يمكن تشبيه الحب بـ"وصفة" طعام مؤلفة من مكونات معيّنة تضمن الحصول على مذاق شهي ولذيذ، وكلما كانت المكونات ذات جودة عالية كلما نجحت الوصفة ونالت استحسان من يتذوقها.
وعلى ما يبدو، إن إضافة "رشة" من اللطف و"رشة" أخرى من السخاء، يشكلان ما يعرف بـ"الوصفة السحرية" التي يعتمدها الكثير من الأزواج من أجل إنجاح علاقاتهم العاطفية.
مختبر الحب
"الحب كالشعلة، في حال انطفأت تترك أثراً لا يذهب أبداً".
لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي، بدأ علماء الاجتماع بالانكباب على دراسة الزيجات، من خلال إحضار الأزواج الى المختبر لمراقبتهم وتحديد عناصر العلاقة الصحية.
هل كانت العائلات البائسة غير سعيدة بطريقتها الخاصة، كما ادّعى تولستوي في رواية آنا كارنينا، أم أن الزيجات البائسة لديها قاسم مشترك يسممها؟
طوال العقود الأربعة الماضية، درس عالم النفس جون غوتمان، الآلاف من حالات الزواج بهدف معرفة العوامل الكامنة وراء نجاح العلاقة، وفي العام 1986 بدأ بجمع أهم الأدلة لديه، فأسس "مختبر الحب" مع زميله روبرت ليفنسون من جامعة واشنطن، بحيث قام الباحثان بإحضار الأشخاص المتزوجين حديثاً إلى المختبر ومشاهدتهم وهم يتفاعلون مع بعضهم البعض.
وبمساعدة فريق من الباحثين، تم وضع أقطاب كهربائية للأزواج، بعدما طلب منهم التحدث بإسهاب عن علاقتهم، كالكشف عن الطريقة التي التقوا بها، الصراع الكبير الذي واجهوه معاً والذاكرة الإيجابية الموجودة لديهم.
وأثناء حديثهم، تم قياس تدفق الدم لديهم، معدل ضربات القلب ومقدار العرق الذي يتصبب منهم، وبعدها أرسل الباحثون الأزواج إلى منازلهم وتابعوا معهم عملية المراقبة لمدة 6 سنوات، بغية معرفة ما إذا كانت العلاقة قد استمرت أم لا.
من خلال البيانات التي تم جمعها، قسم غوتمان الأزواج إلى مجموعتين رئيسيتين: "السادة" وهم الأزواج الذين لا يزالون سعداء معاً بعد مرور 6 سنوات، و"الكوارث" أي الأزواج الذين انفصلوا عن بعضهم، أو الذين كانوا غير سعداء بشكل مزمن في زيجاتهم.
إضافة "رشة" من اللطف و"رشة" أخرى من السخاء، يشكلان ما يعرف بـ"الوصفة السحرية" التي يعتمدها الكثير من الأزواج من أجل إنجاح علاقاتهم العاطفية
وعندما قام الباحثون بتحليل البيانات التي جمعوها عن الأزواج، لاحظوا وجود اختلافات واضحة بين "السادة" و"الكوارث"، فقد بدا الأشخاص من فئة "الكوارث" هادئين خلال المقابلات، ولكن فيزيولوجيتهم كانت تروي قصة مختلفة: معدلات ضربات القلب سريعة، الغدد العرقية نشطة وكان تدفق الدم سريعاً.
وعليه وجد غوتمان أنه كلما كان لدى الأزواج نشاط أكبر من الناحية الفيزيولوجية في المختبر، كلما زادت سرعة تدهور علاقاتهم مع مرور الوقت.
ولكن ما علاقة الشق الفيزيولوجي بكل ذلك؟
في الواقع لقد أظهر الأشخاص الذين ينتمون إلى فئة "الكوارث" كل مؤشرات الاستجابة للقتال أو الفرار في علاقاتهم، بحيث كان وقع إجراء محادثة بجوار شريكهم، على أجسادهم، بمثابة المواجهة مع نمر ذي أسنان بارزة، وحتى عندما كانوا يتحدثون عن جوانب لطيفة أو عادية لعلاقاتهم، كانوا مستعدين للهجوم، وهذا ما أدى إلى ارتفاع معدل ضربات القلب وجعلهم أكثر عدوانية تجاه بعضهم البعض.
في المقابل، أظهر الأزواج "السادة" نشاطاً فيزيولوجياً منخفضاً، بحيث أنهم شعروا بالهدوء والترابط معاً، الأمر الذي تُرجم إلى سلوك هادىء وودود، حتى عندما كانوا يتشاجرون مع بعضهم البعض.
ذلك لا يعني بأن "السادة" لديهم، بشكل افتراضي، تركيبة فيزيولوجية أفضل من "الكوارث"، بل أن الثنائي من "السادة" كان قادراً على خلق أجواء من الثقة والحميمية التي جعلت كلا الطرفين أكثر عاطفية، وبالتالي كانت العلاقة مريحة من الناحية الجسدية.
