تبين الدراسات المختصة بالإنتاج السينمائي السوري منذ العام 2011، تفرد الإنتاج الحكومي، ممثلاً بالمؤسسة العامة للسينما، بالأفلام التخييلية، بينما ينحصر الإنتاج السينمائي المستقل بمجال الأفلام التسجيلية. تتعدد الأسباب وتتنوع في تفسير هذه الظاهرة، منها القدرات الإنتاجية المالية، الخبرات التقنية والإبداعية، وكذلك الغايات المرجوة من الإنتاج السينمائي لدى كلا الطرفين. لكن بعض كتابات الفاعلين في السينما السورية المستقلة، بدأت بالوقوف موقفاً عدائياً من السينما التخييلية، معتبرة أنها سينما التلاعب والتلفيق، بينما حصرت السينما الحقيقية بالسينما التسجيلية.
إن هذا التمييز المجحف للأنواع الفيلمية في علاقتها مع الحقيقة على الشكل التالي: تخييلي/تلفيقي، توثيقي/حقيقة، يدفعنا للكتابة عن إعادة أهمية الحكاية التخييلية في الفن والتراث والمنتج الفني الإنساني، فالسينما، وإن كانت قادرة على التوثيق والتسجيل، فإن مهمتها لا تقتصر على البحث عن الحقيقة، بل بإمكانها الذهاب أوسع من ذلك، ربما بتجريب الحقيقة واختبار المفاهيم عبر روي الحكايات وتأليفها، والتي ربما تبحث عن حقيقة أوسع من الآني واللحظي أو الحدث الواقعي، حقيقة تهدف لتأمل الفكر عن طريق الحكاية، وهذا ما يمكنه التحقق عبر السينما التخييلية. كما أن سينما الحكاية أيضاً قادرة على التوثيق، ليس بطريقة تقديم الوثيقة مباشرة، لكن عبر المشاركة في صراع السرديات وقراءة الأحداث التاريخية التي تشترك كل الفنون في إعادة سردها وتوثيقها.
ما هو التخييل؟
التخييل نوع سردي يقوم على فعل القصّ أو الروي لحكاية، ويرد في قاموس أكسفورد بأنه: "نوع سردي، يقوم على الروي أو القص لحكايات مؤلفة، ليست بالضرورة على وقائع تاريخية، بل تقدم أحداثاً، أماكن وشخصيات مختلقة"، ما يدفع للاستنتاج، بأنه أسلوب سردي يهدف إلى الابتكار وليس النقل، ويعتمد على التأليف وليس على الإخبار.
تتعدد مظاهر التخييل في الحضارة الإنسانية، فهي تمتد من الأساطير إلى الحكايات الشعبية، تحديداً الأمثولات التي تعلم الأخلاق، مثل حكايا الحيوانات، أو الحكايات الخرافية التي تعتمد أساساً على التخييل لتمرر العبر والأخلاق، وصولاً لفنون تحضر فيها الحكاية والسرد بوضوح، مثل المسرح، القصة، الرواية، ومن بعدها السينما. فالتخييل إذن، هو تأليف حكاية للسيناريو، ليكون حاملاً للمعنى أو الغاية المرجوة منه.
إن قصة خلق العالم في ستة أيام، وحكاية آدم وحواء وكل ما هو معروف عنها، مازالت مقنعة لجزء كبير من حضارتنا المعاصرة، أكثر مما هي عليه نظرية الاصطفاء الطبيعي وتكيف الأحياء التي برهن عنها تشارلز داروين في "أصل الأنواع"
قوة الحكاية التخييلية
هذا ما يقودنا للحديث عن قدرة الحكاية وتأثيرها الهائل في تشكيل الوعي البشري، وفي تكوين الثقافة الإنسانية، سواء كانت مختلقة أم حقيقية. فالمعتقد الإنساني يقوم على الحكايات، سواء الموجودة في الأساطير، الحكايات الشعبية، أو الديانات. فمثلاً، إن قصة خلق العالم في ستة أيام، وحكاية آدم وحواء وكل ما هو معروف عنها، مازالت مقنعة لجزء كبير من حضارتنا المعاصرة، أكثر مما هي عليه نظرية الاصطفاء الطبيعي وتكيف الأحياء التي برهن عنها تشارلز داروين في "أصل الأنواع". وبالتالي، إن الحاجة الإنسانية إلى الحكاية يماثل حاجته إلى الحقيقة، فالحكايات هي التي تبرر كل ما هو خارج حدود المعرفة، ولتوضيح ذلك يعرف كلود ليفي شتراوس الأسطورة، بأنها الحكايات التي تبرر العالم، وجوده وعلاقاته، وهنا يجب التوضيح بأن السرد عن طريق الحكاية، القصة أو حتى المسرح، والذي يعتمد على التخييل، هو سابق على التاريخ، أي السرد الذي يعتمد التوثيق. فعلم التاريخ تفرع واستقل عن الفلسفة والأدب مع كتاب "تاريخ هيرودتس، 440 ق.م" والذي يعتبر أول كتاب في التاريخ يفكر بالسرد الموثق والمبني على وقائع حقيقية، ومن خلال هذا الكتاب تميز التاريخ عن الأدب والمسرح، بعد أن كان جزءاً منهما.
ذلك لأن قوة الحكاية التخييلية وتأثيرها لا يرتبطان بمصداقيتها أو حقيقتها التاريخية، ولكن بقدرتها على حث الذهن الإنساني على التأمل والتفكير، وعلى استنباط التأويل الكامن داخل المعنى. لذلك تستعمل الحكايات المتخيلة في التربية وغرس طرق التفكير والسلوك، فالاهتمام لا ينصب على مصداقية الحكايات التي ترويها الأساطير، الديانات، التاريخ، الحكايات الشعبية والأدب، بل على مدى ترابطها كبنية سردية، وعلى المضامين التي تحملها، وعلى التأويلات المستخرجة منها.
وحين نتذكر أن سيغموند فرويد في القرن العشرين، اعتمد على تحليل شخصية تخييلية من المسرح الإغريقي، وهي شخصية أوديب في مسرحية سوفوكليس، لتأسيس علم النفس، وكذلك لجأ رينيه جيرار إلى شخصيات تخييلية من أدب دوستويفسكي وبروست ليثبت نظريته الحديثة عن تشكل الرغبة الإنسانية. وهذا يعني أن الحكايات التخييلية تحمل ما هو أبعد من الحقيقة، لأنها تضمر إمكانية تجريب الحقيقة واكتشافها عبر التخييل، فبراعة التأليف القصصي هو في إيجاد الحكاية الأدق في التعبير عن المفهوم المراد التعبير عنه من خلالها، كما هو الحال مثلاً مع رواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، والتي تبرهن بحكايتها المتخيلة أن كل جريمة تحقق على الأقل أثر عقوبتها على مرتكبها بشعوره وإحساسه بالذنب. فالدقة في تركيب الحكاية، هي مدى قدرتها على معالجة فكرة أو التعبير عن مفهوم، مثل الحب، الخيانة، الصداقة وغيره، وهذا ما يسمى بالحكاية المفاهيمية، المركبة للتعبير عن مفهوم.
السينما، وإن كانت قادرة على التوثيق والتسجيل، فإن مهمتها لا تقتصر على البحث عن الحقيقة، بل بإمكانها الذهاب أوسع من ذلك، ربما بتجريب الحقيقة واختبار المفاهيم عبر روي الحكايات وتأليفها، والتي ربما تبحث عن حقيقة أوسع من الآني واللحظي أو الحدث الواقعي
عناصر الفيلم التخييلي
القصة: ما يميز الفيلم التخييلي هو اعتماده على قصة، وقد يؤلف صانع الفيلم هذه القصة، أو يلجأ إلى أعمال قصصية وأدبية موجودة سابقاً، وطبعاً في كلا الحالتين يتطلب الأمر سيناريو مكتوباً، ما لا يتطلبه بالضرورة الفيلم التسجيلي. ولذلك فإن السيناريو التخييلي الأفضل هو الذي يقدم قصة مركبة بطريقة أدق للتعبير عن معنى، وبالتالي تلك التي تمتلك حتمية في الاحتمالات، من بداية ووسط ونهاية. فمثلاً، لايمكن تغيير النهاية في مسرحية فاوست دون التأثير على مضمون القصة، كما أنه يتوجب على شخصية جوزيف ك في رواية "المحاكمة" لكافكا، أن ينحر عنقه بالسكين على قارعة الطريق بنفسه، بدلاً من موظفي النظام البيروقراطي الذي يحاكمه، لأن هذه النهاية وحدها تمنح القصة معناها وتأويلها، بأن النظام البيروقراطي يدفع الأفراد إلى الشك الدائم ومراقبة أنفسهم لدرجة إقدامهم على إنزال العقوبات بأنفسهم.
