في الأوساط الاجتماعية التي تقدس الأسرة، يشدد الآباء على أن جزءاً جوهرياً من نجاحهم في تربية بناتهم هو أن يصبحن زوجات وأمهات، وينظرون للمرأة غير المتزوجة بأنها تعاني من مشكلة ما، إما أنها "فاشلة"، "معقدة نفسياً" أو تعاني من "فراغ عاطفي"، فلا بد من وجود رجل في حياتها ليقال إنها "سوية" و"ناجحة".
تذكرتْ بسنت علي، نظرات زملائها ووالدتها وإخوتها، وهي تنظر إلى وجهها في المرأة، تأملت التجاعيد والخطوط على وجهها وكأنها تنظر إليها لأول مرة، وتذكرت أيضاً أنها بلغت 45 عاماً.
أخذت بسنت تنظر وتدقق، وعاد بها العمر عشر سنوات، كيف اختبرت "الفراغ العاطفي" الخاص بها وعدم وجود الشخص المناسب: تريد أن تحب و"تنحب"، ولكنها أيضاً لن تقبل أي رجل لمجرد الزواج به.
"اضطررت لمعاداة أهلي"
قررت بسنت منذ خمس سنوات أن تتبنى طفلة، ومن هنا تصاعد الخلاف مع الأهل، حيث أن فرصة الزواج ستنعدم من وجهه نظرهم إذا قررت ابنتهم التبني، وكيف لها أن تربي طفلة لم تنجبها.
تقول بسنت، موظفة في بنك، وتسكن في القاهرة، لرصيف22: "لم يكن سهلاً علي معادة أهلي، ولكنهم كانوا جزءاً من المشكلة بل أصلها، لإصرارهم على عدم الاحتفاظ بشخصيتي بعيداً عنهم. وبالفعل اتخذت منزلاً بعيداً عن العائلة، واستقللت بنفسي وابنتي بالتبني، ومع الوقت ومرور السنوات استعدت علاقتي مع أهلي مرة أخرى شيئاً فشيئاً".
"لا أجزم بأن الحياة المستقلة سهلة، ولكنها ليست مستحيلة. أواجه العديد من الصعوبات ولكنى قادرة على تحدي، على سبيل المثال، نظرات الجيران وكيف أنني أعيش بمفردي وكأني ارتكبت جريمة "، تقول بسنت.
"لم يكن سهلاً علي معادة أهلي، ولكنهم كانوا جزءاً من المشكلة بل أصلها، لإصرارهم على عدم الاحتفاظ بشخصيتي بعيداً عنهم. وبالفعل اتخذت منزلاً بعيداً عن العائلة، واستقللت بنفسي وابنتي بالتبني"
وأضافت: "تعلمت أموراً في السباكة، والكهرباء، وغيرها من الأمور البسيطة، التي من الممكن أن أقوم بها، ولا أستعين بمتخصص، وكل هذا جاء بالتجربة والاستعانة بالإنترنت، وبالفعل شعور الأمومة والاهتمام بطفلة بكافة التفاصيل الخاصة بها أمر ليس سهلاً ولكنه ممتع للغاية وشعور لا يوصف ".
"الحب إحساس مطلق"
ومن أمومة بسنت إلى واقع مريم (اسم مستعار)، 35 عاماً، تعمل هي الأخرى في أحد البنوك، تحكي لرصيف22: "بحس بالفراغ العاطفي لما بكون فاضية"، هكذا وصفت مريم شعورها بالفراغ العاطفي الذي طالما شعرت به، والذي غرسه فيها الأهل والمجتمع، ولكنها لم تقف عنده، بل تخطته بالعمل.
تشغل مريم وقتها بالعديد من الهوايات التي تمارسها، كالرسم والموسيقى، مضيفة: "كثيراً ما يقولون لي إن صوتي حلو، لذا في وقت فراغي أتدرب على الأغاني وأشغل وقتي بالهوايات التي أفضلها. بدأت برسم أقاربي، ثم توسع الأمر ليشمل رسم أشخاص لم أعرفهم، وتحول الأمر لبيزنس خاص عبر صفحات الإنترنت".
"لا أحلم بفارس يأخذني على حصان أبيض".
"لم تنتابني أحلام مثل فارس يأخذني على حصان أبيض ويشيد لي القصور والمباني، هذا لم يكن يشغلني، فأنا دائماً ما أنظر للأمور من منظور آخر واقعي لحد كبير، وأرى أن الحياة لا تقف بشعوري بالحب من جانب الجنس الآخر، فشعور الحب هو مطلق ومن الممكن أن يعطيه الشخص لأقرب أشخاص لديه، كأمه وأبيه وغيرهما".
وبصوت خافت، تكمل حديثها: "بالطبع وجود رجل في حياة المرأة، أقصد الزوج، مهم، ورأيي الشخصي أن أهم حاجة في الزواج هم الأولاد، فأنا أعشق الأطفال، ويمكن أن أجزم بأني لو أريد الزواج فأنا أريده من أجلهم".
خضعت مريم للمجتمع، خاصة فور تخطيها الثلاثين عاماً، وقررت أن ترتبط لتشعر بأنها امرأة طبيعية، تقول: "اتخطبت لأحد زملائي في العمل، لم يكن يجمعني به أي استلطاف، ولكن فعلت هذا خضوعاً لرغبة المجتمع ورغبة أهلي، وقبل تحديد موعد الزواج فضلتُ أن أستمر بما يسمونه فراغي العاطفي وشعوري السيء بطبيعة الحال، وألا انصاع لرغبات ليست مني وغير نابعة من داخلي".
"اكتشفت شغفي بالمطبخ"
على عكس بسنت، لم تعاني هويدا أحمد، 36عاماً، تعمل في إحدى المدارس، من ضغط الأسرة، فلطالما شجعها والدها أن تفعل ما تحب، لا ما يفترضه الناس.
تحكي هويدا لرصيف22: "لم أدخل في علاقة عاطفية طوال حياتي، ولكنى لا أجدها أزمة طالما المرأة تستطيع أن تثبت ذاتها داخل المجتمع، الأمر لا يتوقف على الرجل لكي تعيش المرأة وتكون فعالة، بل متوقف على شعورها وإحساسها بذاتها وأنها قادرة على التغيير، وهذا ما شجعني عليه أهم رجل في حياتي، والدي، الذي لا يزال يشجعني على اتخاذ قراراتي، ودائماً ما ينصحني بعدم الإقبال على شيء والدخول فيه، حتى لو كانت علاقة عاطفية، دون الشعور برغبتي في إتمام الأمر ووجود الشخص المناسب".
أثنى زملاء هويدا داخل المدرسة على مهارتها في المطبخ، وذلك من خلال آخر عزومة قامت بها لعدد منهم، ومع الوقت أدركت أن حبها للمطبخ غير عادي، وأنها تستمتع بإعداد الطعام.
وتابعت: "أهلي قاموا بتشجيعي، وبالفعل فتحت مشروعي الخاص، وهو توصيل الطعام للمنازل، وقمت بتأسيس صفحة على الفيسبوك، وبالفعل مع الوقت لاقت نجاحاً كبيراً وسعدت بها".
"أهم رجل في حياتي، والدي، دائماً ما ينصحني بعدم الإقبال على شيء والدخول فيه، حتى لو كانت علاقة عاطفية، دون الشعور برغبتي في إتمام الأمر"
لا تكره هويدا الرجال، ولكنها لا ترى ضرورة في حصر المرأة علاقتها بالرجل الزوج أو الشريك فقط، فيمكن أن يكون الصديق كذلك، تقول: "لا أجد مانعاً من مصادقة الفتيات للجنس الآخر، فمن خلال صديقي خالد أدركت كافة خبايا وأسرار الرجال في صداقاتهم للفتيات، وكيف أنهم يجعلون الفتاة تقع في حبهم، وغيرها من التفاصيل الشيقة التي نتبادلها، فالرجل ليس من الضروري أن يكون هو الزوج، فمن الممكن أن يكون الصديق أو الأخ أو الوالد في حياة المرأة".
يشدّد الدكتور محمد مهدي، أستاذ الطب النفسي، على دور الأسرة في تشكيل إحساس المرأة بنفسها، وينصح الآباء بألا يضغطوا على بناتهم ويحتووهم.
ويعرف مهدي "الفراغ العاطفي" بعيداً عن حصره في العلاقات العاطفية، يقول: "هو عدم وجود هدف يسعى الإنسان من أجله، لذا من الضروري أن تشغل المرأة وقتها فيما تحبه من هوايات، ولا توقف حياتها على الدخول في علاقة عاطفية، فهناك مجالات يمكن السعي خلفها، والنجاح وتحقيق الذات من خلالها".
"الفراغ العاطفي هو عدم وجود هدف يسعى الإنسان من أجله".
"أما الرغبة في سماع كلام رومانسي، وهو من احتياجات المرأة الجنسية، تريد أن تدرك مدى رغبة الطرف الآخر بها، ما يزيد الثقة في النفس لدى بعض الفتيات. وهناك العديد من السيدات يأخذهن الطموح والرغبة في تحقيق الذات عما سبق".
وفي حال عدم وجود الشخص المناسب، يحذر مهدي من أن توقف المرأة حياتها على علاقتها بالرجل، يقول: "إذا أوقفت المرأة حياتها وتم الاستسلام، ستقع أسيرة للاضطرابات النفسية، اضطرابات النوم، الأرق، المزاج المتقلب والميل للحزن والاكتئاب. على المرأة الاستمتاع بالحياة من خلال تعويد النفس على إجراء مهام معينة يومياً، ووضع لها توقيتات معينة، كممارسة الرياضة والقراءة مثلاً".
وقد بلغ عدد النساء اللاتي تجاوزن 35 عاما بلا زواج لعام 2017 حوالي 472 ألف حالة بنسبة 3.3% لذات الفئة العمرية، بحسب االجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2019.
وربطت الإحصاءات بين معدل حصول المرأة على شهادة جامعية وعدم الزواج، حيث بلغت نسبة غير المتزوجات الحاصلات على مؤهل جامعي، واللاتي تجاوزن 35 عاما حوالي 8.5%، يليها من تجيد القراءة والكتابة بنسبة 1.4%، للفئة العمرية ذاتها.
وتنهي هويدا حديثها، قائلة: "نصيحتي لكافة الفتيات أن يبحثوا عما يميزهن من أعمال، والاتجاه للأعمال الخاصة، لأن النجاح يمنح شعوراً لا يوصف بالسعادة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...