السخاء العاطفي
بغية معرفة المزيد حول كيفية قيام "السادة" بخلق ثقافة الحب والإلفة، قام جون غوتمان في العام 1990، بتصميم مختبر في حرم جامعة واشنطن، ليبدو وكأنه ملاذ جميل للمبيت وتناول وجبة الفطور، ودعا 130 ثنائياً تزوجوا حديثاً لقضاء اليوم في هذا المختبر، وحرص على مشاهدتهم وهم يقومون بما يفعله الأزواج عادة أثناء الإجازة: الطبخ، التنظيف، الاستماع إلى الموسيقى، تناول الطعام، الدردشة والتسكع.
وتوصل غوتمان إلى اكتشاف حاسم يكمن وراء نجاح بعض العلاقات وفشل العلاقات الأخرى: الأزواج الذين يمتلكون اللطف والسخاء هم أكثر عرضة للحفاظ على علاقتهم العاطفية.
فقد لاحظ الباحث أنه طوال اليوم، كان بعض الشركاء يقدمون "طلبات الاتصال"، ما أسماه غوتمان بـ"العطاءات"، على سبيل المثال عندما لاحظ الزوج الذي يحب الطيور وجود حسون ذهبي عبر الفناء، قال لزوجته: "انظري إلى هذا الطائر الجميل في الخارج"، والواقع أن الزوج من خلال قوله هذا، لم يعلّق على الطائر، بل كان يطلب رداً من زوجته، وهو دليل على الاهتمام أو الدعم والرغبة في التواصل.
وأوضح غوتمان أنه في هذه الحالة، تجد الزوجة نفسها أمام خيارين: الرد إما عن طريق "التوجه نحو" أو "الابتعاد عن" زوجها، وعلى الرغم من أن هذا المثال يبدو بسيطاً إلا أنه يكشف الكثير عن صحة العلاقة، فالزوج في هذه الحالة اعتبر أن الطائر مهم بدرجة كافية لإثارة الحديث، والسؤال هو ما إذا كانت شريكته تعترف بذلك وتحترم تفضيلاته.
واللافت أن استجابة الأشخاص نحو شركائهم قد اختلفت، ففي حين أن البعض أبدى اهتماماً ودعماً، فإن البعض الآخر رفض أن يستجيب أو أن يرد، وواصل القيام بما كان يفعله، مثل مشاهدة التلفاز أو قراءة الصحيفة، مع العلم أنه في بعض الأحيان جاء رد البعض قاسياً، كالقول: "توقف عن مقاطعتي، أنا أقرأ".
وأوضح غوتمان أن "السادة" يقومون بمسح البيئة الاجتماعية بحثاً عن الأشياء التي يمكن تقديرها، شارحاً ذلك بالقول: "إنهم يبنون ثقافة الاحترام والتقدير عن قصد، أما 'الكوارث' فيفحصون البيئة الاجتماعية بحثاً عن أخطاء الشركاء".
هذا ووجد الباحثون أن "الازدراء" هو العامل الأول الذي يشرذم الأزواج، فالأشخاص الذين يركزون على انتقاد شركائهم يخسرون 50% من الأشياء الإيجابية التي يقوم بها الآخر، كما أنهم يلحقون الضرر بالعلاقة من خلال جعل الطرف الآخر يشعر أنه دون قيمة، وعليه فإن الأشخاص الذين يعاملون شركاءهم باحتقار وينتقدونهم، فإنهم لا يقتلون الحب في العلاقة فحسب، بل يقتلون أيضاً قدرة شريكهم على مكافحة جميع المشاكل والصعوبات.
اللطف
تطرق الكثير من الفلاسفة والعلماء لمسألة البقاء على قيد الحياة، وهي غريزة أساسية تعني البحث عن النفس، إلا أن داروين الذي درس التطور البشري، لم ير في الحقيقة أن الجنس البشري مركب بيولوجياً على فكرة المنافسة والاهتمام بنفسه، بل اعتبر أن التعاطف مع الآخرين ورعايتهم هي أمور غريزية.
البحوث الحالية تدعم هذه الفكرة، بحيث أثبت العلم أن إقدامكم على تخصيص الموارد للآخرين، بدلاً من امتلاك المزيد والمزيد لأنفسكم، يؤدي إلى الإحساس بالرفاهية.
والحقيقة أنه يمكن تشبيه اللطف بـ"الغراء" أو اللاصق الذي يربط الثنائي، فقد وجد الباحثون أن اللطف (إلى جانب الاستقرار العاطفي) هو أهم مؤشر للرضا والاستقرار في الزواج، بحيث أنه يجعل كل شريك يشعر بأنه محبوب وبأن هناك من يعتني به ويفهمه.
أما التعبير عن اللطف، فقد يكون من خلال كلمة لطيفة، ابتسامة، مساعدة الآخر والتعبير بصدق عن أهمية الشريك بالنسبة لنا.
واللافت أن هناك طريقتين للتفكير في اللطف: إما التفكير به كميزة ثابتة تكون في الأصل موجودة لدى الشخص أو لا، أو التفكير به "كعضلة"، بحيث تكون تلك العضلات أقوى لدى بعض الناس بفعل تمرينها، و"السادة" يفكرون في اللطف من هذا المنطلق، ويدركون أن العلاقة الجيّدة تتطلب عملاً شاقاً بشكل مستمر.
وما لا شك فيه أن أصعب وقت لممارسة اللطف، هو بطبيعة الحال، عند نشوب النزاعات والخلافات، ولكن هذا هو أهم وقت لكي يظهر المرء لطفه لشريكه، بخاصة وأن ترك العدوانية تخرج عن السيطرة أثناء النزاع من شأنه أن يلحق ضرراً لا رجعة فيه في العلاقة.
وعليه إذا كنتم تريدون أن تكون لديكم علاقة مستقرة وصحية، مارسوا اللطف وتدربوا عليه.
وفي هذا الصدد، غالباً ما يفكر الناس أن اللطف يعني القيام بأفعال صغيرة تدل على السخاء، مثل شراء الهدايا لبعضهم البعض، إلا أنهم يجهلون أنه يمكن دمج اللطف في "العمود الفقري" للعلاقة، من خلال الطريقة التي يتفاعل بها الشركاء مع بعضهم البعض على أساس يومي، وخاصة لجهة أن يكون المرء سخياً مع نوايا شريكه: لنفترض مثلاً أن الزوج ترك عمله في وقت مبكر حتى يتمكن من قضاء أمسية رومانسية مع شريكته، إلا أنه انزعج كثيراً بسبب عدم وصول زوجته في الموعد المحدد، لكن اتضح في وقت لاحق أن الأخيرة تأخرت لكي تشتري له هدية، وعندما وصلت إلى المطعم لاحظت أن مزاج شريكها متعكر لمجرد أنه أساء تفسير الدافع وراء سلوكها، وعليه يمكن القول إن القدرة على تفسير تصرفات الشريك ونواياه قد تؤدي إلى تخفيف حدة الصراع الحاد.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن استراتيجية اللطف قد تتمحور أيضاً حول "تقاسم الفرح".
في إحدى الدراسات التي أجريت في العام 2006، قامت الباحثة النفسية شيلي غابل وزملاؤها باحضار بعض الأزواج إلى المختبر لمناقشة الأحداث الإيجابية التي حصلت في حياتهم، وقد أراد العلماء أن يعرفوا كيف سيستجيب الشركاء للأخبار الجيدة لبعضهم البعض، وقد تبين أن الأشخاص الذين أبدوا اهتماماً حقيقياً بفرح شريكهم كانوا أكثر عرضة للبقاء معاً، فالاستجابة البناءة النشطة ارتبطت أيضاً بجودة العلاقة وبالمزيد من الحميمية بين الشركاء.
لا شك أن هناك العديد من الأسباب التي تكمن وراء فشل العلاقات، ولكن في الغالب يكون غياب اللطف هو سبب تدهور العلاقة، ففي الوقت الذي تتراكم فيه الضغوطات الطبيعية للحياة، قد يبذل الأزواج جهداً أقل في علاقتهم ويتركون الانتقادات البسيطة تنخرها.
وفي معظم الزيجات، تنخفض مستويات الرضا بشكل كبير خلال السنوات القليلة الأولى، ولكن بالنسبة للأزواج الذين لا يتحملون عبء الحياة فحسب، بل يعيشون بسعادة لسنوات وسنوات مع بعضهم البعض، فعلى الأرجح أن روح اللطف والكرم هي التي توجه خطواتهم إلى الأمام.
قبول الآخر
من جهته، اعتبر الأخصائي في علم النفس هاني رستم أن علاقة الحب هي "أبعد من مجرد أن يكون المرء لطيفاً وسخياً" مع الطرف الآخر، منوهاً بوجود عنصر أساسي لنجاح العلاقة وهو: قبول الطرف الثاني وعدم الحكم عليه.
وفي هذا الصدد، قال رستم لرصيف22: "أن نحب يعني أن نتقبل عيوب الآخر، نقصه، زلاته وأن نحتضن كل صفاته حتى إن كانت سلبية".
"عندما نقبل بعضنا من دون أحكام مسبقة، يعني ذلك أنه بامكان كل طرف أن يكون على طبيعته، عوضاً عن وضع قناع مزيّف يولد في داخلنا شعوراً بالاضطهاد وبعدم الراحة"
وأوضح أنه في العادة، عندما تبدأ شرارة الحب، فإن المرء ينظر إلى الشريك على أنه شخص "مثالي" و"مجرد من العيوب"، إلا أنه مع الوقت تظهر الكثير من الأمور التي تعكس شخصية الطرف الآخر وطباعه، وهي "أمور قد تكون بعيدة عن المثالية"، على حدّ قوله.
هذا وأشار هاني رستم إلى أن قبول الآخر يعني عدم الحكم عليه، وهو جزء كبير ورئيسي من الحب: "عندما نقبل بعضنا من دون أحكام مسبقة، يعني ذلك أنه بامكان كل طرف أن يكون على طبيعته، عوضاً عن وضع قناع مزيّف يولد في داخلنا شعوراً بالاضطهاد وبعدم الراحة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...