خلاصة كتاب أومبرتو إيكو الشهير، "تاريخ القبح"، هي أن الجمال إيجابي دائماً، إذ يمكن ملاحظته والإشارة إليه والتحدّث عنه بلا تردد ولا خجل. يمكن تخيّله أيضاً، والاحتفاء به، بغض النظر عن علاقته بالزمن.
صحيح أن هناك معايير زمنية تحدد الجمال وفقاً للزمن الذي يكون الجمال حاضراً فيه، لكن تخيّله ممكن دائماً وإنْ كان مشروطاً بهذه المعايير.
وخلاصة الكتاب هي أن تعريف البشاعة ليس ممكناً، وفي أحسن الأحوال، ليس سهلاً. بعينين مغمضتين، إذا تذكّرنا 17 تشرين الأول/ أكتوبر في لبنان، ربما سيتسنى لنا التصديق. يمكننا على الأقل أن نأخذ وقتاً مستقطعاً من السياسة وننظر حولنا، إلى الجمال، وإلى البشاعة، بعيني أومبرتو إيكو.
فِتنة القمع... في غرام العنف
عموماً، يعتبر اللبنانيون الانتفاضة، أو أن معظمهم اعتبرها في بداياتها، حدثاً جميلاً. لا تنسحب عليه معايير الجمال التي يتحدث عنها إيكو في قراءته الطويلة للجمال والبشاعة في الفنون الإيطالية، لكن في ثنائية الجمال/ القبح، كانت الصفة الأولى هي الطاغية غالباً.
تغزّل المشاركون بالعلم اللبناني، ولم يكن غَزَلاً ناتجاً عن عصبية وطنية، بل على الأرجح كان غزلاً بالنزعة المسالمة للاعتراض، والتي سرعان ما تحوّلت، تدريجياً، إلى الاعتراض نفسه.
هذه ليست قراءة سياسية للانتفاضة، بقدر ما هي محاولة لرصد مظاهر غلبت عليها صفة "الجمال"، بالنسبة للمتحدثين عنها، كما لو أن استعارة صفات أخرى كانت صعبة، وأن "الجمال" هو الصفة المناسبة للاعتراض. كان تصنيف محاولة العصيان على هذا النحو، على ما يبدو، خياراً فاشلاً.
قد لا يكون ذلك جميلاً بأي حال. وقد لا يكون الجمال مرجعاً فعلاً. بالعودة إلى أسئلة إيكو المحيّرة، في كتابه، سنجد أن الأجوبة ليست متوافرة دائماً. لماذا لا يحبّ الناس الجمال دائماً؟ سنشاهد في السينما أحياناً أشخاصاً يرمون أنفسهم من أماكن مرتفعة، أو يطلقون النار عشوائياً، ويطعنون بعضهم البعض بالحراب والرماح، لكننا سنحب المشهد، وقد نعيد تلك اللقطات مجدداً.
في "السلاحف يمكنها أن تطير"، للمخرج الإيراني الكردي بهمان غوبادي، تقفز "أغرين" من مكان مرتفع، ويبقى صوتها معلقاً في مكانه. لكننا سنجد بين المشاهدين مَن يحبّون هذا المشهد العنيف، ويتأثرون كل مرة يشاهدونه فيها.
هناك، حسب إيكو، مَن يميل إلى مشاهدة أفلام متخصصة في الرعب، ولا وظيفة لها سوى الرعب. سنكتشف أن هناك مَن يجد البشاعة مسألة جميلة في النهاية، فالتمييز بين البشاعة وبين القسوة والعنف والكراهية ليس سهلاً دائماً، لشدة ارتباط "الشر" بالبشاعة.
بين كثير من الأحداث، بيّنت "الغزوات" التي وقعت باتجاه الساحتين الأساسيتين للانتفاضة لقمع المشاركين فيها عن مسألتين أساسيتين، من خارج النقاش التقليدي عن علاقات القوة وحدود استخدام السُلطة.
المسألة الأولى، صعوبة تخيّل البشاعة عن قرب، أو تمييز الجمال من البشاعة، في المواقف، أو في الأحداث، كما بيّنت بالتحديد، إلى جانب تفسيرات كثيرة متخصصة ومتعددة، ميلاً جماعياً إلى الاحتفاء بالقبح. فكما أن هناك أشخاصاً يميلون لمشاهدة العنف في السينما، وينتظرون الفرصة لوضع أقنعة مخيفة على رؤوسهم في مناسبات خاصة وأثناء حفلات تنكرية، وربما في مواعيد أخرى، هناك أشخاص مفتونون بالعنف من خلف الأقنعة، ويعبّرون عن إقصائهم من مصنفات "الجمال"، باستعارة المعنى وإسقاطه على اللحظة بشروطهم الخاصة. وقد ظهر هؤلاء في الانتفاضة أيضاً.
