شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
بيروت... أبحث فيك عن حب بلا عذاب فهل ألقاه؟

بيروت... أبحث فيك عن حب بلا عذاب فهل ألقاه؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 23 سبتمبر 202012:11 م

لم أشعر أو أفكّر يوماً أني أنتمي لفضاء ومادة غير بيروت.

مع هذا، لا أكتب هذه السطور كي أقتنص القداسة لمدينتي، ولا لأرفّعها عمّا أنتجته من أنماط عيش طاحنة وأشكال بناء مشوّهة، حتى بات الأمر يحدث مؤخراً بوتيرة تفوق قدرة العقل على الاستيعاب والنفس على التكيّف. كما لا أكتبها كي أقذف المدينة بغضب وشتم، على طريقة الترندات التي لا تفسر حقيقة أسباب السخط والكراهية، بل غايتها أن تحصد الإعجابات الوفيرة.

من هنا، أعتقد أن عاصمة البلد تُجرّد من أبرز ما يمكن أن يدل عليها، أعني "الديمقراطية" (المبتورة بطبيعة الحال)، إذا جُعلت منزّهة عن الخطأ أو الانهيار. ويساوي المسألة سوءاً نكران صمود العاصمة، مقاومتها، تنوعاتها الفكرية - الاجتماعية والفروقات التي أحدثتها وسط محيطها الجغرافي الضيّق والواسع، على الرغم من الحروب والنكبات التي ألمّت بالسكن والسكّان.

لحظة الانفجار... تشظي الداخل

عندما انفجر المرفأ، كنت أسير على الطريق، كعادتي في هذا الوقت من أغلب أيامي، أقتطع المسافة الفاصلة بين قهوتي وبيتي، مع رفيقي الذي أجالسه أكثر من أي كائن حيّ (اللابتوب)، مثل زميل في النهار وصديق في الليل، أسأله حول هواجسي. وربما لهذه المعاني غير المادية بالذات، شددته إلى قلبي لحظة دفعني عصف الانفجار، خشية خسارة القليل الباقي على أرض الخراب الدائم واللئيم.

جنّ جنون المارين حولي، عابرين مشياً أو بالسيارات، إلا زمرة رجال ظلوا يمارسون الجري، كأن ما حدث عادي جداً ومتوقّع تماماً بالنسبة لهم.

عندما انفجر مرفأ بيروت اعتقدت لوهلة أني مت بلا ألم، كذلك الناس، وانتقلنا برمشة عين، بلا العذاب الموعود، إلى العالم الآخر، حيث لا اختلاف يُذكر سوى في طريقة تلقي الحواس للمحسوس

لم أفهم حتى الآن كيف انشغلت بداية بالنظر إلى بانوراما الصراخ والبكاء حولي، واستشفاف ما أدركه العقل الجماعي بأننا أمام كارثة كبرى، استلهاماً من ذاكرة جماعية مكتظة بصور المجازر.

كنت أولاً مُشاهِدة من الخارج، لا جزءاً من المشهد بحد ذاته، ثم استفقت على نفسي، فتنبهت لتضاعف لهب آب فوق بشرتي، وطنين عميق في أذني يوغل نحو قلبي. اعتقدت لوهلة أني مت بلا ألم، كذلك الناس، وانتقلنا برمشة عين، بلا العذاب الموعود، إلى العالم الآخر، حيث لا اختلاف يُذكر سوى في طريقة تلقي الحواس للمحسوس. 

كانت الأسابيع الأولى بعد الصدمة ثقيلة. ما عاد جسدي يستجيب لأوامر عقلي. تشظيت بين إرادة البقاء في التفكير والوهن الشديد بالأطراف. راحت تتعثر كل محاولاتي للنهوض، حتى ضاق بي عالمي إلى حدود سريري: أعطش، أشرب، فيتحول الماء الذي أتناوله إلى دموع تصفّيني. كان بكاء على نصف قلب احترق، نصف عقل تطاير: إدراك حرفي لمعنى "قصف العمر".

أما إذا حدث وخرجت إلى الشارع بعد مشقة، تجتذبني المناطق المنكوبة كالمغناطيس، وفيها تتراءى لي الشبابيك المحطمة عيون أحباء مفقوعة، وركام المباني عظامهم المكسورة.

كم مرةً نقع في حب ما يؤذينا

بيروت ليست أبداً أيقونة في خيالي، لكنها حتماً شكّلت تكويني، وجداني ومكان حياة ما عشتها إلا مهددة بحروب ومعارك لا تنتهي مع عدو، "غريب" أو أهلي. ولدت قُبيل الاجتياح الاسرائيلي بقليل، لأكبر وتبقى أمي تستحضر قصص فطامي في الملجأ وخطواتي الأولى على أرضه، كلما سنحت مناسبة، كتفجير 4 آب وما دونها.

لكن مهلاً، فتلك لم تكن عملياً بملاجئ، بمعنى أنها لم تُنشأ بهدف حماية المختبئين، بل كانت معامل أو مرائب سفلية، مساحات مدفونة تفتقد لأدنى مقومات العيش، وليس أقلها الضوء والهواء.

هكذا إذن تمت إعاقة نموي السليم وبسلام، فأنا لم ألعب "في الخارج" كما قرأت في قصص الأطفال وكتب القراءة. في سن المرح واللهو، كنت أشاهد وأشهد أخبار الخطف، التشويه، القتل، الحرق والدمار.

وحتى بعد انتهاء الحرب واختيار أبي مدرسة علمانية لي، تقع في النصف الشرقي لبيروت، نهشتني النظرات والكلمات العنصرية من منطلق تنميطي بأني الآتية من "الغربية"، الرقعة المترامية خلف حدود الوطن المنمنم، خارج حضارة الأرجواني العظيم.

لم تكن سنوات عقدي الأول والنصف الذي يليه "حياة". أحسبها وقتاً طويلاً ومهدوراً للعبور إلى نجاة يبدو أنها لم تتحقق.

أخيراً، هذا نصي الأول المكتوب بالفصحى بعد الانفجار. شئته ولادة في حياة جديدة بعد حيوات خلصت قبل أن تصل إلى نهاياتها، فهل تكتمل؟ وهو مرفق بلوحتي الأولى بعد الانفجار، وكنت قد اعتقدت أني أصبحت عاجزة عن إنتاج ما أحيا به وأحبه.

لم أشعر أو أفكّر يوماً أني أنتمي لفضاء ومادة غير بيروت، مع هذا، لا أكتب هذه السطور كي أقتنص القداسة لمدينتي.... أبحث عن حب بلا عذاب فهل ألقاه؟

وآخراً، كم مرّة ومرّة نقع في حب ما يؤذينا، فنختار فراراً يمسي بدوره عذاباً.

صورة المقال: كولاج ولوحة لمؤلفة المقال بعنوان "40 يوم على انفجار مرفأ بيروت: أرواح ارتقت إلى السماء ومانيوليا تزهر" (رماد وباطون أكليريك على كانفاس مع قماش ). 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image