توفي أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر عن عمر يناهز 91 عاماً كان خلالها شاهداً على كثير من الأحداث المفصلية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، منها إقامة دولة إسرائيل في فلسطين وقدوم القوات الأمريكية إلى منطقة الخليج.
رحل الأمير عن الكويت تاركاً وراءه أزمات داخلية لم تجد طريقها إلى الحل، منها أزمة البدون الذين بقوا من غير جنسية لعشرات السنوات طيلة حكمه، وأزمات أخرى إقليمية، لكن يحسب له نقاده أنه حافظ على هامش كبير من الحرية والديمقراطية لم تشهده دولة خليجية أخرى.
الأبرز في رحيل الأمير أنه غادر وسط غموض حول هوية خليفته، إذ كان قد انقلب على العرف السائد في العائلة الحاكمة بتعيين أخيه غير الشقيق ولياً للعهد، بدلاً من اختيار شخصية من فرع السالم.
وزيراً للخارجية
عندما تولى الأمير الراحل عبدالله السالم الصباح مقاليد الحكم عام 1950، قرر إبعاد الجيل القديم من الأسرة الحاكمة وتقديم جيل الشباب لتسلّم مقاليد الأمور، استعداداً لاستقلال البلاد عن بريطانيا.
وعليه كان صباح الأحمد أحد شباب العائلة الحاكمة الذين تولوا مناصب في الإدارة الجديدة للبلاد، فتولى عام 1954 عضوية "اللجنة التنفيذية العليا" والتي كانت توازي مجلس الوزراء، ثم تولى رئاسة دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل ودائرة المطبوعات والنشر.
رحل أمير الكويت تاركاً وراءه أزمات داخلية لم تجد طريقها إلى الحل، منها أزمة البدون، وأزمات أخرى إقليمية، لكن يُحسب له أنه حافظ على هامش كبير من الديمقراطية لم تشهده دولة خليجية أخرى، وجنّب الكويت أن تصبح طرفاً في أزمات المنطقة
وأصبح وزيراً للإرشاد والإعلام في 17 كانون الثاني/ يناير عام 1962، وهي وزارة الإعلام حالياً، وبعد عام واحد تم تعيينه وزيراً للخارجية حتى عام 2003، باستثناء عام 1991، عندما خرج من التشكيلة في أول حكومة بعد تحرير الكويت ليعود إلى منصبه عام 1992.
على مدار أربعين عاماً، ارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بسياسات الكويت الخارجية وحشد الدعم الدولي لتحرير بلاده، إلى أن قام بمصافحة تاريخية مع نائب الرئيس العراقي عزت إبراهيم الدوري في بيروت خلال القمة العربية عام 2002.
في الواقع، ارتبطت صورة الكويت طوال السنوات الماضية ذهنياً بصورة الأمير الراحل المبتسمة في كل المحافل واللقاءات التي بثتها وسائل الإعلام في حياته.
كان يُنظر إلى الأمير الراحل منذ عام 2001 على أنه الحاكم الفعلي لدولة الكويت، في ظل تدهور صحة الأمير جابر الصباح، وتأكد هذا الاعتقاد حينما أصبح رئيساً للوزراء بموجب مرسوم أميري عام 2003 وبدأ يقاسم الأمير في سلطاته.
كانت استراتيجية الأمير الراحل تتمحور حول مساعدة الدول العربية، وغالباً ما كان يبادر إلى تقديم قروض للدول المحتاجة، كما تولى أدوار الوساطة خلال النزاعات الإقليمية والعربية، منها الأزمة الخليجية.
عام 2016، أطلق الأمير الراحل مبادرة تاريخية لاستضافة مباحثات السلام اليمنية، برعاية الأمم المتحدة، وتدخل بشكل مباشر لضمان نجاحها. ويسجل له أنه كان قد ساهم عام 1972 في إبرام اتفاق السلام بين شطري اليمن لوقف الحرب الأهلية بينهما، ونجح عام 1980 في قيادة وساطة بين سلطنة عمان واليمن لنزع فتيل صراع كاد يضرب البلدين.
نجح في تجنيب دولة الكويت العديد من الصراعات، منها الأزمة الخليجية، وجعل من بلاده دولة وسيطة، كما أبعد الكويت عن الصراع الإيراني السعودي ومنع اندلاع أزمة مع الرياض على خلفية اكتشاف آبار نفطية متنازع عليها بين البلدين.
في المحصلة، نجح الأمير الراحل في أن يحافظ على استقلالية القرار الكويتي، من أزمة حصار قطر إلى رفض التطبيع مع إسرائيل، وعدم حضور مؤتمر البحرين لدعم الفلسطينيين عام 2019، ثم مؤتمر إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تفاصيل "صفقة القرن" في البيت الأبيض.
قيادة الكويت
عندما تم تعيين الشيخ صباح الأحمد رئيساً للوزراء في 13 تموز/ يوليو 2003 ، كانت المرة الأولى التي يُعهد فيها بهذا المنصب إلى شخص آخر غير ولي العهد.
جاء قرار فصل المنصبين بعد صراع بين فرعي العائلة الحاكمة، الجابر والسالم، خلف الكواليس للسيطرة على منصب رئيس الوزراء وولي العهد.
تولى منصب ولي العهد الشيخ سعد عبد الله الصباح وهو من فرع السالم، ثم تولى بعد وفاة الأمير جابر الأحمد حكم الكويت، لكن استقال بعدها بتسعة أيام فحسب لأسباب قيل إنها صحية.
