شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
خطيئة أونان... أن تبذر مَنيّك في الأرض

خطيئة أونان... أن تبذر مَنيّك في الأرض

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 16 سبتمبر 202004:39 م

نقرأ في الكتاب المقدس في سفر التكوين عن أونان، الذي "َعَلِمَ أَنَّ النَّسْلَ لاَ يَكُونُ لَهُ، فَكَانَ إِذْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيهِ، أَفْسَدَ عَلَى الأَرْضِ". أونان بن يهوذا الذي أمره بالزواج من أرملة أخيه تمارى، لكي تبق التركة ضمن الأسرة وللحفاظ على النسل، لكن أونان علم أن أطفاله من تمارى لن ينسبوا له، فكان قبل الرعشة ينزل منيّه على الأرض. عاقب الرب أونان بأن أخذ حياته، لا تفاصيل واضحة عن الكيفية التي قام بذلك، لكن موت أونان كان بعد قذفه.

التصق اسم "أونان" بالاستمناء في حين أن "خطيئة" أونان بدقة، هي بذره منيه خارجاً، أي ارتعش خارج فرج تمارى، وربما "أخصب" الأرض، هذه الإحالة إلى "الأرض- الرحم- المني" تظهر في التراث الإسلامي ضمن النص القرآني، هناك تشابه عائلي مع آية "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ"، فالحَرْث يُقصد به ربما الرحم الذي لا بد من الإنزال فيه، في ذات الوقت الحَرْث يعني الأرض التي تُحرث، وهنا يضيع مكان الإنزال بدقة، خصوصاً أن "أنّى شئتم" تحيل إلى المكان، أي للفرد أن يختار مكان البذار/ المني.

في الكتاب المقدس، كانت خطيئة أونان بن يهوذا هي بذر منيه على الأرض خارج فرج تمارى، أرملة أخيه التي تزوجها، ليموت بعد ذلك. فما الذي يولد لدى امتزاج المني مع الأرض حتى استوجب عقاب أونان بالموت؟

القذف خارجاً وعقوبة الربّ المرتبطة به سببها ربما إهدار أونان لمنيّه، وحرمان تمارى ويهوذا من الذرية، والأمر المثير للاهتمام هنا، هو أنه يبدو أن هناك عدداً أو كمية من المني ثابتة لا يجوز هدرها، خزان من سائل نفيس تستدعي استباحته غضب الرب، خصوصاً أن إنتاجه في حاله أونان يتم في لحظة حميمة، أي بوجود امرأة، موضوع الرغبة "التقليدي"، بالتالي الأمر ليس "خطيئة" فردية أو "سرية"، بل حدثاً بين موضوعين يحدّقان بعضهما ببعض، لا نشوة ربما لأي منهما، بل وصول إلى "الما قبل" ثم إنزال في الخارج، لا على جسد تمارى، بل على التراب، وكأن أونان لا يرغب أن يمسّ ماؤه أي شيء منها، نافياً كل احتمالات الحبل. في بعض الروايات يتهم البعض أونان بأنه كان يستمني بحضور تمارى ولا يمارس معها الجنس.

المني خارجاً يحيلنا إلى أفروديت، الإلهة التي ولدت من خصيتي كورونوس اللتين امتزجتا بالمياه. وإن حافظنا على المتخيل الطبي في تلك الفترة، أفروديت ولدت من خزان مني كرونوس الذي سال في الماء، فظهرت أفروديت طافية بين مزيج الموج مع خزانات المني، وكأن الولادة تقتضي كما في التقليد الطبي القديم، امتزاج ماءين مهما كانا.

يرتبط المني خارجاً في الأسطورة الإغريقية بأفروديت، الإلهة التي ولدت من خزان مني كرونوس الذي سال في الماء، فظهرت أفروديت طافية بين مزيج الموج مع خزانات المني، وكأنها ولادة نجمت عن امتزاج الماءين

فأفروديت لم تولد نتاج شهوة، بل نتاج قتل ومؤامرة، وكأن الأشد جمالاً في المتخيل الذكوري، وليد خصاء ما، هدر لـ"كلّ المني ومصدره"، ما يجعل أفروديت متخيّل الذكورة الفانتازمي بأشدّ أشكاله كمالاً، هذا المتخيل ليس وليد رحم ولا وليد شهوة، بل نتاج عقم أبدي لكرونوس لا يمكن للشهوة أن تناله بمحدوديتها.

لكن ما الذي يولد لدى امتزاج المني مع الأرض؟ حسب بعض الأساطير اليونانية، هيفساتوس حداد الأولمب أراد اغتصاب أثينا لشدّة اشتهائه لها، فطاردها وعجز عن الإمساك بها، لكن أثناء عراكه معها قذف على فخذها، فمسحت منيه بمنديل ورمته على الأرض، فظهر  إيريكتونيوس Erichthonius، الذي أصبح لاحقاً ملك أثينا ونال إعجاب زيوس، سُحب إيروكتونيوس من الأرض وكأن مني هيفساتوس لقح الأخيرة، إذاً ما هي أزمة أونان، إن كان الماء يولد منه الجمال والأرض يولد منها الملوك؟

الأنانية وصورة الشهوة بين الداخل والخارج

لحظة السحب إلى الخارج تعني فصل الاتصال العضوي بين اثنين على مستوى الشهوة الآنية، لحظة الانفلات تعزز الفانتازم الذي يحرك الاتصال بين الجسدين، لتطغى الصورة على حساب اللحم. ينتقل التحديق من الآخر المُشتهى أو الشبقي إلى شريط الصور الفانتازمية المتسارع في المخيلة، "الرؤية الباطنية" تستبدل "الانغماس في الآخر" وخصائصه، وتعمق دور الوسيط الذي يشكله الآخر في سبيل الوصول إلى متخيّل النشوة.

وهذا ما يعيدنا إلى "صورة الشهوة الذكورية"، العقيمة، المحتارة دوماً، التي تخاف من أن يبتلعها "الداخل" المهبلي، الرغبة التي لا تكوّن صورتها الفانتازمية إلا بالخصاء الكلي، كحالة كرونوس وأفروديت وليدة خصائه. هنا نعود لفعل أونان نفسه، فحين الاطلاع على الترجمات المختلفة نقرأ بالعربية أنه "أفسد على الأرض"، وبالإنكليزية "أسال على الأرض" أو "أسال منيه" أو "أسال بذرته"، لكن العبرية تستخدم فعل "أفسد".

لكن ما الذي أفسده أونان مراراً؟ وفي أي مرة قرر الرب أن يقتله؟ النصّان العربي والإنكليزي يحيلان إلى تكرار الفعل، لكن أي فعل، تكرار الجماع أو الإنزال على الأرض؟ نطرح هذه الأسئلة لنفهم سبب العقاب الرباني القاسي والآني، خصوصاً أن أونان لم يستمن، بل اكتفى بنفي ذريته على الأرض، فقُتل مباشرة.

تظهر خطيئة أونان الأولى بأنه هدد الأسرة، أي نفى استمرار الذرية وفعاليتها في التاريخ، وكأنه هدد ظهور المسيح نفسه الذي ينتمي إلى ذات شجرة العائلة التي ينتمي لها أونان، لكن لنفكر أبعد من "الأسرة" و"السلالة"، ربما تفادى أونان القذف مراراً فامتلأ إحباطاً، معرفته أن قذفه قد يودي بحياته دفعه لتجنبه مراراً، أونان ينكح ويرهز دون أن ينتشي، تمارى ترغبه وتمتلأ نشوة منه دون أن يستطيع هو الإنزال.

يظهر أونان في الفرضية السابقة كعشيق مثالي، محكوم بعدم الإنزال فيضرب عانته بعانة تمارى مراراً ومراراً دون أن ينزل، عشيق لا يتعب، لا حباً ولا شبقاً ورغبة بالاستمرار، بل خوفاً من نشوته الخاصة التي ستقتله، وهنا نطرح سؤالاً: ما الذي حدث ودفع أونان إلى الإنزال وهو يعلم مصيره؟ متابعة ما حصل مع تمارى في الحكاية يُظهرها كـ "Famme fatal"، تهدد الرجال من حولها، أولئك الحريصين على المال والأسرة، دون إشارة إلى أونان.

يمكن النظر إلى أونان كنموذج للرجولة، لكن لا يمكن تحديده بدقة، هل هو محبط في كلّ مرة يدخل فيها على تمارى؟ أم يضاجع شبقاً دون أن يسيل ماؤه؟ أسئلة المتعة والعقاب الرباني تتداخل في كل تفصيل من تفاصيل الحكاية، لكن يُذكر في رواية "اسم الوردة" لأومبيرتو إيكو، أن شهوة أونان شهوة عقيمة، لا تتعلق بالحب، لا الجسدي ولا الروحي، بل بعدم الوصول لها نفسها.

يُذكر في رواية "اسم الوردة" لأومبيرتو إيكو، أن شهوة أونان شهوة عقيمة، لا تتعلق بالحب، لا الجسدي ولا الروحي، بل بعدم الوصول لها نفسها لأنه يعلم مصيره، وكأن أسئلة المتعة والعقاب الرباني تتداخل في كل تفصيل من تفاصيل الحكاية

أونان دفن نشوته داخله دون إفلاتها سواء في الرحم أو خارجه، وهنا يمكن أن نفهم عقم الشهوة مرة أخرى، ولا نقصد العقم الأسري، بل المعرفي، فضرب المني بالأرض يولد منه عالم غروتيسكي ساخر و شديد البذاءة والنقد، امتزاج سوائل الحياة مع التراب يعني ولادة كرنفالية تحتفل بالجماعة ككل لا بالأسرة فقط وسلالتها، وهنا تظهر خطيئة أونان الأشد عمقاً، أي أنانيته. مادياً هو لا يريد أطفالاً إلا من ينسبون إليه، وكأن لا حياة لأحد من بعده، كما أنه منع اللذة عن نفسه إلى حين لحظة إنزاله على الأرض، اللحظة التي تطابق فيها موته مع شبقه، فكانت فناءه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image