الحبكة: بمعنى السؤال الأخلاقي الذي يطور القصة. في فيلم جارهيد لسام ميندز، الذي يستند أيضاً إلى كتاب مذكرات لماري زوفورد، يتابع مهمة فصيل من الجيش الأمريكي في العراق بتفاصيل يومياته وتفاهتها وتدريبه وخوفه. وفي المشهد الأساسي في الفيلم، يطلق الجنود الرصاص في الصحراء بلا غاية، فيلم يكشف عبر تفاصيل الأحداث فيه عبثية الحرب. يختار فلوران دونسمارك في فيلمه "حياة الآخرين"، قصة عميل مخابرات في ألمانيا الشرقية، يتنصت على حياة مخرج مسرحي وزوجته الممثلة، من شقة في الطابق الأعلى، علاقة التنصت على الثنائي العاشق يقود العميل إلى التقرب إنسانياً ووجدانياً منهما، بينما تتأكد الوقائع بأن المخرج المسرحي يتواصل مع النظام الحاكم في ألمانيا الغربية. إن الحبكة هنا تتطور لتثبت التعاطف الإنساني في وجه الرقابة البوليسية.
ابتكر أورويل عالماً يحكمه الأخ الأكبر بأنظمته وقوانينه، مطوراً تخييلاً لا يبتغي الدقة، بل تحفيز الخيال لتخيل هذه العوالم. ورغم العديد من الروايات التوثيقية والسير الذاتية الرامية لتوصيف تجربة العيش في الأنظمة الشمولية، ماتزال رواية "1984" هي الأكثر حضوراً في الذهن، رغم عدم اعتمادها على أحداث واقعية
اختيار الحامل السردي أو زاوية السرد: في الفيلم العربي الوحيد الحائز على سعفة كان الذهبية "وقائع سنوات الجمر"، ولسرد مرحلة دقيقة من تاريخ الجزائر، اختار المخرج الجزائري الأخضر حامينا مع الكاتب رشيد بوجدرة، جعل الحكاية مروية من وجهة نظر مجنون، كدلالة على ضياع الحقيقة عن العالم العقلاني. وكذلك في فيلم "عازف البيانو"، يختار المخرج رومان بولانسكي شخصية موسيقي في الراديو البولندي، ليروي عبر حكايته، واقعة الاجتياح النازي لبولندا، لتلك الحساسية الخاصة التي تحيط بعالم الموسيقى، والفيلم هو رواية أساساً للكاتب فاديك سيزبيلمان. أيضاً، في "حرب باردة" يختار المخرج باول باولوسكي، حكاية معلم موسيقي وطالبته في الكورال الغنائي المدرسي، وعبر التعرف على الموسيقى التراثية البولندية، نتلمس قدرة الأنظمة على التلاعب بالتراث لغاياتها، وينتهي الثنائي العاشق إلى الانقسام تجاه القرار بالتوجه إلى الغرب الأوربي، فرنسا، فتتفرق المسارات. المثال النموذجي هو فيلم "الحياة حلوة" لروبرتو بينيني، وفيه يحاول الأب اليهودي إيهام ابنه الصغير بأن المعتقل الذي يعيشون فيه ما هو إلا استديو يصور فيه فيلم سينمائي، ليضع كل من عوالم الطفولة وعوالم العنف وجهاً لوجه. ويعتمد زياد الدويري في فيلم "بيروت الغربية" على حكاية ثلاثة أطفال يحملون كاميرا ويجولون في شوارع المدينة، ليجعل من رحلته تصويرهم للمدينة أساساً لفيلمه.
