أن تعيش في سوريا بعد تسع سنوات من الحرب، بكل ما تعنيه من اللامعقولية، والألم، واللاجدوى في البحث عن أهون وأبسط مُسبِّبات الحياة، فهذا يعني بكل بساطة أنك دخلت في طور التفكير "الكاموي" عن ذاك القلق المتمترس في كل تفاصيل وجودك، والدائب لزعزعة كيانك، كلما أتحت له الفرصة لأن يُطِلَّ برأسه، ليس بحكم العادة، وإنما بسبب رغبتك بالفهم، وأن تتوضح أمامك الصورة، لكنك في خضم ذلك، ستجد أنك ازددت قناعة بأن عدم الفهم أقل تكلفة بالنسبة لك، على الأقل على الصعيد النفسي، خاصة أن مجرد تفكيرك بمرارة رغيف الخبز كاف لدفعك إلى حافة "الانتحار الفلسفي" كما تحدث عنه "ألبير كامو".
لذا من الأفضل البقاء بعيداً عن التساؤل المُمِضّ فيما إذا كان للحياة أي معنى، بل الأفضل في حالتك كسوري، ما زال يعيش في سوريا، محاولة إقناع نفسك بـ"أنه حتى ضمن الحدود العدمية، من السهل إيجاد الوسيلة للمضي إلى ما وراء العدمية"، لأنه باعتبارك تدحرج حجر وجودك إلى أعلى الجبل، فهذا لا يعني أن تركز على قيمة الوصول، بل أدرك واجعل وعيك كافياً للنظر إلى أن كل ما تفعله مسلٍّ بدرجة كبيرة، طالما أنك تنظر إلى متعة طريقك، وإلى قدرتك المتواصلة على الدفع، باعتبارها القيمة الأهم، فهكذا يكون فهمك لوجودك في أعلى درجات بهائه.
وتذكر في الوقت ذاته، أنك مع ذاك الحجر، تجرجر خيباتك ونزقك وسأمك اللامتناهي، لكنك راض وقانع، بأنه لا مفر، لا بل إنك تسوغ كل تلك العبثية التي تحيط بك باعتبارها نوعاً من الرياضات الذهنية، وبعض التمارين الرياضية لا أكثر، ودليل ذلك أنك ترفع جرّة الغاز بكل أحاسيس الزهو التي تمتلكها، بعد أن أعلنت البطاقة الذكية أن دورك حان في اقتنائها، واقتناص لذاتها لطهي ما يتيسر لك من خضراوات بلدك الأخضر التي تآخت مع الدولار الأخضر في إذلالك، رغم أنها "صناعة بلدية وطنية بامتياز"، طبعاً من دون أن تعلم العلاقة الجدلية بين "جرزة" البقدونس والدولار، أو أين مكمن الديالكتيك بين الفول والفاصولياء "عيشة خانم" والكزبرة وبين الـ"شوئسمو"، بعدما بات مجرد ذكره يجعل السوريين يتلفتون يمنة ويسرة، فوقاً وتحتاً، أماماً ووراء، لأنهم متيقنون بأن مصير كل منهم شبيه جداً بحصان امرؤ القيس الذي "حطَّه السيل من علِ" نحو أسفل السافلين.
على الأقل ما زلت قادراً على الأكل، بل ومحتفظ بأسنانك رغم كل "الكَزَّ" الذي يسببه حنقك المزمن من انعدام المنطق في كل ما حولك، ورغم ضربات الكوع واللكمات التي يحظى بها وجه المهرِّج الذي تحمله، سواء على طوابير الفرن من أجل ربطتي خبز، أو في انتظار السرافيس التي باتت أكثر عبثية "من انتظار غودو" بذات نفسه
لكن مع ذلك لا يخامرك اليأس نهائياً، فأنت على الدوام تنظر إلى نصف الكأس الملآن، فعلى الأقل ما زلت قادراً على الأكل، بل ومحتفظ بأسنانك رغم كل "الكَزَّ" الذي يسببه حنقك المزمن من انعدام المنطق في كل ما حولك، ورغم ضربات الكوع واللكمات التي يحظى بها وجه المهرِّج الذي تحمله، سواء على طوابير الفرن من أجل ربطتي خبز، أو في انتظار السرافيس التي باتت أكثر عبثية "من انتظار غودو" بذات نفسه.
وما يجعل الأمر "غروتيسكياً" أكثر أنه بمجرد حصولك على ذاك المقعد المأمول، ولو كان في وسيلة نقل مُهلْهَلة لم تعد صالحة حتى لنقل الدواب، فإنك تستشعر بأنك صرت ملكاً، وتبدأ بالنظر من الشبَّاك إلى إخوتك في الإنسانية كمن ينظر إلى رعيته، من دون أن تفهم كيف تحولت فجأة من واحد من القطيع إلى راعٍ رؤوف، عطوف ورؤوم، زد على ذلك إحساسك بأن العدالة الإلهية تحققت الآن، فمثلك لا ينبغي أن يتلقى ضربة شمس صيفية ولا لسعة برد شتائية، متناسياً أن ما يجمعك بـ"رعيتك المفترضة" أكثر بكثير مما يفرقك عنهم، ولعل أبرز تلك القواسم المشتركة العظمى هي "الراتب"، أو كما تحب أن تسميه "الما عاش"، والذي يتراوح بين 109 دولارات و183 دولاراً، وذلك بناء على سعر الصرف الرسمي الصادر عن مصرف سوريا المركزي والبالغ 438 ليرة للدولار، والمصيبة المشتركة الكبرى تتفاقم في حال حسبناه حسب السوق السوداء، حيث "نَطَّ" إلى حدود الألفي ليرة منذ أيام قليلة، فتخيل أن راتب الموظف الجامعي من الدرجة الأولى لا يتعدى الخمسين ألف ليرة سورية (تقريباً 30 دولار حسب السوق السوداء)، وربما يكون مهندساً أو طبيباً أو صحفياً كحالي مثلاً، بينما بائع بسطة بندورة أو بصل يزيد مدخوله، في يوم واحد أو يومين على الأكثر، عن راتبك الشهري، لكنك تعود وتتذكر أن المقارنة غير جائزة، لأن سعادتك هي في إدراكك ووعيك لمعادلة الحياة غير القادر على حلها، لا أنت ولا حتى أكثر الوجوديين عبثية، إذ إن العلاقة بين اللامعقولية السورية، والعبث المتجذِّر في كل تفاصيل حياتنا كسوريين، هي التي ترسم معالم اللاجدوى بأبهى أشكالها.
صحيح أن "ألبير كامو" بجلالة قَدْرِه، خرج من الحرب العالمية الثانية وعدمية الموت ومرض السل وأيضاً من الشيوعية الستالينية، إلا أنه لو كُتِبَ له أن يعايش ما نعيشه في سعينا المستمر للحياة، لكان أغنى بحثه الحياتي والدرامي والفلسفي، بمزيد من الاكتشافات الصادمة والصادقة جداً، وربما أضاف فصولاً إلى كتابه "أسطورة سيزيف"، قد تحمل عناوين من مثل "العبث واللاجدوى عند صحفي سوري" أو "الإنسان اللامجدي هو سوري حتماً" أو "الخلق السوري اللامجدي"، هذا طبعاً إن كان لديه "خلق" ليكمل في الكتابة أساساً، لاسيما أن الأسطورة التي كتب عنها ومقارباتها الواقعية، ستتحطم ملامحها العامة، عندما يرى ذاك الحجر الذي يدفعه سيزيف السوري مربَّعاً مرة، ومثلثاً في مرات أخرى، وقد يكون شبه منحرف أيضاً، وفي أعلى درجات سخرية سيزيفنا من أرباب أسواق الصرافة، آلهة بورصات الدم والأسلحة، مسؤولي أسهم لقمة العيش بأدنى تجلياتها وتُجَّار الضمائر الميتة، فإنه ينظر إلى المفارقة الكامنة في كونه، رغم جميع خساراته وتعبه وألمه في زمنها الحاضر المستمر، فإنه في كل لحظة من اللحظات التي يغادر فيها الذروة ويهبط تدريجياً إلى عَدَمِه ومَرْتَعِ كينونته، "يكون أسمى من مصيره، وأقوى من صخرته"، بحسب كامو ذاته، وكأنه ينتصر بيأسه وقناعته الصادقة بأن عذاباته الجليلة تفنى بالاعتراف بها.
صحيح أن "ألبير كامو" بجلالة قَدْرِه، خرج من الحرب العالمية الثانية وعدمية الموت ومرض السل وأيضاً من الشيوعية الستالينية، إلا أنه لو كُتِبَ له أن يعايش ما نعيشه في سعينا المستمر للحياة، لكان أغنى بحثه الحياتي والدرامي والفلسفي، بمزيد من الاكتشافات الصادمة والصادقة جداً
وحينها تتحول عملية رفع الصخرة إلى نوع من الرياضة البدنية والذهنية، يتأمل فيها سيزيف السوري عضلاته قبل أن يبدأ من جديد، مرتاحاً للياقته المتزايدة وعزيمته التي لا تلين، وفي الوقت ذاته يمعن التفكير في سعادته التي تنثبق مع كل شهيق وزفير، ومع كل حبّة عَرَقٍ تسقط من جبهته على أرض عذاباته، فهو الذي اختار البقاء في سوريا، من دون أن يعرف أنها ستكون صخرته الأكبر التي سيدفعها نحو مرتفعات وجوده الوعر، لكنه يواصل عمله بصمت، ويتقبل عقوبات السماء والأرض التي تنهال عليه بابتسامة رضا، ليس لأنه مؤمن بأي آلهة، بل سخرية منها، من وجودها بالأصل، ولاعتقاده بأنه من خلال جَلَدِه وقدرته المتعاظمة على درء الأمل واستبعاده من حساباته نهائياً، وعدم تذمُّرِه مما آلت إليه أحواله بسبب خياراته، فإن ذلك سيبقيه سعيداً، فهو من اختار مصيره، وصخرتُه من صنعِ يديه، ويكفيه سبباً للغبطة أنه لم يفقد رجلاً بقذيفة هاون، ولم يصبح بيد واحدة بسبب شظية، وإلا كيف كان سيدفع صخرته وهو معتلُّ الصحة؟
تخيلوا أنه حتى "كورونا" بجلال قدره لم يستطع أن يكسر من إرادة هذا المياوم الصنديد، أو أن يزيحه قيد أُنملة عن مساره، وعن الميزانسين المرسوم له على خشبة عذابه بكل قسوة، إذ وضع الكمامة لساعات، ثم عقَّم يديه بصدق عاطفته، وعاد إلى دفع صخرته، غير آمل البتّة، ومن دون أي رجاء مهما كان مصدره، بل مكرِّساً كيانه كله "من أجل تحقيق اللاشيء"، مؤكداً في الوقت ذاته على أن "سيزيف هو بروليتاري الآلهة، الذي ينبغي على المرء أن يتخيله سعيداً"، بحسب قناعة صاحب "الغريب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...