ينتظر النقد الفني كيفية تعامل الفنانون والفنانات العرب مع مستجدات عالمية، مثل وباء كوفيد-19، تجربة الحجر المنزلي وقضايا البيئة، ولهذا تبدو مشاهدة الأعمال السينمائية القصيرة، نتاج المسابقة التي أطلقها مهرجان "ريف" لأفلام البيئة، فرصة تعرفنا على أفكار عشرين صانع وصانعة أفلام لبنانية، حيال هذه الموضوعات وتكشف كيفية التعبير الفيلمي عنها. جاء في البيان الخاص بالتظاهرة: "دفعتنا جائحة كوفيد-19 والأزمة التي تلتها، إلى إعادة التفكير في تصوّرنا الكامل للعالم، وعلى وجه التحديد علاقتنا بالبيئة والطبيعة"، الفكرة التي ستبدو منطلقاً للعديد من أفلام المسابقة.
"كيف بدك تصورها؟"، السؤال الافتتاحي في فيلم "إحساس غريب، زينة صفير" يرمز لأسئلة كل فنان يحاول التعبير عن هذه الموضوعات. تبدأ الراوية في الفيلم بصناعة تقريرها الخاص عن حياتها، فيصبح الفيلم مروياً بكاميرتها وحكايتها عبر صوتها السردي. تجربة الحجر المنزلي دفعتها لمشاهدة فيديوهات العائلة القديمة، لتستحضر منها حضور والدتها المتوفاة إلى حجرها المنزلي، فتستعيد ذكرياتها وصوتها كأنها حاضرة. توفيت الأم بالسرطان نتيجة الإهمال الطبي في المستشفيات، ما يفتح الفيلم على ملف الواقع الطبي في لبنان، وتُعبر المخرجة عبر صوت الساردة أن هذا الفيلم محاولة للإضاءة على واقع الضمان الطبي في لبنان.
حتمت جائحة كورونا إعادة التفكير في تصورنا الكامل عن العالم وخاصة علاقتنا بالبيئة والطبيعة، ولهذه الغاية أعلن مهرجان "ريف" لأفلام البيئة عن نتائج مسابقته، ليعرفنا على أفكار عشرين صانع وصانعة أفلام من لبنان
من القلق إلى السكون
يحكي فيلم "بيليس بيدس، جورجيو ناصيف" عن القلق الذي يعيشه الإنسان في ظل المتغيرات العالمية التي تتم من حوله. عبر اتصال هاتفي يروي صوت السارد في الفيلم عن روتين الحياة: يوم جديد ولا شيء جديد. يروي عن الخوف والقلق من التغيرات التي تحدث حوله: "أنا خايف ما أتعود ع التغيرات الجديدة". يعترف الرواي بالحنين إلى الماضي، تمر عبر الشريط البصري صور من الذكريات، ثم يبدأ المخرج بالتلاعب بالصورة ليعبر عن القلق ومشاعر الغموض، تصبح المشاهد كاملة بالأبيض والأسود، أماكن ضيقة، ظلال متحركة، يتحول الفيلم إلى الفيديو آرت، وفي النهاية تخرج الكاميرا إلى الطبيعة ليسود الفيلم شعور بالراحة والسكون. هو فيلم عن مشاعر النفسية للقلق وإمكانية العثور على الهناءة في الطبيعة.
"الطبيعة تجدد نفسها، أحب أن أكون كالطبيعة"
نتابع في فيلم "بذرة عاطلة، أحمد الشوى"، حكاية البرازيلي موريسيو الذي باع كل أملاكه في البرازيل ليعود إلى لبنان، ويساعد والده في ظل الأزمة الاقتصادية، لكنه نقل عدوى فايروس كوفيد-19 لوالده، ما تسبب في وفاته. يفقد موريسيو كل أمواله في مرض والده ودفنه، ليجد نفسه عالقاً في لبنان بدون مال. يتعرف على جماعة تعيش في الطبيعة، وتعمل بجهد ذاتي في الزراعة. هكذا تنشأ علاقة موريسو مع الطبيعة عبر الحاجة، ليبدأ من بعدها التعبير عن آرائه في الطبيعة. ميزة الفيلم لهجته الساخرة، فهو، وبحسب تعبير شخصيته الأساسية، لا يتبنى النظرة البيئية الرومانسية إلى الطبيعة، بل يحذر بأن الطبيعة قد تصبح قاتلة للإنسان، لكنه ينهي الفيلم بمقولة: "الطبيعة تجدد نفسها، أحب أن أكون كالطبيعة".
