حرّ وكهرباء مقطوعة، وتعيش/ين في غزة؟ إلى أين المفرّ؟ لا يحتاج الأمر إلى كثير من التفكير. إما إلى السطح، ملجأ الغزّيين، والمكان الوحيد الذي لا يظلله الإسمنت، أو إلى عتبةِ المنزل. في هذه الأماكن، يمكن على الأقل الجلوس في مساحة باردة رغم ضيقها، في ظل شح خيارات الترفيه في القطاع، ووفرة الأزمات فيه.
قبل أزمة وباء كورونا في القطاع، كان يمكن "الاستمتاع" بمثل هذه الخيارات على قلتها، أما مؤخراً، فصارت هذه الحالة تُقمع سريعاً في كثير من الأوقات.
وفوق ذلك، صار سلوك المساجد المنتشرة بكثرة في غزة، ينهض كالجدار في وجه سعيك إلى خلوة باردة، إذ تخترق أذنيك أدعية بألحانٍ جنائزية من كل زاوية، كأنّ نهراً من البكاء ينهمر بلا توقف من مكبرات صوت المساجد. يضيف ذلك ثقلاً آخر فوق ثقل اليوم: قلقٌ، لا مهرب منه، ولا داعي له أيضاً.
فمنذ أن سُجّلت إصابات بفيروس كورونا في غزة، وإعلان حظر التجوّل الشامل في القطاع، نهاية الشهر الماضي، منحت المساجد المنتشرة بكثافة في الأحياء لنفسها دوراً في مواجهة الـ"كورونا"، وانتهجت سلوكاً مزعجاً، عبر تشغيل الأدعية والخطب الدينية، بشكلٍ غير موحد، وبصوتٍ عالٍ، على فتراتٍ طويلة في اليوم.
إلى جانب الإزعاج، تختار المساجد الأدعية والخطب ذات اللحن الغارق في الحزن، في وقتٍ يحتاج الناس في رحلة مواجهة الوباء وأزماتهم الكثيرة ما ينهض بعزائمهم لا مَن يضيء فقط على ثلاجات الموتى ونسج الأكفان البيضاء.
"إزعاج يجب أن يتوقف"
بحسب كثير من الناس، تحيل هذه الألحان المكان إلى "بيت عزاء"، وتخلق جوّاً يؤثر بالطبع على حياة الناس داخل بيوتها، خصوصاً مع قلة الحركة والخيارات الممكنة في ظل تفشي الوباء وانقطاع التيار الكهربائي في وغير ذلك من أزمات.
يصف المدرب الصحافي سامي أبو سالم، والذي يسكن شمال القطاع، هذا السلوك بـ "الابتذال الصريح"، ويقول إن "ما يجري يدخل بشكلٍ واضح في إطار الابتذال. تشغيل أصوات أدعية أشبه بالبكائيات أمر مزعج. في غزة، هناك على الأقل، مسجد في كل شارع، حتى بين الأزقة، وبمكبرات صوت مدوية. وغالبيتها انتهجت السلوك نفسه، الذي يعكر حياة الناس في كثير من الأوقات".
ويضيف: "المسجد بجوارنا يعلّق 20 مكبّر صوت، وجميعها تشغّل هذه الأدعية والألحان الحزينة، وتخيّل الصوت! إزعاج وانتهاك للخصوصية يأتي أحياناً في أوقات لا صلاة فيها ويكون بعض المواطنين في قيلولة الهروب من الحر، أو مشغولين في عمل، وقد يأتي في أوقات المساء والناس نيام".
"الصوت غالباً يكون مزعجاً ومنفّراً. في الأيام الأولى للحجر كانت الجوامع تشغّل الأدعية الساعة العاشرة مساءً، في وقت الظلمة والكهرباء المقطوعة. يصبح الجوّ مرعباً بكل معنى الكلمة"
برأيه، "يجب أن يتوقف هذا السلوك"، فـ"صحيح أن الدعاء ورد في الدين لكن ليس على حساب راحة المواطنين، سواء أكان الأمر يتعلق بكورونا أو بغيره".
إلى مخيّم جباليا، شرق محافظة غزة، حيث يسكن الشاب أحمد سعد (23 عاماً). يقول سعد إن "الصوت غالباً يكون مزعجاً ومنفّراً رغم أن شرط الدعاء في مثل هذه الحالات أن يكون مريحاً للأذن والقلب، ناهيك عن المواقيت. في الأيام الأولى للحجر كانت الجوامع تشغّل الأدعية الساعة العاشرة مساءً، في وقت الظلمة والكهرباء المقطوعة. يصبح الجوّ مرعباً بكل معنى الكلمة".
"الأمر مخيف جداً للأطفال، خصوصاً عندما تعجز عن تفسير ما يحدث للطفل"، يضيف ويتابع: "أنت لا تريد إخافته وتوضيح ما يجري بصورة مخيفة له، لكن الظرف يغلب ذكاءك، إذ أن الجو يشبه بيت العزاء. وانت مضطر لسماعه، رغماً عنك، لأن هناك على الأقل مسجد في كل حارة".
الشاب يحيى العجرمي (27 عاماً)، من سكان مخيم جباليا، لديه نفس نوع الاعتراضات. يقول إن "المشكلة ليست مع الدور الذي يؤديه المسجد في المجتمع بكل تأكيد، الدين هو جزء من التكوين الفطري للأمم، لكن في سلوك مَن يقومون على إدارة تلك المساجد، واستغلالهم مقدرات المسجد المادية لفرض ذوق خاص بهم على البيئة الميحطة".
"ما يحدث هو اعتداء على خصوصية وراحة السكان المحيطين بالمسجد، وعدم مراعاة لراحتهم ونسق معيشتهم"، يضيف العجرمي، ويتابع: "لم يكن الإكراه يوماً وسيلة لفرض التدين وتعويم السلوك... لا يجوز استخدام هيبة الدين في شكل غير سوي مجتمعياً".
موقف الشرع
يعتبر الداعية الفلسطيني عبد العزيز عودة أن "لا مبرر شرعياً لهذا السلوك، وهو بمثابة أذى للناس، لأنه يخترق خصوصياتهم وانشغالاتهم الخاصة داخل بيوتهم".
بحسب عودة، ينسحب الموقف نفسه على الترويج المستمر لفعاليات الفصائل الفلسطينية والأحزاب التي تستخدم غالبيتها المساجد في الترويج لنفسها، رغم وفرة وسائل التواصل والنشر.
"المشكلة ليست مع الدور الذي يؤديه المسجد في المجتمع بكل تأكيد، لكن في سلوك مَن يقومون على إدارة تلك المساجد، واستغلالهم مقدرات المسجد المادية لفرض ذوق خاص بهم على البيئة الميحطة"
ويشير الشيخ عودة إلى أن "الشكل الذي تستخدمه المساجد في الأدعية ليس مشروعاً. الأصل في الدعاء، السر، صحيح أن الدعاء شكل من أشكال التضرع التي دعى إليها الله، لكن الكيفية التي تجري فيها في المساجد غير مشروعة، البلاغة والألحان غير مشروطة في الدعاء، وبالتالي هي ازعاج للناس".
ويؤكد أنه "من الذين يقولون إن مكبرات صوت المساجد لا يجب أن تُستخدم إلا في رفع الأذان وفي أوقات الصلاة، فقط. الله تعالى يقول: {ادعوا ربَّكمْ تَضَرُّعاً وخفيةً} يعني أن الخفية شرط، وقوله تعالى {واذكرْ رَبَّكَ في نفسِكَ تَضَرُّعاً وخيفةً ودونَ الجهرِ} دليل تأكيد على ذلك".
وسبق وأن طالب الشيخ عودة بوقف استخدام المساجد كمنصات إعلان وترويج، لما تمثل من ضرر وإزعاج للناس، وقال: "هناك المواقع الإلكترونية وهناك الرسائل القصيرة وهناك الصحف والإذاعات المحلية وهناك القنوات الفضائية، وكلها وسائل يمكن الإعلان فيها عن أي مناسبة، فلماذا تترك كل هذه الوسائل ويتم استخدام مكبرات صوت المساجد في المناداة لمناسباتهم الخاصة ولا حساب لمَن يلحق بهم أذى؟ يجب أن تتوقف هذه العادة، أليس من الدين كف الأذى ودرء الضرر ومراعاة ظروف الناس الخاصة وأحوالهم الشخصية؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...