من المشاهد اليومية التي اعتاد بعض أبناء غزّة عليها، خلال تنقلهم إلى أعمالهم في ساعات الصباح الباكر عبر سيارات الأجرة، الاستماع إلى مقطع على الراديو يقول فيه المذيع: "الساعة الآن الثامنة صباحاً بتوقيت أورشليم القدس. أهلا بكم إلى المجلة الإخبارية لهذا الصباح من راديو مكان".
بعض أبناء قطاع غزّة يعتبرون أن "ذوّاقي الاستماع للإذاعات" هم مَن يستمعون للإذاعة الإسرائيلية الناطقة بالعربية. هذا ليس حباً بالإسرائيليين بقدر ما هو اعتراف بمهنيتها النسبية، على عكس الإذاعات المحلية الغزية التي تدير غالبيتها فصائل فلسطينية.
الإذاعات المحلية، ورغم أن بعضها يقدّم برامج اجتماعية تعرض قضايا الناس وحلولاً لمشاكلهم أمام المسؤولين، لا تخفي انتماءاتها السياسية في أخبارها وبرامجها السياسية، فتبرز فيها وجهة نظر الطرف الذي تدعمه.
قصة الاستماع للإذاعة
الحكاية ليست حديثة. تعوّدت فئة من الغزّيين على الاستماع للإذاعة العربية الإسرائيلية منذ نهاية ستينيات وسبعينيات وثمانينيات وحتى بداية تسعينيات القرن الماضي.
أحمد نجم (81 عاماً) الذي كان يعمل عسكرياً مع الإدارة المصرية لقطاع غزة، وهي إدارة استمرت منذ "النكبة" الفلسطينية عام 1948 ولغاية "النكسة" عام 1967، هو أحد هؤلاء.
يقول نجم الذي وُلد في قرية "المسمية الكبيرة" المحتلة، لرصيف22، إنه في فترة الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة، عقب حرب عام 1967، فرض الإسرائيليون سلطتهم على جميع القطاعات، وراح التلفزيون الإسرائيلي يعرض أفلاماً عربية للجمهور العربي في الداخل، وبرامج عربية على الإذاعة الناطقة بالعربية، بل وبرامج تتابع الشؤون العربية، ويعلّق أن الغزيين لم يكونوا يتابعون الإذاعة الإسرائيلية "حباً بها بقدر ما كانت المسألة تعايشاً مع الأمر الواقع المفروض عليهم".
ويشير إلى أن إذاعة "صوت العرب" التي كانت تبث من القاهرة كانت أحد الأسباب التي دفعت الفلسطينيين للاستماع إلى الإذاعة الإسرائيلية العربية، فلا ينسى الفلسطينيون والأجداد الذين كانوا يتوقون لحلم العودة للأراضي المحتلة عندما أذاع المذيع المصري أحمد سعيد أخبار انتصار الجيش العربي وتدمير آليات الإسرائيليين العسكرية في حرب عام 1967.
وقتها، وجّه سعيد بشائر النصر العربي وخاطب الفلسطينيين طالباً منهم أن يحضّروا أنفسهم وأمتعتهم للعودة إلى أراضيهم، لكن جاء الصباح التالي صادماً، ووجدوا أن الجيش الإسرائيلي احتل قطاع غزة والضفة الغربية وسيناء والجولان السوري، وبل ونزحت عشرات آلاف الأسر منهم إلى الشتات ودول الجوار.
منذ تلك اللحظة، يقول نجم، فقد الفلسطينيون الثقة في الإعلام العربي، فهو إعلام الأنظمة العربية ويهتم بأخبار الرئاسة واستقبال الوفود والحكام والحديث عن "إنجازات" لا تمتّ للواقع الحقيقي بصلة. وبالنسبة إلى القضية الفلسطينية، يتابع، كان الإعلام العربي يعبّر عن وجهة نظر النظام الحاكم في ما يخص الفلسطينيين.
ويقول: "كنا نستمع لإذاعة بي بي سي ومونتي كارلو والإذاعة الإسرائيلية، والحقيقة المرّة بالفعل أنه كانت فيها مصداقية أكثر من إذاعات عربية كثيرة، لأنها تحكي في تقارير عما يدور في ذهن الفلسطينيين بشكل منطقي وكذا الحال بالنسبة إلى الإسرائيليين".
المسنّ رأفت حمدان (70 عاماً)، الذي يعمل على سيارة بيجو من موديل 1984، يتمسك بعادة الاستماع للإذاعة الإسرائيلية بالعربية كل صباح، حتى أنه يحفظ أسماء المذيعين ويعرف تماماً ما يحصل من خلافات في الكنيست الإسرائيلي، ويعرف الكثير عن قضايا الفساد التي تلاحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وعن طبيعة تفكير المجتمع الإسرائيلي.
يقول لرصيف22: "كلنّا متمسكون بحق العودة، ولن يكون السياسيون الفلسطينيون المتنازعون فلسطينيين أكثر منّا، لكن بالمنطق لن أستمع إلى راديو يقول إن تحرير فلسطين قريب فيما القائم عليه يفاوض الاحتلال إما مباشرة أو عبر وسيط"، ويضيف: "بعض أخبار إذاعة العدو أصدق من السياسي الفلسطيني نفسه، كما أنها تساعد على فهم لغة العدو وتفكيره".
الحكاية ليست حديثة. تعوّدت فئة من الغزّيين على الاستماع للإذاعة العربية الإسرائيلية منذ نهاية ستينيات القرن الماضي
لم ينجح الإعلام الفلسطيني المحلي في تقديم صورة الحيادية والتقارب مع كافة الفئات المجتمعية في ظل الانقسام الفلسطيني، خاصةً أن الأحزاب الفلسطينية تملك معظم المؤسسات الإعلامية المحلية.
