"لم يسأل عني أحد منذ قرابة خمس عشرة سنة، رغم أنني مررت بأحلك الفترات، خاصة بعد إصابتي بالسرطان، حتى أنني حُرمت من زيارة مسقط رأسي حيث قبرا والدي ووالدتي"، تروي الخالة زهرة ما حدث لها، وذلك بعد مُطالبتها بحقها في تركة والدها.
تتحدث زهرة أنها قضت نصف عمرها تشعر بالحزن لأنها فقدت مشاعر أشقائها الإيجابية حيالها، بعد أن طالبت بحقها "الشرعي" في ميراث والدها، الذي أوصاهم قبل وفاته بإعطاء كُل ذي حق حقه، وتقول إن أجمل العلاقات التي كانت تجمعها بهم في الصغر انهارت، وانقطعت أمتن الصلات، بعدما رفضوا التجاوب مع مطلبها، واضطرت إلى اللجوء إلى القضاء للحصول على حقها من التركة.
وتُضيف زهرة لرصيف22: "دخولي إلى أروقة المحكمة جعلني في دوامة الحقد والانتقام والكراهية، حتى أنني حُرمت من زيارة مسقط رأس أجدادي هُروباً من نظرات الناس إلي، لأن المرأة التي تطالب بحقها من الميراث يُنظر إليها وكأنها ارتكبت خطأً فادحاً لا يغتفر شبيه مثلاً بالمرأة التي لم تحافظ على "شرفها" في عيونهم، فأبنائي اليوم لا يعرفون المكان الذي ولدت وكبرت فيه، وأضطرُ بين الحين والآخر إلى سرد قصص لهم عن أرض أجدادي وعاداتنا وتقاليدنا".
"تبرأوا مني"
تُشير زهرة إلى أن "المرأة في العديد من المناطق، التي لا تزال الأعراف والتقاليد هي سيدة الموقف فيها، بالأخص في منطقة القبائل، لا تُحرم الواحدة من الميراث فحسب، بل لا يحق لها أيضاً تكوين ثروة رغم أن القوانين الجزائرية أنصفتها كثيرًا في هذا المجال".
وتتابع زهرة حديثها: "لم يطرق أشقائي بابي منذُ 28 سنة، حتى عندما صارعت السرطان في المستشفى، كنتُ أتُوق شوقًا لرؤية أحدهم يطرقُ باب غرفتي. حتى خلال الأعياد التي جرت فيها العادة أن تجتمع العائلة ببيت كبيرها، كُنت أقضيها مع أطفالي وزوجي معزولة عنهم".
"دخولي إلى أروقة المحكمة جعلني في دوامة الحقد والانتقام والكراهية، حتى أنني حُرمت من زيارة مسقط رأس أجدادي هُروباً من نظرات الناس إلي، لأن المرأة التي تطالب بحقها من الميراث يُنظر إليها وكأنها ارتكبت خطيئة لا تغتفر"
تقول زهرة إن هدفها الوحيد من وراء حصولها على نصيبها من تركة والدها هو مُساعدة أبنائها على إنجاز مشاريع استثمارية، غير أن أشقاءها كانوا يرفضون ذلك، خوفاً من ذهاب أملاكهم إلى زوجها، باعتباره شخصاً غريباً عن العائلة، ولهذا السبب، تُؤكد زهرة، أن العديد من المناطق الجزائرية، خاصة في منطقة القبائل، يرفضون تزويج بناتهم من غرباء.
"منعوني من التصرف"
مليكة سيدة جزائرية في العقد السادس من عُمرها من مُحافظة بجاية، تُوفي زوجها بعد صراع طويل مع المرض، بعد أن ضاقت السبل بها فكرت في استرداد حقها في ميراث والدها، وهو عبارة عن أراضٍ خصبة تُنتجُ زرعاً كثيراً.
تقول مليكة: "عندما فاتحت أشقائي برغبتي في الحصول على نصيبي من الميراث، لم يُعارضوا علنًا، لكنهم وضعوا شرطًا تعجيزيًا هو عدم بيعه لأي شخص أجنبي، وعدم التصرف به دون إذنهم، لأن الأرض في مسقط رأسي، الأوراس، رمز عائلي لا يجوز التصرف به".
بعد ذلك اضطرت مليكة إلى اللجوء إلى القضاء للحصول على حقها كاملاً، بعد أن لجأت في البداية إلى أعيان القرية التي تقطن فيها، لكنها لم تصل إلى نتيجة. لاحقًااضطرت إلى بيع كل مصاغها، والاقتراض لتغطية أجور المحامي، ومصاريف القضاء.
ورغم أن العدالة الجزائرية أنصفتها إلا أنها لا تزال تعاني من تعنت أشقائها، الذين يرفضون فكرة بيعها تركتها، حتى أنهم تخلوا عن صلة القرابة التي تجمعهم بها.
أما سهام، في العقد الرابع من عمرها من محافظة الجزائر العاصمة، درست الصيدلة، وتتطلّع إلى فتح صيدلية، غير أن هذا الحلم صعب المنال بسبب تكاليفه المادية الباهظة. وفكرت سهام التي مر على زواجها خمس سنوات في مطالبة أشقائها الستة بنصيبها من ميراث والدهم.
