حديث مع الخالة عليا
لطالما كانت علاقة الفلسطيني بأرضه مميزة على مرّ التاريخ، فالفلسطيني يؤمن بأن الإنسان يستمد قيمته من الأرض والأرض تستمد قيمتها من الإنسان، ويحيا كل منهما بوجود الآخر. لذلك، فإن معظم القصص التي يرويها لنا أجدادنا وجدّاتنا، نحن اللاجئين والمبعدين عن أرضنا، دائماً ما تتعلق بأراضيهم الزراعية في قراهم الفلسطينية، فإما أن يعدّدوا أنواع أشجار الفاكهة والكروم والأعشاب أو أن يتكلموا عن طبيعة الحياة في قرانا بكل تفاصيلها.
لقد تعرّفت على عائلتي ما قبل النكبة من خلال كتاب كانت جدة والدي فاطمة زمزم إحدى شخصياته. ورد في الكتاب مقابلة كانت قد تحدثت فيها الجدّة عن شكل بيتها الجديد الذي صممه مهندسان من يافا، وبُني في منتصف كروم الزيتون والليمون والتفاح في الأراضي الخاصة بها وبزوجها. وصفت المنزل بشغف وحب تام. قالت إنه من طابقين، عُمِّرَ بحجر أبيض، وامتدت شجرة ورد من أسفله الى أعلاه، "كان جميلاً جداً يستوقف المارة لصورة إلى جانبه دائماً".
كل ما في الأمر أنني لست راضية، ولا أشعر بالانتماء إليه.
أردت معرفة المزيد عن قريتي وعائلتي، فزرت الخالة عليا، شقيقة جدتي صفية الجبارة التي فقدتها في سن العاشرة، وابنة فاطمة زمزم. أُجالسها مطولاً في كل زياراتي لها، وعند انتهاء كل زيارة، أدرك أنها لم تكن كافية وأنه يجب عليّ زيارتها مجدداً.عند قراءتي لتلك التفاصيل، تبيّن لي أن ما أعرفه عن تاريخ عائلتي محدود جداً ومقتصر على فترات معينة، كما انتابني شعور بالفضول وأردت أن أجد هذا المنزل. لقد قالت إنه يستوقف المارة من أجل صورة. أنا أعلم أن قريتي أم الفرج في عكا قد دُمّرت بشكل كامل، والجدة فاطمة أيضاً تعلم فهي من روت ذلك. ولكن لابد من وجود صورة في مكان ما. وقد يكون أحد أسباب كتابتي هذا المقال هو محاولة لإيجاد صورة للبيت، فأنا أود أن تراه الخالة عليا، ابنة فاطمة زمزم. لقد أخبرتني أنها لطالما بحثت، وأنها أوصت كل من زارها وكان باستطاعته زيارة قريتنا، في البحث عنه أو عن صورة له قبل أن تدمر القرية كلياً، فهي لا تستطيع زيارة قريتها بنفسها.
إن أصغر وأدق التفاصيل تجعلني أقارن ما يثير غضبي، كالإعاشة ومباني الأونروا البيضاء والزرقاء، كأوارات الباطون، كبطاقة هويتي الزرقاء البشعة، كالمخيم بحد ذاته، كالكلمة التي أُعرّف بها عن نفسي أينما ذهبت ومتى ما سُئلت: "لاجئة" دائما ما تسبق كلمة فلسطينية
تقصّ الكثير من القصص اللامتناهية نقلاً عن حكايا وكلام والدتها فاطمة. مثلاً، أخبرتني عن منزل والدتها ووصفت ما كان حوله، الكروم والأرض والبلد وطبيعة الحياة هناك: "كانت النسوان تطلع من صبحية الله وتحمل الخبزات تحت باطهن، ويحوشو بندورة من هالأرض، يغمسو ويوكلو عالواقف دغري من الأرض، ولو مش موسمها يطبخو مجدرة أو برغل عالحطب بين الشجر وهالطبيعة". تحكي لي: "مكناش نعرفو هاض زيت القلي ما عرفناه غير من ورا هالاعاشة، كنا ما نوكل غير زيت زيتون أصيل طازة من الأرض، أو سمنة احنا نعملها". الخالة عليا ولدت في لبنان ولم تر فلسطين يوماً، ولكنها تخاطبني دائماً بلسان الجدّة فاطمة.
لم تكن هذه القصص " تخاريف ختايرة" بالنسبة لي، بل كانت دعوى للمقارنة، المقارنة بين الحياة التي لا أعرفها إلا من خلال ما وُصِف منها وأوّارة الزريعة المصنوعة من باطون التي تجلس بجانبها الخالة عليا في دارها في المخيم. يكاد لا يخلو منزل فلسطيني من حاكورة صغيرة أو أوارة باطون، أو حتى عشبة في وعاء إن لم يتوفر المكان وضوء الشمس (وين ما كان في فلسطيني، في زريعة). لا يسعني إلا المقارنة بين سماء المخيم وسماء قريتي في فلسطين، وبين حكورة جدتي أو أوارة الباطون في دار الخالة عليا، وكروم الزيتون والليمون والتفاح التي وصفتها الجدّة فاطمة في الكتاب، وبين بيتنا المعتم والمغلق في المخيم وضوء الشمس وهواء عكا المتخلل من نافذة منزل الجدة فاطمة الحجري الأبيض.
أنا في حالة دائمة من المقارنة. كيف لا وأصدقائي اللبنانيون يعودون إلى ضيعهم في نهاية كل أسبوع، ويعيشون حياة مماثلة لتلك التي وصفتها الجدة فاطمة والخالة عليا، أما أنا فأعود للمخيم حيث لا ترى عيناك السماء جيداً، وإن صعدت إلى سطح مبنى فترى أسطح الزينكو بدلاً من الكروم والأشجار والأراضي الشاسعة والهواء الطلق والشمس الساطعة، ترى أسلاك الكهرباء الكثيفة والقاتلة التي تحجب الرؤية، ترى حياة غير لائقة بشعب كان ولا يزال جزءاً لا يتجزأ من أرض ليست ببعيدة.
إن أصغر وأدق التفاصيل تجعلني أقارن ما يثير غضبي، كالإعاشة ومباني الأونروا البيضاء والزرقاء، كأوارات الباطون، كبطاقة هويتي الزرقاء البشعة، كالمخيم بحد ذاته، كالكلمة التي أُعرّف بها عن نفسي أينما ذهبت ومتى ما سُئلت: "لاجئة" دائما ما تسبق كلمة فلسطينية.
المخيّم ليس لي، ما كان لي قد انتزع مني منذ أكثر من سبعين عاماً. مهما حاولت فلن أرضى أو أغض النظر أو أنسى. هناك المئات من المواقف التي نتعرّض لها يومياً التي تذكرنا بلجوئنا، وعند كل حديث مع الخالة عليا هذا ما أشعر به وأدركه: نحن مؤقتون هنا
أنا لا أخجل مما سبق، ولا من كوني لاجئة ولدت وعشت في مخيم بل على العكس، لكنني لست راضية، ولا أظن أنني سأرضى يوماً. إنني غاضبة، غاضبة جدا من واقع ذليل فرض علي، غاضبة من كل تلك التفاصيل المهينة، غاضبة من بعض الفلسطينيين الشّاعريين بحماقة الذين "يرمنسون" المخيم والبطاقة الزرقاء وسطوح الزينكو ويتكلمون عنها بفخر، كأنها التراث الذي يجب أن نتمسك به أينما ذهبنا، وكأن المخيم هو المكان الذي يجب أن نكون فيه، أو نرجع إليه، وكأنه لم يكن يوماً مؤقتاً، وكأنه المكان الذي ننتمي إليه. أنا لم ولن أنتمي يوماً للمخيم.
أنا لا أحب المخيم، ولكنني لا أكرهه، ففيه عشت وكبرت ولعبت ودرست وضحكت وحزنت، وفيه عائلتي وأصدقائي ومن أحب. كل ما في الأمر أنني لست راضية، ولا أشعر بالانتماء إليه. أقارن، أقارن دائماً، فهو يذكرني بأن وجودي غير مرغوب فيه وأني في وطن ليس وطني. هو ليس لي، ما كان لي قد انتزع مني منذ أكثر من سبعين عاماً. مهما حاولت فلن أرضى أو أغض النظر أو أنسى. هناك المئات من المواقف التي نتعرّض لها يومياً التي تذكرنا بلجوئنا، وعند كل حديث مع الخالة عليا هذا ما أشعر به وأدركه: نحن مؤقتون هنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.