تحافظ الإذاعات الفلسطينية على حضورها بين الناس، لكن من خلال البرامج الصباحية التي تعرض فيها مشاكل وهموم المواطنين اليومية وتخلق قنوات تواصل مع المسؤولين.
فقدان الثقة بالإعلام المحلي
يتفق الإعلامي الفلسطيني سامي أبو سالم مع فكرة فقدان الجمهور الثقة بالإعلام المحلي، ويردّ ذلك إلى ما يصفه بـ"حالة الشعور باللاجدوى من الشعارات النارية التي تتبناها الإذاعات المحلية لا سيما الحزبية"، فهناك برأيه "فجوة كبرى بين ما يراه المواطن على الأرض وما يسمعه في الإذاعة".
اختبر أبو سالم مرات كثيرة تجربة الاستماع للإذاعة الإسرائيلية في سيارات التاكسي. يلاحظ على مذيعيها تحدثهم بلغة عربية سليمة وتستوقفه الأغاني التي تبث بطريقة رصينة. ويتفاجأ من أن جمهور الإذاعة كبير في غزة، ويفسر الأمر بأنه "للخروج من التوتر وخلق توازن يبحث عنه المستمع".
يذكر أبو سالم أن إحدى الإذاعات المحلية الكبيرة كان لها دور في التحريض على القتل والسحل خلال أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2007، وبذلك فقد الجمهور ثقته بها، ويقول لرصيف22: "فقدت الثقة بسبب الترويج للحزب الواحد وتبرير أخطائه، أما الإعلام الخاص، فالمحتوى الذي يقدّمه ممل وركيك وغير متنوع بشكل كافٍ وأحياناً يجاري الإعلام الحزبي أو يعمل لكسب رضى الحكومة، ولا يعرض قضايا الفساد الحقيقي".
يعتبر أبو سالم أن القائمين على عمل الإذاعة الإسرائيلية أذكياء، بحرصهم على اللغة السليمة والصوت الجذاب وتنوّع برامجهم، والفقرات الترفيهية ذات ذوق رفيع، بجانب بث الأخبار التي تهم المواطن حول حركة المعابر التجارية والأفراد، ومساحة الصيد والبضائع المسموح دخولها ونتائج أي صدام عسكري مثل عدد الصواريخ ومكان سقوطها وعدد الضحايا، والأخبار التي تخص الشأن الإسرائيلي مثل الانتخابات وتشكيل الحكومة والتحالفات الحزبية، وكلها تكون دقيقة بدون تهويل.
"بعض أخبار إذاعة العدو أصدق من السياسي الفلسطيني نفسه، كما أنها تساعد على فهم لغة العدو وتفكيره"
لكنه يضيف أنهم يروّجون للسياسة الإسرائيلية بالحديث عمّا يُسمى بمساعدات إسرائيل للشعب الفلسطيني وتسهيلاتها لحركتهم على حركة المعابر، بينما في الواقع تمنع إسرائيل غالبية المرضى من السفر للعلاج، وتضيّق مساحة الصيد عليهم، وبالحديث عن إنسانية جيشهم وعرض بطولاتهم.
ويرى أن لهذا الأمر خطورة في العبث بالوعي، وتمرير رسائل لها علاقة بالتفوّق، إذ يشعر المستمع العربي بتفوّق الاحتلال ويشعر بالدونية والانهزام أمامه، ويتعزز "كفره" بفكرة الكينونة الفلسطينية وبالفصائل، بسبب تركيز الإذاعة الإسرائيلية على فكرة أن الصعوبات التي يعاني منها الفلسطينيون هي بسبب الفصائل والسلطة وليس بسبب الاحتلال.
تاريخ الإذاعة الإسرائيلية بالعربية
تأسست الإذاعة الإسرائيلية العربية بعد احتلال فلسطين بالكامل، إثر حرب النكسة، وكان الهدف منها في البداية إصدار التعليمات للمواطنين باللغة العربية وإيجاد حلقات تواصل مع العرب، وترويج الرواية الإسرائيلية، بحسب الباحث في الشؤون الإسرائيلية عزيز حمدي المصري الذي يشير إلى أن الإسرائيليين وظّفوا عرباً فيها، وكان عمود إرسالها في جبل الشيخ، شمال فلسطين.
ويلفت إلى أن السوريين واللبنانيين كانوا يلتقطون أمواج الإذاعة في جبل حوران ودرعا والجنوب اللبناني، كما كانوا يلتقطون بث قنوات التلفزة الإسرائيلية الأرضية.
وتقدّم الإذاعة الإسرائيلية بالعربية برامج، بعضها عن العادات والتقاليد، تحاول جذب المواطن العربي، وفق عقليته. وفي المساء تبث أغاني طربية، كما تبث بيانات الجيش الإسرائيلي مثل بيانات حظر التجوال وغيرها.
ويقول المصري لرصيف22 إن الاستماع إليها "لا ينتقص من وطنية الفلسطينيين شيئاً". ويلفت إلى أن "هناك حرية في الإعلام الإسرائيلي إلى حد ما أفضل من حال الإعلام العربي فهو يقدّم محتوى ناقداً للحكومة، لكن للأسف هناك مخاطر وهي أن يبقى الفلسطيني يستمع للإعلام الإسرائيلي ويبقى الإعلام الفلسطيني ضعيفاً في تقديم محتوى منافس ومنطقي وقريب من الواقع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...