تقول لرصيف22 إنها كانت الفتاة المدللة عندما كان والدها على قيد الحياة، لكن بعد وفاته لم تحظ بأي حب من أشقائها الستة، وكانت في خلاف دائم معهم، لأنها حاولت فرض قرارها بخصوص ممتلكات والدها، وتُشير إلى أن الهوة اتسعت بينها وبينهم كثيراً، وأصبحوا يعاملونها بقسوة شديدة، بعد أن طالبتهم بحقها من الميراث، حتى زوجها لم يسلم من سوء معاملتهم له، وكانوا يتهمونه بتحريضها على المطالبة بحصتها.
"وثيقة حرمت المرأة من ميراثها"
في سياق متصل، ذكرت دراسة نشرها أستاذ التاريخ الجزائري محمد أرزقي فراد أن قصة إقصاء المرأة من الميراث في بعض المناطق الجزائرية، تعود إلى وثيقة تم توقيعها سنة 1974 بأعالي جبال جرجرة (أشهر مناطق الجزائر السياحية)، يُطلقُ عليها اسم "وثيقة كوكو" نسبة إلى مملكة "كوكو"، التي تأسست عام 1511 عند سفوح جبال جرجرة في منطقة القبائل الأمازيغية شرق الجزائر، واستمرت حتى عام 1730.
تمنع هذه الوثيقة تحويل الأراضي إلى ملّاك آخرين أو أشخاص أجانب على اعتبار أن الأراضي الفلاحية رأس مال أهل المنطقة، وهو الوضع الذي ينطبق على كل من السيدة مليكة وزهرة.
ويذكُر أرزقي فراد، في دراسته التي تحمل عنوان "واقع حرمان المرأة الجزائرية من الميراث"، أن المسألة مُرتبطة بمُختلف المناطق التي تنتشر فيها الزوايا. ويقول إن عدة مناطق لجأت إلى عدم تزويج بناتها من رجال من خارج العائلة، وهو الأمر الدارج في مناطق العرُوش التي يُسيطر عليه النظام القبلي، وقد تفشت هذه الظاهرة بعد الوثيقة التي تم توقيعها سنة 1749.
تعود قصة هذه الوثيقة، وفقاً لما كشف عنه فراد، إلى فتوى دينية، توارثتها الأجيال عدة قرون. أبطال الحكاية بحارة من الجيش العثماني، تم حجزهم في الأندلس لمدة فاقت عشرين سنة، فتزوجت نساؤهم الجزائريات في فترة غيابهم، وتحولت أملاكهم إلى رجال آخرين، وعندما جرى إطلاق سراحهم عادوا إلى الجزائر في وقت وقعت حرب أهلية طاحنة، بسبب تلك الأملاك، فلجأ أهل المنطقة إلى تحرير هذه الفتوى حتى لا يذهب نصيب المرأة إلى زوجها الغريب عن العائلة.
"تُمنع المرأة من ميراث الأراضي لعدة أسباب أبرزها أن قيمة الأراضي الزراعية مرتفعة، وهو ما جعلها محل أطماع الورثة الذكور الذين يتحايلون، ويتفقون على حرمان أخواتهم من الميراث"
ويعلق الحقوقي الجزائري بوجمعة غشير: "تعتبر الأرض في بعض المُحافظات خطاً أحمر لا يجوز للمرأة وراثتها. القانون الجزائري عمل في هذا المجال بحسب ما تنص عليه مقاصد الشريعة الإسلامية، غير أن بعض الممارسات الاجتماعية التي برزت في المجتمع لا ترقى إلى ما تضمنه القرآن"، على حد تعبيره.
ويُؤكد غشير أن أروقة العدالة تعرف قضايا متنوعة متعلقة بالنزاعات القائمة حول قسمة الميراث، خاصة تلك المتعلقة بقضايا إنكار النسب، إضافة إلى المشاكل الأخرى التي تشمل الزوجة بعد وفاة زوجها.
وتكشفُ دراسة حديثة أعدها المرصد الجزائري للمرأة سنة 2013 عن أن المرأة لا تزال تحرم من الميراث بسبب الأعراف في مناطق قبلية.
وبحسب ما ورد في الدراسة، فإن المرأة في هذه المناطق يُسمح لها في أحسن الأحوال بميراث الأموال والذهب، لكنها تُمنع من ميراث الأراضي لعدة أسباب أبرزها أن قيمة الأراضي الزراعية مرتفعة، وهو ما جعلها محل أطماع الورثة الذكور الذين يتحايلون، ويتفقون على حرمان أخواتهم من الميراث بحجة أنهم تعبوا على هذه الأراضي، التي لا يُسمحُ إطلاقاً بتقسيمها على "الأصهار" أي أزواج الأخوات ولو تطلب الأمر التزوير والقتل.
في هذا السياق، تقول الناشطة الجمعوية دليلة حسين لرصيف22 إن القانون الجزائري استمد أحكامه بخصوص الميراث من الشريعة الإسلامية، لكن في بعض المناطق تجبر قوة العادة السائدة المرأة على التنازل عن حقها وإلا فإن أشقاءها سيتبرأون منها.
وتختم حسين: "تضطر المرأة أحياناً إلى توقيع أوراق التنازل، علماً أن قضية كهذه يصعب على القانون معالجتها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين