الكثير من الأغنيات لُحّنت لتتغنى بخجل العشاق. العديد من الروايات كتبت لتخلد ارتباك عاشق أمام وجه حبيبته. مشاهد في الأفلام أعيد تصويرها عشرات المرات، ليصيب أداء الممثلين لحظة ارتباك عند الاعتراف بالحب، وقد سحرتنا تلك المشاهد.
لكن، أتساءل: كيف يكون شعور الإنسان الذي يعيش الحالة بالمقلوب؟! الإنسان الذي يعيد المشاهد والمحادثات والحوارات في رأسه آلاف المرات قبل حدوثها، ليستطيع إخراجها بنبرة صوت ثابتة خالية من الارتجاف، ومعالم وجه طبيعية لا تفضح خجله الشديد؟
يصنّف العديد من علماء النفس الخجل على أنه آلية دفاعية لمواجهة المواقف المحرجة، وقد كنت فيما سبق من الأشخاص الذين عانوا من تداعيات الخجل الشديد، إلى أن أخذت قراراً بالتخلص منه بين ليلة وضحاها، ووقفت وجهاً لوجه أمام مخاوفي، كان ذلك عندما قررت أن أدخل سلك التعليم.
فانتقلت بقفزة واحدة من بنت انطوائية تتجنب الخوض في حديث من أي نوع خشية أن يحمر خداها، وتتجنب السير في الشارع كيلا تضطر لإلقاء التحية على الناس الذين قد تصادفهم، لأنها تخشى ألا يسمعوا صوتها الضعيف. انتقلت من ذلك إلى معلمة تقود صفاً لا يقل عدد تلاميذه عن ثلاثين تلميذاً، تدير الحوارات، توزع المهام وتتحدث بطلاقة لتوصل أفكارها إلى الطلاب. صرت إنساناً مسموعاً.
لما استطعت التخلص من خجلي بدأت أرى جسدي بطريقة مختلفة، تحوّلت من خفاش يعيش في الظل إلى فراشة تحلّق بحرية تحت أشعة الشمس، وتعرف أنها جميلة ومحبوبة
وكما أن الفيضانات العظيمة تغير وجه الأرض، كذلك غيرتني تلك الخطوة، وبدلتني على الصعيدين النفسي والجسدي، فلما استطعت التخلص من خجلي بدأت أرى جسدي بطريقة مختلفة، تحوّلت من خفاش يعيش في الظل إلى فراشة تحلّق بحرية تحت أشعة الشمس، وتعرف أنها جميلة ومحبوبة.
ولأنني مررت بتجربة الخجل الشديد، أستطيع أن أرسم صورة واضحة للأشخاص الذين يعانون منه، فعندما تكون خجولاً تحسّ دوماً بحمل ثقيل فوق ظهرك، ليس ذلك الحمل إلا قوقعتك الخاصة التي تحملها معك أينما ذهبت، كما السلحفاة. تلجأ إليها عندما يظهر خجلك أمام معلّم يوبخك لأن علامتك في الامتحان كانت أقل من مستواك، فتبدأ أصابع السخرية بالإشارة إليك، مصحوبة بالابتسامات الخبيثة والضحكات الصاخبة، تختبئ فيها عندما تتدحرج دمعة لا تستطيع السيطرة عليها على خدك، لأن صديق لك تعمّد أن يحرجك، ويطلب منك أن تحكي ذلك الموقف عينه أمام أصدقائكما في الحي. تتمنى ألا تضطر إلى مغادرتها نهائياً، عندما تروي أمك المواقف التي تفقد فيها السيطرة على احمرار وجهك أمام جاراتها، على سبيل النكتة، فتكره وجهك وشقائق النعمان الغافية تحت خديك، منتظرة كلمة لتستيقظ.
الأشخاص الذين يعانون من الخجل الشديد، يساورهم القلق وعدم الراحة أو الرضا تجاه أنفسهم وعلاقاتهم العائلية والعاطفية - إن تجرؤوا على الدخول في إحداها- وبالقدر ذاته، يصابون بنوبات ذعر من المحيط والمجتمع، إذ لا يجدون الرحمة في أي مكان، فمنازلهم أولاً، محيطهم ثانياً والمجتمع ككل، يغرقهم أكثر بما هم عالقون به أساساً، ويعزز خجلهم وخوفهم وارتباكهم.
يلازم الخجل الشديد العديد من الشباب، وقد يكون ناتجاً عن الوراثة وأخطاء في التربية، وقد تصير حالتهم مرضية بامتياز، تسبب انعزالهم عن المجتمع انعزالاً كاملاً، وتعرضهم للتنمر بسبب انطوائيتهم المبالغ فيها، ولعثمتهم بالكلام الناتجة عن توترهم عالي المستوى، إذ يعزز بعض الأهل لدى أولادهم شعور الخوف من الآخرين، وضرورة توقع الأسوأ دائماً عندما يقابلون شخصاً جديداً، وأهمية الحفاظ على دائرة معارفهم ضيقة قدر الإمكان، فينشؤون والخجل والقلق محفوران في ذاكرتهم، ويكبرون بشخصيات معطوبة يساورها القلق وعدم الراحة، لتصير أقصى طموحاتهم أن ينهوا محادثة دون أن يتلعثموا، أو تحمر وجوههم وتبدأ رؤوسهم بالطنين!
الأشخاص الذين يعانون من الخجل الشديد، يساورهم القلق وعدم الراحة أو الرضا تجاه أنفسهم وعلاقاتهم العائلية والعاطفية - إن تجرؤوا على الدخول في إحداها- وبالقدر ذاته، يصابون بنوبات ذعر من المحيط والمجتمع، إذ لا يجدون الرحمة في أي مكان، فمنازلهم أولاً، محيطهم ثانياً والمجتمع ككل
لكن بالحقيقة، وكشخص عانى من الخجل وتخلص منه، فإن الأمر برمته لا يتعدى خطوة صغيرة نأخذها بالاتجاه المعاكس، أي أن نبدأ برؤية أنفسنا ورغباتنا والبحث عن شخصيتنا الحقيقية وما نريد أن نكون، بعيداً عن الاكتراث بآراء الآخرين والأحكام التي يطلقونها علينا ويأسروننا بها، بعيداً عن خوفنا بألا نكون مناسبين ومناسبات للمعاير المفروضة علينا من قبل الأهل أو المحيط.
من يعاني من الخجل، يشعر عندما يمر أمام حشد من الناس، وكأنه يقف على مسرح مدرج الكولوسيوم وحيداً وأمامه خمسون ألف متفرج، وقد سُلّط الضوء عليه، في انتظار أن يرتجل ملحمة شعرية لا تقل إدهاشاً عن ملاحم هوميروس، في حين أنه في الحقيقة قد لا يلاحظه أحد، وفي هذا الصدد يقول أحمد خالد توفيق: "الخجل ينبع من توهمك لأهمية مبالغ فيها لنفسك، أنت لست مهماً كما تعتقد، لست مهماً على الإطلاق، وليس هناك شخص متفرغ لمراقبة خلجاتك وأخطائك!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...