شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
دراجة هوائية وفستان دون أكمام في بغداد

دراجة هوائية وفستان دون أكمام في بغداد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 21 سبتمبر 202003:55 م

كل ما أعرفه هو أن جسدي، الذي طالما شبهه أخي بالعصا النحيلة، أصابته حالة من الزهد بأحلامه الخجولة، مع مرور السنين. لم يعد هذا الجسد ملبداً بشغف الشعور القديم، آه... الشعور الذي ينقض عليّ فجأة، وبفضله تنتصب الشعيرات المدفونة في جلدي، حين يكون باستطاعتي فعل شيء كنت قد رغبت يوماً بتحقيقه، حتى وإن كان مجرد حلم في رأسي، لأن الواقع دائماً يخبرني: إن هذا لن يحدث الآن.

 أتذكر اليوم الذي ابتاع فيه أخي دراجة هوائية جديدة، كاد قلبي يفرّ راقصاً مع صوت مكابحها الغريب. لمستها وحاولت أن أجربها، ثم تذكرت بأني لم أتمرن يوماً على استعمالها حتى. كان من الصعب عليّ أن أجرؤ على فك أزرار الحلم ثم أوغل بالطريق، من خلال دراجة هوائية يعلوها رأس فتاة طائشة.

ببساطة، مكاني لا يسمح بهذا: لنتخيل أن بقعة من الأرض ترفض أفعالاً صغيرة قد تجعلني سعيدة إلى الأبد، وشيئاً فشيئاً اعتدت على فقدان هذا النوع من الأحلام، الأحلام التي قد تبدو مجنونة لسواي، وركوب الدراجة بات أمراً مضحكاً، مقارنة بأمور أخرى تدور في رأسي الذي ينمو كلما شاخت شجرة الكستناء أمام بيتنا.

 ما الذي يمكن أن يحدث لو تمكنت من ارتداء فستان من دون أكمام هنا في مدينتي؟ أقصد حتى لو أنني لا أرتديه بالعادة، فقط لو أنني شاهدته وحسب على جسد فتاة تصادف طريقي إلى العمل، يجيبني صوت روحي وهو يضحك، وأحياناً يرد بقسوة وسخرية: ومع دراجة هوائية، ما رأيك؟ 

 أكلم نفسي: ما الذي يمكن أن يحدث لو تمكنت من ارتداء فستان من دون أكمام هنا في مدينتي؟ أقصد حتى لو أنني لا أرتديه بالعادة، فقط لو أنني شاهدته وحسب على جسد فتاة تصادف طريقي إلى العمل، يجيبني صوت روحي وهو يضحك، وأحياناً يرد بقسوة وسخرية: ومع دراجة هوائية، ما رأيك؟ 

لا رأي لي، لكني أشاهد هذه الصور لفتيات كثيرات في بلدان عدة، وأطالع بكل أمانة الوجوه العابرة، لا أجد من يتربص بغضب أثوابهن الملونة. في الحقيقة، ومن كوكب آخر خارج مدينتي، يبدو الجميع منهمكاً بمشاغله، إلا أنا، سأفكر غالباً، فيما لو نقلت الصورة إلى شوارعنا، وأتخيل تلك التعليقات التي ستنزلق من هنا وهناك، نحو الفتاة المتخففة من تاريخنا الثقيل، غالباً ستكون عباراتهم مهينة لها. التخيل بذاته يجعل منها فكرة غير متحققة، حتى لو مشت تلك الفتاة في مدينتي بكل تلك الخفة الهائلة.

أسير لوحدي دائماً، أحب فكرة مراقبة حياة أخرى، مؤقتة وليست متاحة دائماً لي، أبتسم قليلاً وابتهج لكوني، على نحو خجول، قد منحت عيني رؤية فتاة سعيدة بدراجتها الهوائية، فتاة لا تفكر بكل هذا. أقف أمام أي نهر أو مياه تلوّن طريقي، وأتخيله كما لو أنه دجلة الذي أحب. أتخيل لو أني أتمكن يوماً من الجلوس أمام ذلك النهر العراقي، كما أجلس الآن وحدي في هذا الليل الغريب والبعيد عن بلادي، دون خوف. لم لا يحدث هذا الشيء ببساطة وحسب؟ هل دائماً على يدي أن تسحب حقائب السفر الكبيرة، وتجرجر روح المفاضلة بين مكاني ومكان آخر؟ لقد جربت يوماً محاولة ركوب الدراجة في برلين، وفشلت بالطبع، لكني كنت سعيدة بهذه التجربة الخاسرة، مثل طفل يود تناول الطعام وأسنانه لا تساعده. 

أحلم أن أشاهد الحياة من أعلى مقعدها، ولا بأس ببعض المخاطرة بفتح ذراعي، لتحسس الهواء التموزي الساخن، وألا يكون كل ما أفكر به وأتمناه، حراماً

من يسألني بماذا تحلمين؟ بلا تفكير سأجيب: أريد تحويل أحلامي البهيجة هذه إلى حقيقة، أن يلسعني مقود الدراجة الهوائية الحار وأنا في طريقي إلى مقر عملي، أن أشتري لدراجتي سلسلة حديدية كبيرة تحميها من السرقة، ليس بالطبع خوفاً من السرّاق، حلمي ليس فيه لص واحد على الأقل، ولكن، كي أصبح شبيهة بتلك الفتاة التي شاهدتها وهي تربط دراجتها على عجل في برلين، خوفاً من أن تطير لوحدها ربما... لا أحد يدري، من الممكن أن تطير الدراجات هناك لفرط حريتها. أحلم أن أشاهد الحياة من أعلى مقعدها، ولا بأس ببعض المخاطرة بفتح ذراعي، لتحسس الهواء التموزي الساخن، وألا يكون كل ما أفكر به وأتمناه، حراماً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image