يمكن أيضاً التجريب في النوع الفيلمي، من الموسيقي إلى الهزلي إلى الدرامي. يختار ميلوش فورمان نوع الفيلم الموسيقي، لإدانة الحرب الأمريكية على فيتنام في فيلم "هير"، وهو بالأساس كتاب موسيقي لجيمس رادو. وهنا يجدر التذكير بأن اختيار العوالم الشرطية بعناية يؤدي إلى نتائج دقيقة، فما تزال رواية "1984" لجورج أورويل التخييلية هي الأكثر إسهاماً في توصيف الأنظمة الشمولية وتمكين القراء من تخيلها. لقد ابتكر أورويل عالماً يحكمه الأخ الأكبر بأنظمته وقوانينه، مطوراً تخييلاً لا يبتغي الدقة، بل تحفيز الخيال لتخيل هذه العوالم. ورغم العديد من الروايات التوثيقية والسير الذاتية الرامية لتوصيف تجربة العيش في الأنظمة الشمولية، ماتزال رواية "1984" هي الأكثر حضوراً في الذهن، رغم عدم اعتمادها على أحداث واقعية. قبله، في العام 1932، استعمل ألدوس هسكلي التخييل للتنبؤ بالنظام الحاكم في عصر ما بعد التكنولوجيا والفضاء، حيث الفرد مسير بالبرمجيات. فيلم "فهرنهايت 451" لفرانسوا تروفو تخيل العصر المستقبلي الذي سيتم فيه إحراق الكتب من قبل رجال الإطفاء، يتم هنا تخيل النظام الشمولي كونه ذلك الذي يحمي درجة الفهرنهايت لإحراق الكتب.
العوالم النفسية والجمالية والذهنية: الاختيار الدقيق للعوالم يمكن أن يكون بنفسه كقراءة إضافية إلى جماليات مجريات الفيلم، كما في فيلم "السيرك الأخير" لأليكس ديلا أكليسيا، حيث يجند النظام الإسباني في 1937، ثلاثة مهرجي سيرك، وعبر حكايتهم يأخذ التعبير عن الجنون الشمولي والعنف في الفيلم أبعاده القصوى، كذلك يقدم المخرج الإسباني غيرلرمو ديلتورو، تداخلاً بين عوالم الحكايات الخرافية، التي يرى أن كائناتها وحدها من يمكن أن تحكي عن الحرب الأهلية للأجيال القادمة في فيلم "متاهة بان"، كذلك في مسرحية "فيلم أمريكي طويل" لزياد الرحباني، يسمح تركيز نماذج الحرب الأهلية اللبنانية في مشفى للأمراض العصبية والعقلية، بالنقاش المنفلت من رقابة العقل والمجتمع.
الشخصيات: على مستوى الاهتمام بالشخصيات يذكر الكولونيل والتر كوولتز، الذي يلعبه مارلون براندو في فيلم "القيامة الآن"، المأخوذ عن رواية سابقة للحدث التاريخي الذي يمثله الفيلم، ولهذا نورده في هذا النص، لنذكّر أخيراً بأفلام اختارت للتعبير عن حدث سياسي روايات سابقة بالتاريخ على الحدث المراد التعبير عنه. يختار كوبولا رواية من القرن السابع عشر لجوزيف كونراد، للتعبير عن الحرب الأمريكية على فيتنام، كذلك يختار بازوليني رواية "سالو" للماركيز دو ساد، المكتوبة في القرن السادس عشر، لإسقاطه على الهوس الأخلاقي في النظام الفاشي الإيطالي 1904.
الموقف الأخلاقي: أخيراً، يحرص مبتكرو الحكايات التخييلية على إظهار موقفهم الأخلاقي من الموضوع الذي يعالجونه بأفلامهم، فيصنع أوليفر ستون في فيلم "الفصيلة" فيلماً عن الحرب لإدانة الحرب، وكذلك أكيرا كوروساوا في فيلم "أحلام"، ففي حلم النفق مثلاً يلحق جنود الكتيبة الموتى بقائدهم الذي بقي على قيد الحياة، معتقدين بوحدة المصير، بينما هم موتى وقائدهم على قيد الحياة.
هكذا بيّنا إمكانات الحكاية التخييلية في السينما، وحددنا بعض العناصر الأساسية التي تؤسس لحكايات جيدة تتحول إلى التصوير السينمائي عبر السيناريو، وقدمنا لمجموعة نماذج فيلمية تسعى لتصوير حدث تاريخي عبر الحكايات التخييلية، كالحروب، توثيق العنف، نقد الأنظمة الشمولية، أو الجرائم ضد الإنسانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع