شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"معك إلى أن تموت الشمس"... في حبّ "الزعيم"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 20 سبتمبر 202010:43 ص

الحب كلمة من حرفين، كذلك الرَبّ... قوة هائلة تعصف بالنفس البشرية. في المفهوم العام، يُختزل الحب بالعلاقة بين الرجل والمرأة... حبٌّ فزواجٌ فأطفال، تضمن الجماعة من خلالهم استمراريتها أو تفوقها الديموغرافي.

لكن التاريخ البشري أفرز أنواعاً أخرى من الحب، منها الحب الإلهي، حب الأهل والأقارب، حب الجنس، وحب "الزعيم" السياسي.

حب "الزعيم" تقديسٌ للقائد، مديحٌ للذلّ ولعقٌ للفقر والحرمان. هو شعور مكتسب منذ الصغر. فبعد تعلّم نطق كلمتي "بابا" و"ماما"، تأتي مرحلة الهتاف باسم الزعيم، وترديد الشتائم لسواه.

رحلة التبعية عند الفرد اللبناني تترافق مع التلقين الذي يمارسه الأهل والأقارب. تحافظ الجماعات على نقاوة رأيها السياسي في توحيد "الزعيم"، فهو واحد لا شريك له، الحقّ المطلق الذي يتصدّى للآخرين، المجرمين والظالمين.

في مرحلة المراهقة، ينخرط الشخص اجتماعياً في نشاطات وجلسات تدور في فلك "الزعيم". يشاهد مع أهله وأصحابه خطاباته في ليالي السهر والسمر. يشهد جلسات التباهي بصورة قديمة لأحد أفراد العائلة مع "القائد"، حين كان الشعب يتقاتل ويموت، و"الزعماء" يتفاوضون ويرتقون.

المراهق مندفع. تستغلّ "القيادة" هذا الأمر لتشجعيه على حمل السلاح، والمشاركة في أعمال العنف، وكل ما يرفع الأدرينالين: ما يبحث عنه كل مراهق!

المرحلة الجامعية مهمّة في سياق تكوين شخصية موالية بالمطلق لـ"الزعيم". تُقدّم الأحزاب اللبنانية المساعدات المادية والمعنوية للطلاب الموالين لها، وتخفيضات على الأقساط الجامعية في الجامعات الخاصة، وتؤمّن الملخصات عن المحاضرات، وتسرّب أوراق الامتحانات أحياناً. وتنشط اللجان الطلابية في عرض عضلات زعيمها، والحديث عن نفوذه وقدرته على تأمين العمل بعد الحصول على شهادة، أو حتى قبلها.

الوقاحة أيقونة العمل السياسي اللبناني، مواضيع الفساد التي تنتشر في الإعلام لا تهزّ صورة "الزعيم" في مخيلة محبّيه، لأن الشك لا يعيش مع الحبّ. ومن باب المزايدات، كلما ثبت تورط زعيم بتهمة، يتعلق جمهوره به أكثر، ويتنافسون في صياغة عبارات الحب والولاء الأعمى له

يصعب على الطالب رفض كل هذه المغريات مقابل الحفاظ على مبادئه الإنسانية. نقول إنسانية لأن كل "زعماء" لبنان أيديهم ملوّثة بالدماء والفساد.

ثم يأتي زمن الانتخابات النيابية، وهي مهرجان للكذب والنفاق. يخرج "الزعيم" على الجماهير، بابتسامته الصفراء الساحرة أو بسبابته الطويلة، واعداً بالخير الكثير، وبتحويل البلد إلى "أتلانتس" الشرق. خلال هذه الفترة، يرتدي المحازبون قمصاناً تحمل صور زعيمهم وشعاراته، وتنتشر صوره في الأحياء والشوارع، ويتنافس التابعون على حجم الصور. قد تصل صورة إلى بضعة أمتار أحياناً، على قاعدة: "زعيمي أكبر من زعيمك".

الوعود الانتخابية أوهام يخزّنها الزعيم في لاوعي جمهوره، وفور انتهاء الانتخابات، تختفي سريعاً، وقد تنفجر كما انفجر نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت مخلفةً الدمار.

حبّ "الزعيم" مسلسل عشق لا ينتهي. أحياناً يبدأ مع الفرد قبل الولادة فكثيراً ما يحمل الولد اسم "الزعيم" تيمّناً به، ويرافقه في مراهقته مقدّماً له بعض الإغراءات، ويساعده على إنهاء الدراسة بأقل كلفة ممكنة، ثم يُقحمه في القطاع العام للعمل، ما أدى إلى تضخم هائل في السنوات الأخيرة.

حب "الزعيم" تقديسٌ للقائد، مديحٌ للذلّ ولعقٌ للفقر والحرمان. هو شعور مكتسب منذ الصغر. فبعد تعلّم نطق كلمتي "بابا" و"ماما"، تأتي مرحلة الهتاف باسم الزعيم، وترديد الشتائم لسواه

تحوّل القطاع العام اللبناني إلى ما يشبه منشأة خاصة، يزرع فيها "الزعيم" محبّيه، ثمّ يزرعون معاً الفساد في الدولة. ومفهوم "الدولة" ضبابي وهلامي. من السهل رمي مسؤولية كل شيء على عاتقها. ينسب "الزعيم" كل شيء جيّد إلى نفسه، والمصائب يرميها في حضن "الدولة".

هكذا، يجد الشخص نفسه عالقاً في دوامة حبّ "الزعيم". الخروج منها محرّم وله تبعاته، والفاتورة كبيرة ويصعب دفعها، فالزعيم "هو الذي علّم، هو الذي وظّف، هو الذي بيده مصير كل شيء". إله صغير.

وبجانب هذه الجزرة الصغيرة تحضر العصا الغليظة. الاختلاف مع البيئة على قدسية "الزعيم" يُحوّل الفرد إلى عدو داخلي فيدفع أثماناً باهظة.

محبّو الزعماء دائمو التوتّر. لا يهدأون. كثيراً ما تؤدي الاختلافات في الرأي بين الجيران في الأحياء المختلطة إلى عنف بين الأهالي، وقد تؤدي إلى القتل. "شهداء الصور والأعلام" كُثر. الموضوع يدعو للسخرية حين تسمع: "مات فلان ليحافظ على صورة الزعيم شامخة عند باب الحيّ".

أفعال الزعيم مباحة، فساده مبرّر، إجرامه مغفور، هو دائماً كالعائد من الحجّ، كمَن ولدته أمّه قبل لحظات.

"زعيم" يجرّ البلد إلى حرب مدمّرة، ثم يخرج ليقول "لو كنت أعلم"، بالرغم من أنّه "المُعلّم" الأمهر. ثانٍ يطالب بالإصلاح، وحين يستلم السلطة ويغرق في الفساد يطلّ علينا بعبارة: "ما خلونا نشتغل". آخرون يمكثون في السلطة لسنوات عديدة، وفور خروجهم منها مؤقتاً يقفون مع المعارضة والانتفاضة للمطالبة بالتغيير...

الوقاحة أيقونة العمل السياسي اللبناني، مواضيع الفساد التي تنتشر في الإعلام لا تهزّ صورة "الزعيم" في مخيلة محبّيه، لأن الشك لا يعيش مع الحبّ. ومن باب المزايدات، كلما ثبت تورط زعيم بتهمة، يتعلق جمهوره به أكثر، ويتنافسون في صياغة عبارات الحب والولاء الأعمى له. ربما لأن الحبّ أعمى.

"معك إلى أن تموت الشمس"، "لعيونك" ، "لبيك"، وغيرها الكثير من العبارات تخرج لتقديس وتأليه الزعيم السياسي، ما يوصله إلى مرتبة أعلى من الأنبياء، وهذا ما يمنع أي فرصة لولادة دولة حديثة وديمقراطية، أهم أسسها الجواب الواضح على سؤال: "من أين لك هذا؟"، ثم المحاسبة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image