، وأنهم لن يسمحوا لهم بالنزول من قاربهم على أرض الإغريق.
لا أنكر وجود مساعدات وأناس ضحّوا بالكثير لمساعدة السوريين من باب إنساني بحت، لكن أولئك مثلنا، لا صوت ولا قوة لهم.
منذ سنوات، تنتشر مقاطع فيديو من دول مختلفة، هنغاريا، لبنان، اليونان، بلغاريا، تركيا وألمانيا…. إلخ، لضرب سوريين وإهانتهم وسجنهم وحرق بيوتهم وخيامهم، بل وصل الأمر إلى قتلهم في بعض الأحيان، مثلما حدث مؤخراً مع شاب قتلته شرطة الحدود اليونانية.
ما الذي فعلناه، نحن السوريون، كي يقابلنا العالم بكلّ هذا؟ ما الخطأ في وجودنا؟ ما هو الخطأ الذي اقترفناه في هذه الحياة كي نقابل بكلّ هذا الألم والعذاب؟ أين هو العالم الذي يعيش أزهى عصور السلام من مآسي السوريين؟ أين هي قيم العالم المتحضر، العالم الذي تحوّل إلى قرية صغيرة تحكمها التكنولوجيا المقيدة بقيم ومثل عليا، من معاناة السوريين؟ كيف يمكن أن يكون العالم هو نفسه، وأن تكون الحياة هي نفسها بعد كلّ ما حدث للسوريين؟
هل أحبّ لعب دور الضحية؟ هل أبالغ فيما أقول؟ هل هناك دول أخرى حدث لها ما يحدث الآن للسوريين، دول يوغسلافيا، ليبيا، فلسطين، أفغانستان، العراق، اليمن ورواندا، على سبيل المثال؟ أحقاً؟ ربما أنا على خطأ، لكنني لم أعرف مأساة تشبه هذه، لم أقرأ ولم أرَ أي شيء يشبه هذا.
المقارنات خاطئة: مقتل شخص واحد في مكان ما يساوي خراب العالم، هذا صحيح. لكن في المقابل هناك بقعة جغرافية صغيرة في العالم اسمها سوريا، عدد سكانها قبل بدء الثورة لم يتجاوز 25 مليوناً في أحسن الحالات (لا وجود لإحصاء دقيق لعدد السكان في تلك السنة)، انفجرت في تلك البلاد ثورة في العام 2011 ضدّ حكم دكتاتوري. قَتَلَ الديكتاتور وشرّد وعذّب المنتفضين، وزجّ بالبلاد في حرب أهلية مفتوحة.
أين هو العالم الذي يعيش أزهى عصور السلام من مآسي السوريين؟ أين هي قيم العالم المتحضر، العالم الذي تحوّل إلى قرية صغيرة تحكمها التكنولوجيا المقيدة بقيم ومثل عليا، من معاناة السوريين؟ كيف يمكن أن يكون العالم هو نفسه، وأن تكون الحياة هي نفسها بعد كلّ ما حدث للسوريين؟
قُتل في هذه البقعة الجغرافية منذ تسع سنين ما يُقارب المليون شخص، ونزح ولجأ أكثر من نصف السكان، مئات الآلاف غُيبوا وعُذبوا في معتقلات الأسد، وبأعداد أقل، في معتقلات المجموعات الأخرى المتصارعة في البلاد. في سوريا الآن قواعد رسمية معلن عنها لجيوش أمريكية، إيرانية، روسية، تركية، فرنسية، بريطانية وإسرائيلية.
شارك في قصف السوريين، فضلاً عن طائرات براميل الأسد وطائرات الجيش الروسي التي ما زالت تقصف إدلب حتى اليوم، طائرات دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا التحالف مكوّن من اثنين وثمانين دولة، وهدف هذا التحالف المُعلن هو محاربة داعش، لكن طائراته لم تتوان عن سحق مدن سورية كاملة، الرقة خير مثال.
تشكلّت في سوريا مجموعات جهادية، بدءاً من القاعدة بمقاتليها الدوليين وصولاً إلى لواء "فاطميون" الأفغاني، مروراً بداعش التي تحتوي مقاتلين من مئة وخمسين دولة، وجهاديون سوريون منضوون تحت تنظيمات شبيهة بجيش الإسلام، في سوريا كذلك قوات كردية تركية تحارب مع الأكراد السوريين، ومقاتلون عرب يجاهدون من أجل رفع راية الإسلام في سوريا، وميلشيات مدرّبة تتبع تركيا، قطر أو السعودية، وفي سوريا أيضاً ميليشيات عراقية، ميليشيات إيرانية وميلشيات حزب الله اللبناني.
في سوريا حرب عالمية مفتوحة، لكن ساحة الحرب ليست العالم كلّه، ساحة الحرب هي بقعة جغرافية صغيرة اسمها سوريا، فما الذي يفعله السوريون هرباً من هذا الجحيم؟ يلجؤون إلى دول العالم التي ساهمت في عذابهم. لكنهم في هذه الدول لا يحصلون على حقوقهم الأساسية في الحياة: في لبنان تحرق خيامهم، في تركيا تقتلهم الجندرمة التركية على الحدود كي لا يعبروا، وإن عبروا يخضعون إلى أبشع أنواع العنصرية، فتحرق محالهم ويُضربون في الشوارع، هذا عدا عن استخدام أردوغان لهم لتحقيق مآربه الخاصة، في أوروبا يعانون من عنصرية حقيرة تصل حدّ حرق مخيمات اللاجئين.
لا يستطيع السوريون دخول دول الخليج العربي، وإن هم دخلوا فإنهم مهدّدون بالترحيل في أي لحظة. معظم دول العالم لا تقبل دخول السوريين إليها إلّا بمعجزة، وإن وصل السوريون إلى دولة ما فعليهم أن يكونوا مطيعين، عليهم أن يتعلموا لغات جديدة بسرعة البرق، وعليهم أن يعملوا وأن يكونوا مساهمين فاعلين في الدورة الاقتصادية لمجتمعهم الجديد، وإلّا فلا مكان لهم. على السوريين أن يكونوا صالحين، وإن أخطأ أحدهم فإن الأصوات تتعالى لطردهم جميعاً من البلاد الجديدة.
في سوريا حرب عالمية مفتوحة، لكن ساحة الحرب ليست العالم كلّه، ساحة الحرب هي بقعة جغرافية صغيرة اسمها سوريا، فما الذي يفعله السوريون هرباً من هذا الجحيم؟ يلجؤون إلى دول العالم التي ساهمت في عذابهم. لكنهم في هذه الدول لا يحصلون على حقوقهم الأساسية في الحياة
لا أنكر وجود مساعدات وأناس ضحّوا بالكثير لمساعدة السوريين من باب إنساني بحت، لكن أولئك مثلنا، لا صوت ولا قوة لهم، لا يستطيع أصدقاؤنا الحقيقيون في دول العالم فعل شيء من أجلنا، يفعلون ما باستطاعتهم، وما باستطاعتهم هو ما باستطاعتنا: لا شيء.
سوريا استنزفت كل شيء منّا، إيماننا بأنفسنا وبإنسانيتنا وبالبشرية وبالأخلاق وبالكرامة، إيماننا بالحياة نفسها. حياتنا كسوريين هي كابوس دائم يحيل حيواتنا إلى جحيم. ليس الأمر ذاكرة مثقلة بالعذاب وحسب، ليس الأمر تعاملاً يومياً مع الألم وحسب، ليس الأمر خسارة بيوتنا وأصدقائنا وشوارعنا وكتبنا وحسب، ليس الأمر محاربة عدو واحد وحسب، ليس الأمر ثورة ضد دكتاتور وحسب: سوريا هي خليط من كلّ هذا وأكثر. ما هي هذه الـ سوريا؟ هذه السوريا المُمتدّة إلى دواخلنا، سوريا الممزوجة بالألم والأمل وصور زَبَد البحر والغرقى، سوريا ذات الأبواب المفتوحة للغرباء والمغلقة في وجوهنا، نحن غرباء هذا الكوكب.
هذه النار تأكلنا الآن، هذه النار تأكلنا منذ تسع سنوات، هذه النار التي التهمت بيوتنا وقلوبنا لن تقف عن هذا الحدّ، هذه النار المشتعلة لن تخمد فوق بيوتنا وينتهي الأمر هكذا، هذه النار ستأكل العالم كلّه، هذه النار ستغير وجه العالم. هذا ليس تهديداً، ومن أنا لأهدّد، وما القوة التي في يدي كي أهدد، بل هي طبيعة الأشياء: هذه النار ستأكل العالم كله، عاجلاً أم آجلاً، وسوريا هي مثال لما سيكون عليه العالم مستقبلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...