التعليم الأكاديمي، الارتقاء الوظيفي، الاستقلال المادي، الإشباع واللذة التي تمنحها مغامرة، اكتشاف، التغلب على تحديات معينة، الحرية في اختيار نمط الحياة بعيداً عن تحكمات الرجل والمجتمع، كل تلك الدوافع باتت أقوى لدى المرأة التونسية اليوم مقارنة بما كانت عليه في الماضي.
لقد ظلت العائلات التونسية لعقود سابقة لا تسمح باستقلال الفتيات عنها، سواء من أجل الدراسة أو من أجل العمل، وترى أن مغادرتهن منزل الأسرة مقرون بالانتقال إلى بيت الزوجية.
وجرّاء ذلك بدت فرص انفتاح الفتيات على المحيط الخارجي الذي يتجاوز حدود المدينة التي يقطنّ بها محدودة جداً، فسعين للزواج كخطوة توقعن أنها ستحررهن من سلطة العائلة وتأخذهن بعيداً نحو أحلامهن، ولكن رهاناتهن اصطدمت بمؤسسة الزواج التي بدت أكثر تعقيداً مما توقعن، لا سيما بعد إنجاب الأطفال.
ويبدو أن الأمهات اللاتي خضن هذه التجربة لم تكن لديهن الرغبة في تكرارها مع بناتهن، ونجحن في دفعهن ليتبعن أحلامهن حتى وإن تتطلب ذلك ترك منزل العائلة في عمر مبكر قد يسبق الثامنة عشرة.
وبات بإمكان الفتيات (خاصة مواليد الثمانينيات وما بعد) الالتحاق بالجامعة التي غالباً ما تكون في مدن أخرى غير التي يقطنّ بها، وهذا الأمر يتعلّق خاصة بفتيات المدن الغربية في تونس (شمال غربي، وسط غربي، جنوب غربي)، والذي يحتم إقامتهن الفردية بعيداً عن العائلة.
وعزّز هذا الوضع الجديد رغبة الفتيات في الاستقلال والركض وراء تحقيق طموحاتهن الشخصية التي لم يعد الزواج أهمها.
في البداية كان هاجس التفوّق الدراسي هو المحرك الرئيسي، فالوظيفة الجيدة التي تمنحهن مكانة مرموقة داخل المجتمع، ثم توسّعت التطلعات أكثر لتشمل السفر واكتشاف عوالم أخرى بعيداً عن قيود الرجل، ليأتي في مرحلة لاحقة التفكير في الزواج.
ونتيجة تفشّي هذه العقلية والتي ترجمها الارتفاع الكبير في نسبة العازبات، أصبح مصطلح "العنوسة" لا يثير مخاوف الفتيات التونسيات، ربما لأن المجتمع نفسه لم تعد تثيره المسألة كما كانت في عقود وسنوات سابقة، وأصبح اعتماد الفتيات على أنفسهن ونجاحهن الذي يتزايد سنوياً محلّ فخر.
"الوجه الأجمل" للحياة بلا عائلة
تعيش رفيقة الماجري، (32 عاماً) من العاصمة تونس، حياتها بلا أدنى شعور بثقل السنوات، بعد أن تخطت الثلاثين دون زواج، بل وتبدو فخورة بهذا القرار الذي منحها الفرصة لتستمتع بحياتها بعيداً عن ثقل العائلة ومسؤولياتها الكبيرة.
تقول رفيقة لرصيف22: "حرصت على إكمال دراستي، وتحصيل وظيفة جيدة أحصل من ورائها على راتب يمكّنني من رسم خططي المستقبلية بمفردي، ودون الحاجة لأحد، ولا سيما الحاجة للرجل".
وتضيف: "لا أريد أن أكون نسخة عن والدتي وبعض أمهات صديقاتي اللاتي وهبن حياتهن للعائلة والأطفال في أعمار مبكرة، وانحصرت أحلامهن في هذا الفضاء، دون أن يخصصن لأنفسهن مساحة زمنية كافية لرؤية الوجوه الأخرى للحياة".
وتصف رفيقة الحياة بعيدا عن العائلة والأطفال بـ"الوجه الأجمل".
تتذكر رفيقة والدتها، مبررة اختياراتها: "تكوين الأسرة كان هاجسهن الأبرز، ربما لأن الاعتماد المطلق على الرجل كان أمراً سائداً لدى جيلهن، ولهذا قد يكن معذورات في خيارهن آنذاك. ولكن تغير الوضع الآن، تخلّصت المرأة من التبعية للرجل وأصبحت قادرة بمفردها على تحقيق الكثير من الأهداف الخاصة بها".