"بعينين مغمضتين، إذا تذكّرنا 17 تشرين الأول/ أكتوبر في لبنان، ربما سيتسنى لنا التصديق أن تعريف البشاعة ليس ممكناً. ولكن يمكننا على الأقل أن نأخذ وقتاً مستقطعاً من السياسة وننظر حولنا، إلى الجمال، وإلى البشاعة، بعيني أومبرتو إيكو"
هذا العرض لا يهدف إلى تقييم الانتفاضة، ولا إلى تقييم السلوك العنيف في قمعها نظراً للنقص الهائل في الأدوات المنهجية اللازمة لذلك، بل يهدف للوصول إلى تفسير بسيط للاحتفاء بالقبح. وإنْ كانت الانتفاضة بتظاهراتها وكونها نفسها ظاهرة اعتُبرت حدثاً جميلاً من المشاركين فيها والتواقين إلى المشاركة، فالعدة المضادة ضدها ولقمعها لم تكترث لكونها قبحاً، ذلك رغم أن أشخاصاً يضربون أشخاصاً آخرين بالعصي، ويحرقون خيمهم، ثم يضحكون في النهاية، يجعل الأمر برمته يبدو أشبه بفيلم رعب. وهناك فعلاً مَن يحب أفلام الرعب. والانتفاضة في جانب معكوس منها، من جهة قامِعيها تحديداً، تثبت شيئاً من نظريات إيكو: هناك مَن يحبّ القبح.
ثنائية الزعيم الجميل/ القبيح
هناك اعتراف بالبشاعة بكونها بشاعة. نوع من الاتفاق على تسميتها باسمها. والأشخاص الذين يرتكبون جرائم تنسحب صفة الجريمة نفسها عليهم، وهي البشاعة. لكن إيكو يعتقد أن هناك نزعة إنسانية عموماً للتسامح مع القبح، والتعاطف معه، وبالتالي إلى قبوله. هل ينسحب هذا على زعماء الحرب اللبنانيين، أو على ما يُسمّى بالقادة السياسيين؟
مع مرور الأيام، بدأ زخم الانتفاضة يتراجع. وبدأ الزعماء اللبنانيون التقليديون يظهرون مجدداً. في السياسة يمكن القول إنهم استعادوا زمام المبادرة، أو أشياء أخرى كثيرة. في علم الاجتماع هناك تفسيرات وافرة أيضاً. لكن إذا افترضنا، وفقاً لمنهجية إيكو، أن هناك عِلماً للقبح، فربما يمكننا تفسير ظهور هذه الشخصيات التدريجي.
رغم أن الناس تواجه القبح بالنفور، إلا أن نظريات السيميائي الإيطالي تؤكد وجود نزعة عميقة عند البشر للتصالح معه، واعتباره جميلاً. وإنْ كان إيكو يحاول التماثل مع شخصيات الحقبة الفيكتورية في الفنون التشكيلية، ليفهم موقعها في التاريخ، والنظرة إليها في سياق ثنائية الجمال والقبح، إلا أنه يخلص، في إحدى أفكاره اللامعة، إلى جاذبية القبح. يعطي مثالاً سهلاً لا يمكن إنكاره: جاذبية الشيطان، بملامحه المتوحشة والمحمّلة بكل التصورات الممكنة عن الشرّ وبشاعة الشرّ.
"اللبنانيون، خلال الانتفاضة، صار بإمكانهم الحديث عن وحوش في التلفزيون أيضاً. صاروا في النهاية بمثابة مجموعة من الأطفال الكبار. ثمة قبح في المختبر اللبناني، أخرجته الانتفاضة ووضعته على الطاولة. المشهد ليس جميلاً تماماً"
في آخر الانتفاضة، كان الزعماء السياسيين اللبنانيون، على تنوعهم، وبتفاوت حضورهم في الشرّ وفي إدارة القمع، قد استعادوا "جاذبيتهم"، بالمعنى السيميائي للكلمة، وليس السياسي طبعاً، كشياطين متصالحة مع طبيعتها. هناك نزعات لبنانية في تقبل الزعيم الجميل/ القبيح. ولتحديد المعيار الأساسي، النظر ليس كافياً من الزاوية نفسها، بل في الزمن نفسه.
إيكو نفسه، في مقابلة مع "لا نوفيل أوبسرفاتوار" الفرنسية، يمنحنا مثلاً قيّماً آخر: "لا يمكن التعرّف إلى هرقل إلا من قبل الذين شاهدوا هرقل". نحن نرسم صوراً لهرقل.
وبعد التاريخ، قد لا يتبقى من صورة الزعيم إلا ما تبقى من صورة هرقل: الخيال. ما نتحدث عنه هو شخصيات رأيناها قبل عام بالضبط (17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019)، ولا نتحدث عن هرقل. تالياً، يمكن موافقة إيكو مجدداً: القبح لا ينتهي، لا يمكن حصره، لأنه لا متناه. التعاطف الفني مع الذين ألصقت بهم صور الجحيم والسِحر والخوف لا يمكن استعارته في حالة الزعيم المحلي الذي يفْرط في اكتساب القبح، وحشود الجماهير التي تتجاهل قبحاً واضحاً فيه يمكن معاينتها بسهولة.
شرعية البشاعة
في مقابلة أخرى، مع "ماغازين فيغارو"، يستفيض إيكو في شرحه للعلاقة بين القبح وبين قضايا أخرى تتجاوز الأشكال في العمل الفني. يتبع المعنى الكامن خلف التسمية، في ظل وجود حياة أمامنا يشوبها الظلم والشرّ إلى جانب سلسلة طويلة من أوصاف الرذيلة.
ليس القبح برأيه نقيضاً للجمال، طالما أنه قادر على التبدل كمفهوم. أما المعايير التي تسهم في تبدّله واكتسابه صفته التي يحمل اسمها، فهي ليست مرتبطة بالجمال، وهي مرتبطة حسب إيكو بمعايير سوسيولوجية وبدرجة موازية سياسية.
هكذا، لا يعود القبح شيئاً يمكن قياسه بالمسطرة، أو الموافقة عليه بكل بساطة. ليس علماً اختبارياً، بل عبارة عن مجموعة فرضيات. وإنْ كانت المعايير اجتماعية وسياسية، فليس هناك مكان أفضل من الانتفاضة اللبنانية كمسرح للحقيقة، أو كمختبر لصناعة الأحداث الاجتماعية والسياسية، لمعاينة المعايير التي نتحدث عنها.
في آخر الانتفاضة، كان الزعماء السياسيين اللبنانيون، على تنوعهم، وبتفاوت حضورهم في الشرّ وفي إدارة القمع، قد استعادوا "جاذبيتهم"، بالمعنى السيميائي للكلمة، وليس السياسي طبعاً، كشياطين متصالحة مع طبيعتها
حتى وقت طويل، والحديث لإيكو أيضاً، كان اللاجئ الأجنبي بشعاً دائماً. ليس لأنه أجنبي، إنما لأنه ليس جميلاً. مواقف مثل هذه حضرت في الانتفاضة اللبنانية التي حاولت أن تكون أكثر رحابة، وأنتجت في بداياتها تعريفات جديدة للجمال وللبشاعة. فقد شارك لاجئون في مسرح الحقيقة، ولكن بخجل، أو نتيجة خوف، من ظهور الارتباط القديم بين "الغريب" و"القبح".
عملياً، لم يستمد النظام الذي أعاد إنتاج نفسه قوته من السياسة، لأنه لا يوجد سياسة في لبنان. وإلى جانب التحليل الماركسي الذي يمكنه الحديث عن انتصار طبقة على أخرى، يمكن القول أيضاً إن النظام اللبناني، في هزيمته الساحقة للانتفاضة، استمد قوته من شرعية القبح أيضاً، والتي توازي أي شرعية أخرى. لا أحد يقف في وجه القبح لأنه قبح، بل تتستر البشاعة دائماً خلف السياسة والأخلاق والمفاهيم المعقدة الأخرى.
لا يحدث هذا في لبنان وحسب، فهناك مديح دائم للشرّ في التاريخ. يسمّي إيكو هذا بالخبث العمومي، أي أنه ليس شخصياً، بل إنه يكتسب صفة العمومية، نظراً للموافقة الجماعية على حدوثه من دون اضطرابات أو اعتراضات. سيؤدّي الإفراط في القبول مع هذه النوعية من القبح، حسب إيكو، إلى مجازر وإلى حروب، وتالياً إلى عنف، وسنذهب في دورة سببية. قبول القبح يؤدّي إلى العنف والعنف ينتج القبح، ونعود إلى البداية. سرعان ما يتهرب إيكو من هذه اللعبة، ويلقي اللوم على العالم الذي يعاني من تلوث في حاسة الذوق.
ما يميّز الحاضر عن الماضي هو إعلان الشرّ ومديح القبح باستخدام أدوات تكنولوجية متطورة ومن دون حياء. لتفسير خلاصاته، يتحدث أومبرتو إيكو عن كيفية مشاهدة الأطفال للرسوم المتحركة في التلفزيون وهم جالسين إلى طاولة الطعام، بينما تكون الوحوش في الشاشة.
أما اللبنانيون، فخلال الانتفاضة، صار بإمكانهم الحديث عن وحوش في التلفزيون أيضاً. صاروا في النهاية بمثابة مجموعة من الأطفال الكبار. ثمة قبح في المختبر اللبناني، أخرجته الانتفاضة ووضعته على الطاولة. المشهد ليس جميلاً تماماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت