"شاركتُ يوم 5 تموز/يوليو الماضي مع أهالي منطقتي المرناقية في محافظة منوبة التونسية (شمالي البلاد) في مسيرة، احتجاجاً على تلوث ماء الشرب وتغيّر مذاقه ولونه ورائحته، فليست لدي الإمكانيات لشراء الماء المعدني".
تروي فاطمة شعباني لرصيف22 ما حدث خلال الاحتجاج، فتقول: "أغلقنا الطريق السيارة ورفعنا شعارات تطالب السلطات بإرجاع الماء العذب لنا دون أن نعتدي على أحد. لقد كان تحركاً سلمياً".
وفي اليوم الثاني للمسيرة، فوجئت الشعباني بتقدم سيارة أمنية تجاهها وتسليمها مع ثلاث نساء أخريات دعوات للحضور إلى مركز الأمن لأجل التحقيق معهن، بسبب شكوى تقدم بها مسؤولون في المعتمدية (حكم محلي) يتهمونهن فيها بتعطيل العمل أمام مقر المعتمدية.
تم التحقيق معهن في منطقة الأمن في منوبة وتمسكن بحقهن في الاحتجاج السلمي، غير أنه تم إطلاق سراح النساء الثلاث والإبقاء على فاطمة بسبب تقدم أحد المواطنين بشكوى ضدها، يتهمها فيها بتكسير سيارته خلال المسيرة.
"لن أنسى ظلمهم"
تقول فاطمة (42 عاماً): "فوجئت بهذا الاتهام الباطل ورغم تمسكي ببراءتي، تم إيداعي يوم 8 تموز/ يوليو الماضي في سجن المرناقية، لأول مرة في حياتي أدخل السجن، لم يراعوا إصابتي بالسرطان وفوّتوا علي موعد العلاج، لن أنسى ظلمهم ما حييت".
قضت الشعباني 22 يوماً في السجن وخرجت بعد تطوع عدد من المحامين للدفاع عنها، لكن تأثير السجن كان قاسياً عليها.
تشير فاطمة إلى أن المواطن الذي اتهمها زوراً اعتذر لها في ما بعد واعترف بأنها لم تعتد لا عليه ولا على سيارته، لكن "اعتذاره جاء متأخراً"، وفق تعبيرها، وهي تطالب بالتعويض على الظلم الذي تعرضت له، خاصة وأنها "طالبت بحقها المشروع في الماء وبطرق سلمية".
"عين ذكارة"
عائشة عوايني (53 عاماً) هي والدة لأربعة أبناء من منطقة الهوايدية في محافظة جندوبة (الشمال الغربي)، وهي أيضاً طالبت بحقها في ماء نظيف فوجدت نفسها ملاحقة قضائياً.
تتحدث عائشة لرصيف22 عن تفاصيل قضيتها، فتقول: "لا نملك مصدر مياه صالحة للشرب في منطقتي سوى ′عين ذكارة′ وعمرها 350 عاماً، لكن للأسف تلوثت بفعل أشغال مقطع الحجارة المحاذي لها".
وتتابع: "رغم تلوثها بالطمي وبزيوت محركات الجرافات والشاحنات التي تقوم بعمليات التنقيب على المواد الخاصة بالبناء كالحجر والرمل، إلا أنني لا زلت أستخدم مياهها في الطهو والشرب والتنظيف وفي سقاية المواشي والأراضي الزراعية، إذ ليس لدي خيار آخر".
شاركت عائشة مع جيرانها في وقفة احتجاجية في آذار/ مارس الماضي، أمام مقر المحافظة، للمطالبة بالغلق النهائي للمقطع وإعادة مياه العين إلى سالف عهدها، عذبة ونظيفة.
وعلى إثر ذلك، تقدم كل من صاحب المقطع والمحافظ بشكوى ضد عدد من المواطنين، من بينهم عائشة، بتهم "تعطيل حرية العمل وهضم جانب موظف عمومي بالقول والإضرار بملك الغير".
تؤكد عائشة أنهم "أصحاب حق ولن يتراجعوا عن مطالبهم المشروعة ولن تثنيهم التتبعات القضائية عن افتكاك حقهم في الحياة بكل الطرق السلمية المشروعة".
"شاركتُ مع أهالي منطقتي المرناقية في محافظة منوبة التونسية في مسيرة احتجاجاً على تلوث ماء الشرب وتغيّر مذاقه ولونه ورائحته، فليست لدي الإمكانيات لشراء الماء المعدني"... لكل واحد من الأهالي قصته مع الماء، وكثر منهم يدفعون ثمناً قانونياً ومعيشياً
أما منصف هويدي (42 عاماً) وهو فلاح صغير وجار عائشة، فيحاكم أيضاً في القضية المذكورة.
عن أسباب احتجاجه، يوضح منصف لرصيف22 قائلاً: "رخّصت الدولة لأصحاب المال الاستخراجي وبتواطؤ مع السلطات عمل صاحب مقطع الحجارة في منطقتنا، رغم انتهاء رخصته منذ نيسان/ أبريل 2019، ولدينا تقارير رسمية تثبت ذلك، حيث أحدث حفرة عميقة جداً في الجبل وشطر نصفه لدرجة أنه أعدم المائدة المائية لقريتنا التي تضم قرابة 40 ساكناً".
بعد تلوث مياه "عين ذكارة" وخوفاً من التسمم، اضطر عدد من أهالي الهوايدية إلى قطع عشرات الكيلومترات على ظهور الحمير في مسالك وعرة جداً، نظراً لطبيعة تلك المناطق الجبلية، لجلب المياه الصالحة للاستعمال.
يشدد منصف على أنهم راسلوا مراراً وتكراراً مختلف السلطات المعنية لإيقاف ما وصفها بالكارثة البيئية، لكنها تجاهلت مطالبهم ما اضطرهم إلى اتخاذ قرار الاعتصام منذ 23 كانون الأول/ ديسمبر الماضي في مدخل مقطع الحجارة وغلقه بقرار شعبي.
"معركة أرض وحياة"
يقول منصف: "قمنا بتعطيل عمليات النهب للثروات التي تحدث، كما أن الجبل مهدّد بالانهيار، إضافة إلى أن عمليات الحفر والتنقيب بواسطة أكثر من عشرين جرافة وبمعدل 150 شاحنة تسبّبت في تشققات خطيرة لمنازل الأهالي المهددة بالسقوط في أية لحظة".
يطالب منصف بغلق نهائي للمقطع وبتعويض صغار الفلاحين المتضررين وبمحاسبة "المافيا" التي تنهب ثرواتهم الطبيعية، مؤكداً: "نحن مستمرون في اعتصامنا حتى النهاية ولدينا أشكال جديدة للنضال والتصعيد فهذه معركة أرض وحياة".
شكري هويدي (34 عاماً) هو ابن الهوايدية كذلك، حاصل على إجازة في الرياضيات ويعمل في مقهى في منطقته. يواجه شكري التهم ذاتها، وعنها يقول لرصيف22: "انحاز المحافظ لصاحب المقطع ولم يستمع لمطالبنا، كما تعامل معنا بتعال".
وعن أسباب تقدم المحافظ بشكوى ضدهم، يوضح أنه وبعض الأهالي سكبوا مياه العين الملوثة على سور مقر المحافظة، احتجاجاً على تصريحات المحافظ الإعلامية التي أكد فيها سلامة المياه، ليثبتوا له عكس ذلك.
في المقابل، ينفي محافظ جندوبة علي المرموري، في تصريحه لرصيف22، ذلك بالقول: "لم أقدّم أية خدمة لفائدة صاحب المقطع، فهم يتخاصمون في ما بينهم وأنا أشاهد، حتى أنه ابن عمهم ويُشغّل عدداً منهم، فلا دخل لي بما يحدث".
ويضيف: "المياه الملوثة التي يتحدثون عنها ليست لعين ذكارة كما يدّعون بل هي لمجرى تجمع المياه، كما أني أملك تقارير لمصالح وزارة الصحة أظهرت بعد التحاليل أن مياه العين نظيفة"، لافتاً إلى أنه رفع قضايا ضد عدد منهم لأنهم قاموا بسكب "مواد آثمة" على سور مقر المحافظة.
أما شكري، من جهته، فيقول: "شاركتُ في مسيرة سلمية يوم 20 كانون الثاني/يناير الماضي مع الأهالي، بحضور الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وبعض الجمعيات الحقوقية، في مسلك محاذي لمقطع الحجارة. زرعنا وردة في الطريق كحركة رمزية سلمية، ولا نطالب سوى بغلق المقطع الذي يُلوّث مصدر عيشنا الوحيد، عين ذكارة".
ويتابع معلقاً: "من المفارقات أن تطلب الدولة منا التنظيف والغسل الدائم للحماية من الكورونا، لكنها في المقابل تحرمنا من المياه الصالحة للاستعمال".
ظاهرة العطش
سجّل المرصد التونسي للمياه، وهو منظمة غير حكومية مستقلة تأسست عام 2016 من أهدافها الدفاع عن حق المواطن في الماء، خلال شهر آب/أغسطس الماضي 233 تبليغاً من مختلف محافظات البلاد عن مشاكل في مياه الشرب، منها الانقطاع المستمر والمياه غير الصالحة والتسربات.
وجاءت محافظة القيروان (الوسط الغربي) في المرتبة الأولى بـ23 تبليغاً، تلتها محافظة القصرين (الوسط الغربي) بـ17 تبليغاً ثم قفصة (الجنوب الغربي) وبن عروس (شمالي البلاد) بـ16 تبليغاً، كما سجل المرصد 73 تحركاً احتجاجياً خلال الشهر ذاته شعارها الأساسي المطالبة بالحق في الماء.
"هذه الاحتجاجات ليست وليدة الثورة فحسب، وإنما كانت موجودة حتى قبل عام 2010، حيث لم يكن النظام السابق يسمح بنشر مثل هذه الأخبار المتعلقة بالحرمان التام أو الانقطاع المستمر لمياه الشرب على المواطنين"... لأهالي المرناقية والهوايدية التونسيتين قصة طويلة مع المياه
أما عن عدد المواطنين المُلاحقين قضائياً جراء احتجاجهم ضد العطش، فقدّره منسق المرصد علاء مرزوقي بـ25 مواطناً، مرجحاً ارتفاع العدد "على اعتبار وأن العطلة القضائية انتهت لتوها وبالتالي سيُكشف عن عديد القضايا الأخرى المنتظرة".
يشير المكلف بالإعلام في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر إلى أن هذه الاحتجاجات ليست وليدة الثورة فحسب، وإنما كانت موجودة حتى قبل عام 2010، حيث لم يكن النظام السابق يسمح بنشر مثل هذه الأخبار المتعلقة بالحرمان التام أو الانقطاع المستمر لمياه الشرب على المواطنين.
والمنتدى هو منظمة غير حكومية مستقلة تأسست عام 2011، وتتولى الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين في الداخل والخارج.
يوضح بن عمر لرصيف22 أن ظاهرة العطش تعمقت خاصة بين عامي 2011 و2012، ثم تواصلت إلى اليوم، ما يعني أن "الاحتجاجات هي إجابة على عجز السلطات عن تقديم مبررات لعدم انتفاع المواطنين بهذا الحق الدستوري، وفق ما ينص عليه الفصل 44 من أن الحق في الماء مضمون".
من جهة ثانية، ينتقد بن عمر لجوء السلطات إلى الحل الأمني لمواجهة العديد من هذه التحركات وإحالة عدة ناشطين إلى المحاكمات، إضافة إلى اعتمادها أسلوب التسويف ومحاولة ربح الوقت وعقد اتفاقات وتعهدات لا يتم في غالب الأحيان الاستجابة لها.
وأمام الانقطاع المستمر لمياه الشرب أو الحرمان التام منها، يلجأ المواطنون البسطاء لمصادر المياه المجهولة عبر شراء المياه من باعة متجولين في الأحياء الشعبية للمدن على أنها مياه طبيعة وصحية، غير أن "عدة تحاليل أثبتت أنها خطيرة جداً لأنها غير مراقبة"، وفق ما ينقل مرزوقي لرصيف22.
بالنسبة لسكان الأرياف، معاناتهم لا توصف وتحديداً النساء اللواتي تقع على عاتقهن مسؤولية جلب المياه، إذ تقطعن عشرات الكيلومترات وتنتظرن ساعات طويلة في طوابير طويلة حتى يحين دورهن لملء المياه من العين، وغالباً ما تكون مياه بعض العيون غير صالحة للشرب، وفق مرزوقي.
للعطش... أسباب كثيرة
يُحمّل منسق المرصد التونسي للمياه مسؤولية أزمة العطش غير المسبوقة في تونس للحكومات المتعاقبة ولسياسة الدولة الكاملة الغائبة التي "لا تتعامل مع الماء كحق كوني ودستوري، بينما تتعامل معه كسلعة ومادة مكلفة وتتحجّج بالتضاريس الوعرة وبأنها تُعرقل مدّ مناطق عدة بالمياه".
السياسة المائية التي انطلقت منذ الستينيات والقائمة على بناء السدود في المناطق الممطرة وبعض مناطق الوسط فحسب، من أبرز أسباب تراجع مخزون تونس من المياه.
بدوره، يدعم خبير المياه حسين الرحيلي هذا التصور ويرى أن الانقطاع المستمر للمياه في البلاد ليس مرتبطاً بتوفر الماء من عدمه، بل بالسياسات العامة للمؤسسات العمومية.
يُبيّن الرحيلي لرصيف22 أن السياسة المائية التي انطلقت منذ الستينيات والقائمة على بناء السدود في المناطق الممطرة وبعض مناطق الوسط فحسب، من أبرز أسباب تراجع مخزون تونس من المياه.
هذه السياسة الخاطئة، بحسب الرحيلي، تواصلت مع إحداث مجلة المياه سنة 1975 والتي اعتبرت المياه ثروة غير قابلة للنفاذ، ما جعل التونسي وبعد مرور أربعين سنة يعتبر أن الماء أزلي ودائم التوفر كما أن تونس لم تبنِ ثقافة ترشيد استهلاك الماء.
ومع مرور الوقت، ونظراً للتحولات المناخية ومع تزايد نسبة الاستهلاك بسبب ارتفاع عدد السكان أو ازدياد طلبات قطاعات الصناعة والسياحة والفلاحة، تراجعت مدخرات تونس من المياه ودخلت منذ بداية التسعينيات في مرحلة ضعف كميات المياه المتوفرة ومرحلة "الضغط المائي".
ومن أسباب أزمة العطش أيضاً، وفق الرحيلي، عجز الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه عن مواكبة التطورات إلى جانب البيروقراطية والفساد داخلها، ما جعلها غير قادرة - لا مالياً ولا تقنياً ولا لوجستياً - على الاستجابة للطلبات المتعددة للمياه الصالحة للشرب.
يُضاف إلى ذلك، ما وصفه المتحدث بالخلل الكبير على مستوى توزيع المياه عبر القنوات ونقلها. إلى جانب انعدام الحوكمة الرشيدة في التصرف في الموارد المائية، محذراً من أن البلاد ستدخل مرحلة التصحر المائي في صورة الاستمرار بنفس آليات التعامل مع الماء.
عجز الدولة
بالنسبة لبن عمر، فإن مسؤولية أزمة العطش "سياسية بالأساس"، وهي ناتجة برأيه عن تراجع السلطة السياسية في تونس عن القيام بدورها في ضمان الخدمات العمومية، وتركها المواطنين بمفردهم يجدون الحلول لأنفسهم.
ولتفادي أزمة العطش التي تهدد البلاد، يدعو خبير المياه الدولة إلى توفير الماء مجاناً للمواطنين باعتباره حقاً دستورياً كونياً، كما يدعو إلى اعتبار المياه ثروة وطنية هي ملك الشعب ولا يمكن التفريط فيها، مطالباً بإحداث هيكل مستقل يشرف على الماء ويتحكم في توزيعه على كل القطاعات.
من جانبه، يدعو مرزوقي الدولة إلى "التدخل بكل ثقلها عبر دعم قطاع المياه، إضافة إلى تنظيم الجمعيات المائية الخاصة تحت مؤسسة قانونية تشرف عليها وتدعمها الدولة لتجاوز إشكاليات الديون التي تعاني منها".
وكان تقرير دولي أصدره معهد الموارد العالمية "وورلد ريسورسز"، العام الماضي، قد صنّف تونس من بين أكثر البلدان المهددة بجفاف حاد، جراء ندرة المياه واستنزاف الموارد المائية وارتفاع درجات الحرارة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...