وتشدّد رفيقة على أنها لن تدخل "قفص الزوجية" قبل أن تمنح نفسها الوقت الكافي للاستمتاع بواقع أنها حرّة، لا تقيدها "سلطة رجل شرقي" يؤمن بأن المرأة يجب أن تسير على هواه، ولا تأسرها "مسؤولية تربية الأطفال"، قائلة: "مازال هناك متسع من الوقت لأعيش كما أريد".
رفيقة ليست حالة استثنائية في تونس التي باتت تشهد مستويات قياسية في عزوف النساء عن الزواج. فقد أوضحت دراسة بحثية قام بها المعهد الوطني للإحصاء مؤخراً أن عدد النساء العازبات في تونس تجاوز المليون و300 ألف من مجموع 4 ملايين و900 ألف أنثى، مقارنةً بنحو 990 ألف عازبة عام 1994.
"لا أريد أن أكون نسخة من والدتي وبعض أمهات صديقاتي اللاتي وهبن حياتهن للعائلة والأطفال في أعمار مبكرة، وانحصرت أحلامهن في هذا الفضاء" رفيقة الماجري، تونسية تدافع عن اختيار العزوبية والاستقلال
التعليم الأكاديمي وعزوبية التونسيات
حنان عجيلي (35 عاماً) محاسبة من ولاية سيدي بوزيد، ترى أن الزواج يمكن أن يحول دون تحقيق طموحاتها العلمية الكبيرة، ويعيق نجاحها الذي بدأت تحصده منذ سنوات. وتعتبر أن الارتباط وتكوين الأسرة يفرض جملة من القيود تكبّل المرأة، ما جعلها تختار العزوبية إلى حين تحصيل المستوى العلمي الذي تريد.
حنان حاصلة على الماجستير في المحاسبة، وهي بصدد إكمال الدكتوراه في ذات التخصص، وتعمل في مكتب محاسبة، تصرّ على ضرورة تحصيل شهادة الدكتوراه والالتحاق بالتدريس في أحد الجامعات قبل الزواج. وتقول "إن الزوج التونسي والعربي عموماً لا يرغب في نجاح زوجته ويستاء إذا ما تجاوز تحصيلها العلمي ما لديه، وبالتالي إذا ما تزوجت قبل إكمال دراستها فإنها غالباً لن تحظى بالفرصة للقيام بذلك، وسيقوم الزوج بكل ما لديه من جهد لعرقلتها ولهذا لن أقع في هذا الفخ أبداً".
وتشدّد حنان على ضرورة تجاوز العقليات التي تحصر دور المرأة في البيت والإنجاب، والإيمان بأن مهمّتها لا تقل عن نظيرها الرجل على جميع المستويات، مشيرة إلى أن الارقام في تونس تعزّز فكرتها.
وحرص حنان على التعليم وتحصيل درجات علمية متقدمة لم يعد حكراً عليها أو على أعداد قليلة من الفتيات، بل إن الأرقام والمؤشرات الرسمية الوطنية والدولية باتت تؤكّد تفوقهن على الذكور.
ذكرت آخر احصائية نشرتها وزارة التعليم العالي وتعود للسنة الدراسية 2016- 2017 أن عدد الإناث خريجات الطب والصيدلة وطب الأسنان بلغ 1095 من مجموع 1537 خريج، وبلغ عدد خريجات الهندسة 2495 من مجموع 4597، فيما كان عدد الحاصلات على درجة الدكتوراة 1922 من مجموع 3068.
واحتلّت تونس المرتبة الثانية عالمياً في نسبة الإناث خريجات الشعب العلمية في التعليم العالي، على غرار علوم التكنولوجيا والهندسة والرياضيات بنسبة 58%، وشمل التصنيف 114 دولة خلال الفترة الدراسية الممتدة بين 2015 و2017. بحسب تصنيف البنك الدولي المستند على آخر إحصائيات معهد الإحصاء باليونسكو.
لعبت الأمهات التونسيات دورا في تمكين بناتهن من التحرر والاستقلال بعيدا عن "قفص الزوجية"، بعد أن فشلن في تغيير حياتهن من خلال زواجهن برجال يمكنهن من ذلك
كما ذكرت إحصائية رسمية لعام 2014 أن المرأة التونسية تمثل 84% من القوى العاملة في المجال الإعلامي، و44% من القوى العاملة في القطاع الصناعي، و51% من المدرسين في التعليم الأساسي، و31% في مهنة المحاماة، ويتقلّدن 54% من الحقائب الوظيفية في القطاع العمومي، ويتواجدن في قطاع الصيدلة بنسبة 74%.
المرأة التونسية متفوقة في المجالات العلمية، وطموحة أكاديميا.
وهناك أيضاً 845 قاضية من مجموع 2171 قاضياً، وهن أيضاً ثلث ممثلي الشعب في البرلمان (33.64%).
ويُنظر إلى هذه الأرقام باعتبارها إفرازات لتطوّرات مجتمعية أعادت ترتيب الأولويات لدى المرأة التونسية، بحيث لم يعد تأسيس الأسرة والزواج هدفاً مركزياً، وباتت مسائل أخرى، كالنجاح في الدراسة وتحصيل وظائف مرموقة والاستقلالية المادية عن العائلة والرجل، تتصدّر اهتماماتها.ويرى دكتور العلوم الاجتماعية الطيب الطويلي، في تصريح لرصيف22 أن ارتفاع نسب الفتيات العازبات في البلاد مردّه في كثير من الأحيان أن المرأة التونسية تعتني بمسيرتها الأكاديمية بشكل يُلهيها عن التفكير في الزواج.
ويقول "إنها على قدر كبير من الوعي الذي يجعلها تفكّر في مستقبلها الأكاديمي والمهني، فالمرأة التونسية غالباً ما تفضّل الزواج المناسب على العمل، ولكنها غالباً لا تفضّله على الدراسة. ففي تقديري أن مشاكل الزواج أو العزوبية أصبحت تمثل مشاكل ثانوية لدى المرأة التونسية التي مثلت فاعلاً أساسياً في بناء الدولة الوطنية وشاركت في الثورة التونسية، وهي في طور المشاركة الفعلية في بناء مؤسسات المجتمع المدني".
لكن الطويلي يعتبر أن تفشّي ظاهرة عزوف الفتيات عن الزواج غير صحية ولا يُنصح بها، باعتبار أن الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري حذّر مرات عديدة من خطورة ارتفاع معدل سن الزواج بين الشباب التونسي وانعكاساته على الخصوبة.
الزواج بشروطي أو لا يكون
هاجر (34 عاماً)، موظفة بمؤسسة حكومية من ولاية المنستير) لا تمانع فكرة الزواج وتكوين أسرة ولكنها تشترط جملة مواصفات لا يمكنها التخلي عنها لأي سبب كان. فقد نشأت هاجر وسط عائلة متوسطة الدخل، جعلها تكبح حاجياتها ورغباتها المادية فترة دراستها، ما سبب لها بعض الضغوط استطاعت تخطيها بمجرد تخرجها من الجامعة والتحاقها بالعمل. ولهذا تريد هاجر زوجاً يوازيها أو يفوقها على مستوى التكوين العلمي، ويتمتع بدخل جيد كفيل بتلبية كل حاجيات أبنائها في المستقبل، بحسب حكايتها لرصيف22.
قدس جيل والدة هاجر الزواج في حد ذاته، كفكرة معزولة عن متطلبات وشروط تراها ضرورية.
أثرت الطريقة التي عاشتها هاجر مع عائلتها في قرارها باختيار الشريك المناسب، ولا ترغب في أن تكرر تجربة والدتها، حيث قدس جيلها الزواج كفكرة معزولة عن متطلبات وشروط تراها ضرورية، تقول: "لا أريد أن يعيش أبنائي ذات الحاجة أو الضغط الذي شهدت، لا أريد الارتباط دون ضمانات بعيدة المدى، كما أنني لست قادرة اليوم على تأسيس حياة أسرية بنواقص هنا أو هناك. إنها نقلة نوعية في حياتي ولا بد أن أخوضها وفق شروطي، وما دون ذلك لا يمكنني القبول به، وأنا سعيدة بحياتي الراهنة فلماذا العجلة".
ويقول الطويلي إن المرأة التونسية أصبحت لا تقبل بالزواج إلا بعد فرز دقيق للشريك، ووفق شروطها ومعاييرها الخاصة وبما يحفظ كرامتها، وإن وجدت في زواجها ما يضير توازنها النفسي والاجتماعي فهي تميل إلى الطلاق.
لكنه من ناحية أخرى يرى أن الفتاة التونسية لا تميل إلى العزوف عن الزواج، فتأخر زواجها ليس قراراً أو اختياراً منها وإنما هو اضطرار نتيجة عوامل مجتمعة، تختلف باختلاف الفتاة وباختلاف تنشئتها الاجتماعية. كما تتدخّل عوامل شخصية أخرى في تأخر زواج الفتاة، مثل أن تكون لها علاقة عاطفية مطوّلة بأحدهم قصد الزواج وتنتهي هذه العلاقة بالقطيعة قبل الزواج، ما يخلف لديها أزمات نفسية قد تكلفها سنوات عديدة من عمرها.
ومهما تعدّدت الأسباب فإن عزوبية الفتاة التونسية المطولة، في غالبها خيار شخصي تعيشه بكل قناعة، دون الاكتراث لقواعد مجتمعية تنتصر للزواج المبكر، أخذت في التلاشي أمام المتغيرات الجديدة التي أرستها المرأة نفسها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...