التضحية من أجل الطبيعة
فيلم "كوكب ميت، رامي طنوس" من نوع ديستوبيا الخيال العلمي، تجري الأحداث في عام 2085، أنواع جديدة من الفايروس انتشرت وأصبح الهواء مسموماً بالكامل. مازال البشر يعيشون في الحجر، يتواصل المريض مع تطبيق app يوجه حياته. نسمع عبر الأخبار عن أذرع الأجهزة الأمنية المنشأة لمراقبة البشر في منازلهم، ونسمع خبر مقتل اثنين خرقا تعليمات الحجر الصحي. رغم كل ذلك، يقرر المريض بطل الفيلم أن يخرج إلى الطبيعة ليزرع نبتة ميتة كانت في منزله ويعيد لها الحياة. تلاحقه الطائرات الضخمة فيتخفى بين المنحدرات الصخرية ليصل إلى الطبيعة ويغرس النبتة في التربة لتستعيد الحياة، ومن ثم يرفع كمامته عن أنفه ليموت بالهواء المسموم. حكاية عن تضحية إنسانية من أجل الطبيعة في مستقبل ديستوبي ملوث.
الطبيعة هي المطهر
يقارن فيلم "المطهر، ريتا سلامة" بين الحجر المنزلي في المدينة، وبين الخلوة مع الطبيعة في الريف. يستعرض قباحة الأصوات التي تحيط بنا في المدينة وجمال الأصوات في الريف. يتكرر هذا التعارض في مجموعة أفلام المسابقة، حيث تصور الكاميرا الضيق/المدينة، ومن ثم الخروج إلى الطبيعة، حيث مشاعر الراحة والانفراج.
هلوسات العزلة السمعية والبصرية
فيلم "غرفة رقم 8، موران مطر" محاولة بصرية سمعية لتجسيد هواجس البارانويا والعصاب بالنسبة لشخصية محجورة في الغرفة. يرى الشاب ويسمع هلوسات تقارب رهاب البارانويا. ينجح المخرج في التعبير عنها وتجسيدها بصرياً وسمعياً. أما فيلم "رحلة 19، رنا زيدان" أقرب إلى الفيديو آرت: نرى ظلال نساء تتحرك على جدار من الألمنيوم، بينما نسمع أصوات القطارات تقترب. ينطق الصوت الإنساني في الفيلم جملة واحدة: "اذهب حيث تشعر بأنك على قيد الحياة"، بإشارة إلى الطبيعة.
فيلم "تابوت-19، رامي سلوم" يشبّه شرط الحجر الصحي للإنسان بالدفن في تابوت تحت التراب. يبدأ الفيلم مع استيقاظ المدفون ليجد نفسه محاطاً بجدار شفاف يمنعه عن الحركة. إنه يتوق للطبيعة ويحسد الحيوانات على حرية حركتها، لكن جذور النباتات والأشجار تلتف على جسده وتقيده أكثر إلى التربة لتخنقه. فيلم يربط رمزياً بين الموت والحجر الصحي. أما فيلم "هون وتحت، نور المجبر" فيتألف من حكاية صغيرة عن علاقة صداقة بين ابن الريف وابن المدينة، الذي يضطر مؤقتاً، وتحت ظروف كورونا والضائقة الاقتصادية، للعودة للقرية في الريف. ينتقل جاد، ابن المدينة، من حالة التذمر من العيش في الضيعة إلى حال الاكتشاف والتعرف على أنواع الشجر. فيلم يدمج الصداقة بالأزمة الاجتماعية بالتعرف على حياة الريف.
فيلم "علمني نور، هزار الزهر" هو فيلم الرسوم المتحركة الوحيد في المجموعة، وفيه حكاية أب يكتشف فوائد التقرب من الطبيعة من علاقة ابنه نور معها. تواصل الابن مع الطبيعة يدفع الأب إلى تذكر أن الإنسان والطبيعة من أصل واحد، وأن الرابط بينهما فطري. كذلك الأمر مع فيلم "حاجة للراحة، رنيم شريم" الذي يبحث عن الجانب الإيجابي من آثار الفيروس على الطبيعة والبيئة، حيث تحسنت مؤشرات نقاء الهواء، واسترجعت الأرض ظواهر طبيعية كانت قد اختفت سابقاً. تحولت الحضارة من الحرق والتدمير إلى الزرع والتشجير. يعلن الفيلم بصراحة رغبته بالبحث عن الجانب الإيجابي للشروط التي وضع فيها الفيروس الإنسان، وخصوصاً من ناحية التخفيف من التلوث البيئي.
