عندما تحملك قدماك إلى جولة في أسواق وفضاءات المدينة العتيقة في العاصمة تونس، أو "المدينة العربي" كما يسميها التونسيون، حيث تزدحم الحركة بين الرائحين والغادين، ستفاجئك أسماء الأنهج والشوراع والساحات، قبل أن يسترعي اهتمامك طابعها المعماري الجميل الذي يسجّل تاريخها على مرّ العصور.
تحفظ الأنهج والشوارع المتلاصقة للمدينة العتيقة في تونس، والتي يعود تاريخها إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، تاريخ المدينة بل جزءاً لا يُستهان به من تاريخ البلاد منذ أواسط القرن التاسع عشر، وتحديداً العهد الحفصي الذي سبق الاحتلال الفرنسي لتونس. ولكن أسماء عدد من تلك الأنهج باتت أمراً يزعج المقيمين هنالك، حتى أن بعضهم يتبرّم من ذكر عنوان سكنه أمام أصدقائه.
أحد أنهج المدينة العتيقة التي انطمست اللافتات التي تحمل أسماءها.
نهج القحطي وصباط الظلام
عبد الكريم بن موسى، رجل ستيني، يدير ورشة نجارة في أحد الأنهج التي انطمست اللافتة التي تحمل اسمه، بعد أن أكل عليها الدهر وشرب، وزالت بفعل عمليات الترميم أو التزويق التي يقوم بها السكان.
يقول عبد الكريم لرصيف22: "هذا المكان يُدعى زنقة الخبا"، و"الخبا" في اللهجة التونسية القديمة هي الخيمة التي تغطّي المكان وسط المنزل أو أمامه، ويضيف: "لم يعد لهذه اللافتة وجود إما بسبب عمليات الترميم أو لرغبة السكان في إزالتها وتعويضها بلافتة تواكب العصر".
ويضيف: "هناك العديد من الأسماء التي نخجل حتى من ذكرها أمام أصدقائنا ليعرفوا عنوان سكننا، منها نهج القحطي (من القحط) ونهج مصدور المدينة ونهج الكانون (المدفأة التقليدية) ونهج الكبدة ونهج المر وغيرها من الأسماء التي تجاوزتها عجلة الحضارة وصارت مصدر حرج للسكان وللزائرين على حد سواء".
يشير إلى أن "هذه الأسماء تبدو مستهجنة رغم ما تحمله من رمزية تاريخية وحضارية"، مبدياً اعتقاده بـ"أنه حان الوقت لمراجعة البعض منها مثل نهج القحطي أو نهج الظلام وإطلاق أسماء زعماء أو مشاهير تونسيين عليها".
توجد المئات من الأسماء الغريبة للشوارع والأنهج والصبابيط، والصباط في العامية التونسية هو الحذاء ويطلق أيضاً على النهج الذي يكون جزء منه مغطى، وسمي كذلك لأن شكله يشبه شكل الحذاء.
الصباط، أي النهج الذي يكون جزء منه مغطى.
الدوائر البلدية المشرفة على صيانة المعالم التاريخية لمدينة تونس قررت ترميم الشوارع والأنهج، ولكنها رفضت تغيير الأسماء، رغم تلقيها مطالب بذلك من السكان، إذ تعتبر أن الأسماء هي جزء من الموروث التاريخي والاجتماعي للبلاد منذ ما يزيد عن قرن من الزمن.
لكل نهج تاريخ وقصة
"لكل شارع قصة وتاريخ ومغزى وراء تسميته. تبدو الأسماء للوهلة الأولى هجينة وغير مواكبة للتطور الحضاري والمعماري للمدينة، ولكن وراءها حكاية طويلة، وأعتقد أن ذلك هو السبب الذي يدفع السلطات إلى عدم الاستجابة لمطالب السكان بإعادة تسمية الأنهج والشوارع"، يقول أحمد المشري (74 عاماً) لرصيف22.
توجد المئات من الأسماء الغريبة للشوارع والأنهج والصبابيط، والصباط في العامية التونسية هو الحذاء ويطلق أيضاً على النهج الذي يكون جزء منه مغطى، وسمي كذلك لأن شكله يشبه شكل الحذاء
يرى المشري الذي ولد في منطقة باب سويقة، أحد أقدم أبواب وأحواز العاصمة تونس، أن تلك الأسماء ظلت شاهدة على تعاقب الحقبات التاريخية والمراحل السياسية والاجتماعية والحضارية التي عاشتها العاصمة، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من تاريخها.
ويضيف: "منذ أن فتحتُ عيناي في هذه المنطقة وأنا أعرف الأنهج والشوارع بأسمائها القديمة. لم يتغيّر شيء ولا يبدو أن الأسماء ستنطمس حتى وإنْ انطمست اللافتات أو أزيلت. كل نهج يحمل قصة وتاريخاً، فنهج الظلام هو النهج الذي كان المستعمر الفرنسي يعذّب فيه المقاومين وسُمّي كذلك لأنه كان مظلماً وكانت عمليات التعذيب تجري داخل أقبية قريبة منه، أما نهج الكبدة فسُمّي كذلك لوجود الجزارين فيه، في حين سُمّي نهج المشنقة بذلك الاسم لوجود مشنقة قديماً فيه، إذ كانت عمليات تنفيذ أحكام الإعدام تتم فيه".
يحفظ المشري شوارع المدينة العتيقة كلها ويقول لرصيف22: "ما سُمّي نهج أو صباط أو زنقة أو شارع إلا وكان له قصة تحفظها المدونة الشعبية للبلاد ويأتي عليها المؤرخون، بل إن هناك شوارع تبدو أسماؤها مثيرة للاستهجان ولكنها تتردد على ألسنة الناس جميعهم مثل نهج المرّ ونهج الجيعان ونهج الزنجي، أو تبدو طريفة مثل نهج سيدي قضاي الحوايج أو نهج سيدي البهلول أو نهج السميد (القمح المطحون) وغيرها".
"لكل شارع قصة وتاريخ ومغزى وراء تسميته. تبدو الأسماء للوهلة الأولى هجينة وغير مواكبة للتطور الحضاري والمعماري للمدينة، ولكن وراءها حكاية طويلة"
رمزية تاريخية
تحمل بعض الأنهج والشوارع في مدينة تونس العتيقة أسماء بعض الأولياء الصالحين، بتأثير من الطريقة الصوفية في تونس، ويحمل بعضها الآخر أسماء مهن وحرف كان أصحابها يمارسون نشاطهم هناك، فنهج القصابين كان يوجد فيه عادة الجزارون ونهج الدباغين كان يعمل به من تخصصوا في دبغ وصباغة الجلود والملابس والأحذية فيما يوجد نهج العطارين أيضاً وإلى حد الآن توجد فيه محلات تبيع التوابل والعطور والأعشاب الطبيعية.
تقول آمال المدب، رئيسة جمعية صيانة مدينة تونس: "المدينة العتيقة تُعتبر من التراث العالمي وهي مسجلة في قائمة المنظمة الدولية للثقافة والتربية والعلوم (اليونسكو) منذ سنة 1979 وبالتالي فإن أي تغيير في نمطها المعماري وفي معالمها التاريخية وتراثها اللامادي يُعتبر مساً بوروثها الثقافي، وتسمية الأنهج والشوارع هي جزء من ذلك".
وتضيف لرصيف22: "لا أعتقد أن بلدية تونس تعتزم تغيير أسماء بعض الأنهج والتي في حقيقة الأمر تبدو أحياناً غريبة، لكن إذا رجعنا إلى تاريخ تسميتها نجد أن لها معنى وقصة وجب المحافظة عليها، لما تحمله من دلالات تاريخية ومن رمزية لماضي المدينة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.