في الحقيقة، لم تكن أسباب صحية فحسب، فالرجل تمت الإطاحة به من منصبه في البرلمان، قبل وصول خطاب التنازل، وذلك بضغوط من فرع الجابر الذي تمسك بضرورة تولي صباح الأحمد المنصب على الرغم أن عُرف العائلة ينص على تداول السلطة بين الفرعين.
في ذلك الوقت، شعر الكثير من الكويتيين أن الشيخ صباح كان مفرطاً في طموحه وسعيه لتولي العرش، إذ تم اتهامه بالوقوف وراء إرسال السجلات الصحية للشيخ سعد إلى البرلمان، ليثبت عجز الأمير جسدياً وذهنياً.
مع وفاة الأمير، تزداد التساؤلات حول المشهد الكويتي القادم، لا سيما وأن الأمير كان قد عيّن، عام 2006، أخيه الأصغر الذي يوصف بالأضعف في العائلة الحاكمة ولياً للعهد. وحسب التقاليد، كان يُفترض أن يختار خلفاً من فرع آل سالم لكنه تخلى عن هذا التقليد
بحلول عام 2008، أصبح صباح الأحمد سلبياً في التعامل مع التحديات السياسية التي تواجه الكويت. يعزو البعض ذلك إلى الاكتئاب الذي شعر به بعد وفاة ابنته المحبوبة سلوى عام 2002، والبعض الآخر إلى وضعه الصحي وإجرائه جراحة في القلب وتقدمه في السن.
يتفق كثيرون أن صباح الأحمد بعد توليه قيادة البلاد لم يعد لديه الشغف والطاقة للحكم التي تميز بهما خلال ولايته كرئيس للوزراء ووزير للخارجية.
ومع ذلك يختلف البعض مع هذا الرأي ويشير إلى أنه كان يشرف بشكل مفصل على تعيينات الموظفين، ويعتقد أن دوره كان كبيراً ولكنه غير مرئي، والدليل على ذلك رحلاته الخارجية واستقباله قادة العالم. يشير أصحاب هذا الرأي إلى طبيعة الشيخ صباح الأحمد الذي كان لقبه داخل دوائر الأسرة بـ"التمساح" بسبب ميله إلى الظهور مبتسماً وهادئاً، ثم "يضرب بذيله" أي شخص يخرج عن الخط.
الحاجة للتغيير
مع حلول عام 2009، بدأ الكويتيين يشعرون بالحاجة إلى التغيير، وظهر شعور بالإحباط العام من قرار الأمير ببقاء ابن أخيه الشيخ ناصر المحمد في منصب رئيس الوزراء.
زاد الإحباط لدى كثير من الكويتيين وشعروا أن تنحي الشيخ ناصر لن يقدم أو يؤخر شيئاً في المشهد، لأنهم بدأوا بالاعتقاد أن عائلة آل الصباح الحاكمة ليس لديها كثير من المرشحين الذين يمكن أن يتولوا وظيفته، خصوصاً مع تصاعد الخلافات الداخلية.
في تلك المرحلة كان عدد من المفكرين الكويتيين يرغبون في رؤية عضو كفء وديناميكي من الأسرة غير الحاكمة يتم تعيينه في منصب رئيس الوزراء، على الرغم أنهم يدركون معارضة آل صباح وتقاليدها الطويلة لهذه الخطوة.
وبدأ بعض الكويتيين يتهامسون بأن القيادة العليا في الكويت تتمحور حول الذات، فضلاً عن افتقارها إلى الرؤية، وأن الأمير الراحل خيب للآمال بعدما توقعوا أن يكرر مسيرته الناجحة والحاسمة التي اشتهر بها طوال 40 عاماً كوزير للخارجية.
مع انفجار تظاهرات الربيع العربي عام 2011، شهدت الكويت اعتصامات ومسيرات واحتجاجات ضد رئيس الوزراء شارك فيها سياسيون من مختلف الأطراف، بما في ذلك الإسلاميين والليبراليين والمحافظين.
وفي تشرين الأول/نوفمبر، استقالت الحكومة الكويتية ليهدأ الشارع الكويتي الذي بدأ سخطه يصل إلى انتقاد الأمير الذي كان متردداً في قبول الاستقالة، بينما تعرض عدد من الناشطين المشاركين في الاحتجاجات إلى الملاحقة الأمنية بعدما طالبوا بملكية دستورية.
كان الشيخ صباح الأحمد يتخذ موقفاً مناهضاً للثورات في العالم العربي، ومع ذلك شهدت الكويت انفراجة سياسية سمحت بإجراء انتخابات برلمانية فاز فيها التيار الإسلامي بأغلبية، لكن سرعان ما تم حل البرلمان عام 2012 من قبل المحكمة العليا التي يعين الأمير قضاتها.
في عام 2014، كشف عضو بارز في الأسرة الحاكمة وهو الشيخ أحمد الفهد الصباح أنه يملك أدلة على مخطط انقلابي وفساد "واسع النطاق" في هرم السلطة في الكويت. تم التعتيم على هذه القضية إعلامياً ليخرج الفهد ويعتذر عبر تلفزيون الكويت، نافياً وجود محاولة انقلاب، قبل أن يسافر للخارج حيث يمضي معظم وقته فيما غاب العديد من شركائه عن المشهد.
مع وفاة الأمير، تزداد التساؤلات حول شكل المشهد الكويتي القادم، لا سيما وأن الأمير كان قد عيّن، عام 2006، أخيه الأصغر الذي يوصف بالأضعف في العائلة الحاكمة الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح ولياً للعهد. وحسب التقاليد، كان من واجب الأمير أن يختار خلفاً من فرع آل سالم لكنه تخلى عن هذا التقليد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...