تتميز أفلام مهرجان "ريف" اللبناني برغبة الفنانين والفنانات في التعبير عن مواضيع مستجدة على الساحة الفنية، كالحجر المنزلي، العزلة، الخوف من المستقبل والوباء، وموضوعات العلاقة مع الطبيعة، والانتقال من حياة المدينة والتأمل في الذات والحضارة
فيلم "حياتي العادية، فرح الهاشم" هو اعترافات ذاتية لفنانة تعيش في شقة بقياس 32 متراً في حي مونمارتر الفرنسي. تعترف بشوقها للخروج إلى المقاهي، إلى الشمس، وإلى تأمل جمال الحي ليلاً. تعيش هوساً مستمراً بنظافة شقتها. أما فيلم "موجود؟، روني مكرزل" فيعرض لحياة ثنائي عاشق يمنحه الحجر فرصة تأمل علاقتهما. تقول الشابة: "بتمنى كون متل الأرض، كل حياة ثانية، وكل ثانية حياة". فيلم ينجح فيه المخرج والكاتب بتقريب المشاهد من حميمية وأفكار شخصيتين تعيدان تأمل ذاتيهما، خلال فسحة توقف إيقاع الحياة السريع بسبب كوفيد-19.
أصوات الحجر المنزلي
نقرأ على شاشية بداية فيلم "حجر لوو أو Quarantivox" أن لعنوان الفيلم معنيين: الأول هو الأصوات التي فقد الإنسان القدرة على الإنصات لها، بسبب اعتياد الأذن البشرية على اهتزازات الضجيج واستغراقه في الضوضاء التي تبعده عن أحاسيس الطبيعة، والثاني هو صوت الحجر المنزلي. يستعرض لنا الفيلم مجموعة من فيديوهات الحجر المنزلي التي يصورها الأشخاص من حول العالم، ويركز على الجانب الصوتي في حياتهم. يحاول الفيلم التأسيس لمفهوم أصوات الحجر المنزلي، وربما هو يبتكر المصطلح غير الموجود سابقاً.
يروي فيلم "بين السوسن والأوركيد، خالد طالب" حكاية شقيقين أسسا مشروع سياحة بيئية في منطقة عكار اللبنانية. أنشآ خط سياحة بيئية، وعملا على مشروع توثيق النباتات، فوصلا لـ 60 نوعاً من أزهار الأوركيد، منها ما يكتشف لأول مرة في لبنان، كذلك توصلا إلى توثيق نوع جديد من أزهار السوسن، يكتشف عالمياً للمرة الأولى. كذلك فيلم "هناك حديقة في غرفتي، وسام طانيوس" يعرفنا على مشروع زراعي داخلي أقامه شابان في غرفة في منزلهما، معتمدين على تقنيات الزراعة الحوضية الحديثة. يروي الشابان علاقتهما الجديدة مع النباتات، ويشبهونها بالأطفال بالحاجة إلى الرعاية.
الطبيعة ملجأ الحماية من الوباء
تخبرنا الراوية في فيلم "العودة، يوسف خويري" بأن بيروت لم تعد آمنة، وهي لم تكن يوماً كذلك. ما يجبرها على العودة إلى القرية، ومن هنا يتحول الفيلم إلى حوارية بين صوت الراوية والطبيعة. تبرر غياب الإنسان عن الطبيعة برغبته بالتطور، ومن ثم تتلمس العفو من الطبيعة على الإهمال، بعد أن أصبحت الآن الملاذ الوحيد للنجاة من الفيروس. يذهب الفيلم إلى أسئلة أقسى: ألم يفت الأوان على عودة الحضارة الإنسانية إلى الطبيعة؟ أليست الطبيعة أيضاً انتقائية، تأخذ وتعطي ما تريد دون اكتراث بمصيرنا؟
فيلم "تأثير الانفصال، جاد سليمان" يعتمد على دراسة أجريت عن العزلة في تجربة رواد الفضاء، ليثبت أن الانتماء إلى الأرض، بمعنى الطبيعة، هو المصدر الأساسي للشعور بالانتماء.
يميز الأفلام رغبة الفنانين والفنانات في التعبير عن مواضيع مستجدة على الساحة الفنية، وقد حضرت بوضوح موضوعات الحجر المنزلي، العزلة، الخوف من المستقبل والوباء، كما حضرت أيضاً موضوعات العلاقة مع الطبيعة، والانتقال من حياة المدينة-الاستلاب إلى الطبيعة-التأمل في الذات وفي الحضارة الإنسانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع