لطالما انقسم اللبنانيون بين مؤيد للقضية الفلسطينية وبين مَن ورث نظرة تأسست على تاريخ من المواجهة مع الفصائل الفلسطينية المسلحة. ورغم انتهاء النزاع المسلح على الأرض، مع نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن الفئة الثانية من اللبنانيين لم تتغلب على آثاره في نفوسها.
في أولى سنوات طفولتي، لم أكن أعلم ما الذي يحصل حولي، لكنني لا زلتُ أذكر بعض المشاهد غير الواضحة حول مسلحين متواجدين في بلدتنا الجنوبية الوادعة يطلق عليهم الجميع اسم "الفدائيين". كانت لهجتهم مختلفة عن لهجتنا. أذكر أيضاً أننا كنّا نهابهم كثيراً.
طبعاً، لم تعنِ لي كلمة "فدائي" أي شيء حينها، ولم أفهم متى رحل هؤلاء المسلحون عن البلدة ولا كيف، إنما فهمتُ لاحقاً أن الدبابات الإسرائيلية أعادتهم إلى مخيم "عين الحلوة" الذي لا يبعد كثيراً عنّا.
ثم اختفى الفدائيون من حياتي ونسيت وجودهم، وفي الوقت نفسه كنت أكبر وأسمع عن المخيمات الفقيرة حيث يعيش شعب طُرد من أرضه. مع ذلك، استمرّت بعض الاشتباكات المسلحة بين الفصائل الفلسطينية وقوى عسكرية أخرى في المنطقة، لكن غير مسيحية هذه المرة.
كل ذلك يبدو الآن كالسراب. بعد سنوات من هذه الأحداث، بدأت أقرأ عن السياسة في لبنان، وتعرّفت أكثر على الدور المأساوي الذي لعبته الفصائل الفلسطينية في وطني وكيف حاولت جعل لبنان وطناً بديلاً بمعاونة أطراف لبنانية، وقرأت وسمعت أيضاً عن المجازر التي ارتُكِبت بحق الفلسطينيين والتي أضيء عليها محلياً وعالمياً والمجازر التي ارتكبها الفلسطينيون بحق اللبنانيين الذين تواجهوا معهم، وهي مجازر لم يُضاء عليها كثيراً. وفهمت أن الفلسطينيين هم أولئك الفدائيين الذين أعادت ذاكرتي إحياءهم فجأة.
كمسيحية تعتنق حبّ لبنان، بدأت تنمو في داخلي مشاعر غضب تجاه اللاجئين الفلسطينيين، وشعرت أيضاً بالغضب تجاه اللبنانيين الذين قاتلوا إخوتهم اللبنانيين لأجل القضية الفلسطينية.
غضبي كان كبيراً ولم أهتم لكون الدولة اللبنانية وضعت عراقيل عدّة أمام اللاجئين تمنعهم من الاندماج في المجتمع اللبناني، وأبرزها حرمانهم من الحق بمزاولة معظم المهن وتحديداً تلك التي تحتاج إلى شهادات عالية، ورفضها منح الأم اللبنانية المتزوجة من فلسطيني الهوية اللبنانية لأولادها.
ودخلت إلى شاتيلا
ثم حصل ما لم يخطر بالحسبان حين دخلتُ للمرة الأولى إلى أحد المخيمات الفلسطينية: إنه مخيم شاتيلا في بيروت، والعبور إليه لا يتم إلا سيراً على الأقدام. ركنتُ سيارتي في منطقة محاذية تُدعى أرض جلول وتوجهتُ نحو تلك البقعة أستكشفها للمرة الأولى.
التاريخ 4 آب/ أغسطس 2020. الساعة حوالي الثانية والربع من بعد الظهر. كان يوماً عادياً من أيام الصيف لكن في لبنان لا شيء عادياً، إذ كنّا نتخبط في أزمة اقتصادية لا مثيل لها وفيروس كورونا يتفشى بطريقة جنونية. ومع ذلك، كان عليّ القيام بدراسة لصالح مؤسسة تهتم بشؤون اللاجئين، لمعرفة مدى انخراط الشباب الفلسطينيين الذين يتابعون تعليمهم الجامعي في ميدان العمل في لبنان.
حين اجتزت آخر جزء من أرض جلول بدأ قلبي يخفق ليس خوفاً بل رهبة، فأنا في مخيم شاتيلا الذي يحمل اسم المجزرة الشهيرة، وأنا اللبنانية التي لا تميل إلى القضية الفلسطينية أبداً. تابعتُ طريقي بخطوات ثابتة، ووجدتُ نفسي في شارع قيل لي لاحقاً إنه الشارع الرئيسي.
"شيء وكأنه سوريالي جعلني تائهة بين ماضٍ وضعني في مواجهة ولو عبر المشاعر مع الفلسطيني وحاضر يجعلني أحب هؤلاء الشباب الذين يحاولون تغيير واقعهم ولا يطلبون سوى الأمان والحق في العيش الكريم"
الشارع كان يعجّ بالناس وتحيط به من الجانبين محال تجارية شعبية وفقيرة جداً. هنا محل وُضعت أمام واجهته بسطة لأدوات منزلية وعطورات وألعاب وذلك محل أحذية مقلّدة تحمل أسماء شبيهة بأسماء ماركات عالمية لكن مع تغيير حرف أو اثنين، وضع صاحبه قسماً من بضاعته أمام المدخل، وهذا بائع دجاج وهو أيضاً يضع الأقفاص على الطريق أمام محله.
كان كل شيء يتدفق إلى الخارج، البضاعة وأصحاب المحال ويختلط الزبائن بعضهم ببعض، أما أنا فكنت أشق طريقي بينهم إلى أن وصلتُ إلى وجهتي الأولى للقاء أحد الشباب.
أمضيتُ هناك حوالي الساعة من الوقت، لكن لفتني ما قاله لي أحد الأشخاص المواجدين في المكان من أصدقاء الشاب: "أتعجّب من كونِك أتيتِ وحدكِ إلى هذا المكان. ألا تخافين؟" في الواقع لم أكن خائفة، ومع ذلك، وبعد أن أنهيتُ المهمة الأولى، طلبتُ منه مرافقتي إلى وجهتي الثانية لملاقاة شابين آخرين في مكان آخر في المخيم، لأنه أخبرني أنني كلما توغّلتُ إلى الداخل يصبح المكان أكثر خطراً مع وجود أشخاص غير منضبطين.
انطلقنا سوياً وابتعدنا عن الشارع الرئيسي قليلاً فتغيّرت الأماكن وصارت الطرقات أضيق ثم فجأة رأيتُ صوراً ضخمة لكبار المسؤولين الفلسطينيين، الراحلين منهم والأحياء، وعرفت أننا أمام مركز يعود لأحد الفصائل الفلسطينية في المخيم. عادت إليّ مشاعر الغضب تجاه هذه الوجوه التي قوّضت سيادة لبنان في يوم من الأيام.
للحظات، تملكني الخوف. لم أعتد رؤية هذه الصور في القسم اللبناني من لبنان. لم أقل شيئاً. تابعتُ طريقي برفقة أمين، أنظر إلى الأزقة المتسخة والمباني التي نال منها الزمن، ومحلات السمانة ومحلات بيع الهواتف الخلوية والخرضوات والمقاهي والمراكز الطبية...
فوجئت بمعرفة أن مَن يعمل في هذه المؤسسات، وبالأخص المراكز الطبية ومحلات صيانة الهواتف الخلوية، ليسوا فقط من اللاجئين الفلسطينيين، بل معظمهم من النازحين السوريين.
عرفت أن مخيم شاتيلا بدأ يفرغ من سكانه الفلسطينيين، وهو اليوم يعج بالنازحين السوريين الذين باتوا يشكلون حسبما قيل لي 30% من المقيمين فيه، مقابل 50% من الفلسطينيين و10% من اللبنانيين بإلاضافة إلى 10% من جنسيات مختلفة.
أطباء سوريون وممرضون انتقلوا للعمل في لبنان وتحديداً في المخيمات وفتحوا مستوصفات، أما صيانة الهواتف الخلوية فهي مهنة يبرع فيها السوري وحملها معه من بلده واخترق بها السوق اللبناني وسوق شاتيلا أيضاً.
وجه مضيء
غادرتُ المخيم عند الساعة الخامسة من ذلك النهار، إلا أنني، ولاستكمال دراستي، تابعت التواصل مع شباب فلسطينيين آخرين من أبناء المخيمات الأخرى مثل مخيم برج البراجنة ومخيم مار الياس.
"في أولى سنوات طفولتي، لم أكن أعلم ما الذي يحصل حولي، لكنني لا زلتُ أذكر بعض المشاهد غير الواضحة حول مسلحين متواجدين في بلدتنا الجنوبية الوادعة يطلق عليهم الجميع اسم "الفدائيين". كانت لهجتهم مختلفة عن لهجتنا. أذكر أيضاً أننا كنّا نهابهم كثيراً"
وللمفارقة، اكتشفت في كل هؤلاء الشباب وجهاً مضيئاً يحاول البحث عن الجمال بين الأزقة المعدمة التي نشأوا فيها. سلاحهم الوحيد العلم لأنهم على يقين من أنه وحده القادر على فتح آفاق أوسع أمامهم، إنْ في لبنان أو في الخارج، وعلى إبعاد شبح البطالة عنهم، فلا يتعثّرون في محيطهم الذي يشدهم نحو الأسفل، ولا يستسلمون أمام الظروف الصعبة مثلما فعل ويفعل آخرون.
اكتشفت عطشهم للعيش بكرامة ورفضهم القاطع للتسلّح رغم تمسكهم بحق العودة. إنهم يحبّون لبنان ويعتبرون أنفسهم جزءاً من نسيجه.
شيء وكأنه سوريالي جعلني تائهة بين ماضٍ وضعني في مواجهة ولو عبر المشاعر مع الفلسطيني وحاضر يجعلني أحب هؤلاء الشباب الذين يحاولون تغيير واقعهم ولا يطلبون سوى الأمان والحق في العيش الكريم.
فهمتُ فجأة أن ما حدث بالأمس صفحة مؤلمة حان الوقت لنطويها جميعاً ونبدأ البناء على أسس سليمة تحت كنف دولة مدنية جامعة يندمج فيها الجميع مع الإبقاء على حق العودة.
بعد حوالي الشهر على زيارتي الأولى، عدتُ إلى مخيم شاتيلا لكن هذه المرة شعرت أنني أعرف الشارع الرئيسي والأزقة الضيقة، ابتسمتُ لبعض الباعة وانتظرتُ بهدوء قدوم الشخص الذي توجهت لمقابلته في ذلك اليوم.
ما آلمني حقاً في أول زيارة لي إلى مخيم شاتيلا أنني في ذلك النهار الواقع في الرابع من آب/ أغسطس، غادرتُ المكان عند الساعة الخامسة ووصلتُ إلى منزلي في السادسة مساءً. وعند الساعة 6:07 مساءً دوى الانفجار الضخم في مرفأ بيروت.
قضى الانفجار على آمال كثيرة. وفهمت أننا نحن اللبنانيين أيضاً لاجئون في وطننا مع فارق بسيط وهو أن اللبناني يمتلك امتياز الهجرة، أما الفلسطيني فله طريق الترحال إلى أقاصي الأرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع