"أنا حقاً آسف... ألم الحياة يتخطى بهجتها. أنا أسير ذكريات معبأة بالقتل والجثث، بالغضب والألم، لأطفال جوعى وجرحى، لحاملي سلاح متهورين مجانين، لجلادين قتلة."
من رسالة تركها المصور الصحفي من جنوب إفريقيا كيفين كارتر قبل انتحاره عام 1994، عقب فوزه بجائزة البوليتزر برايز عن صورة "النسر والفتاة الجائعة" من تغطيته لمجاعات السودان.
أمثال كيفن اختاروا التواجد في المعارك والكوارث بأنفسهم ومن خلف عدسة الكاميرا، منهم من استطاع النجاة من التبعات الباهظة ومنهم من لازمته، فماذا عمن عايشوا تجربة الحرب من خلف الأسلحة مرغمين أن يكونوا طرفاً فيها؟ ماذا عن الجنود العائدين، الذين ينتظر الجميع أن يسمعوا قصصاً عن بطولاتهم، تحفّز فيهم حس المغامرة وتشعرهم بالفخر بأقربائهم الأبطال... قصصاً تشبه حبكات الأفلام التي شاهدوها عن المعارك والملاحم الأسطورية، التي قرؤوا فيها عن الفرسان وأنصاف الآلهة.
ولكن، ماذا لو كانت القصة الدفينة خلف التوقعات بعيدة كل البعد عن هذه الصورة البطولية؟ أما من أحد يرغب بسماع قصة سلاح صوب في وجه امرأة مسنة عبرت الشارع أثناء حظر التجول؟ أو رصاصة قناص أصابت قلب طفل عن طريق الخطأ؟ ماذا عن زميل مصاب أو مقطوع الأوصال ويلفظ أنفاسه الأخيرة؟ هل تصبح هذه المشاهد اعتيادية في الحرب وتمر أمام المقاتلين دون أثر؟
ماذا لو خيب المقاتلون السابقون توقعات أصدقائهم وذويهم؟ وماذا لو فشل المجتمع في تفهم خصوصية هؤلاء العائدين من جحيم الحروب وكيفية استقبالهم وإعادة دمجهم؟
ماذا لو كانت لمشاهد العنف المباشرة وضغط غريزة البقاء أثراً عكسياً يشل الحركة ضمن المعركة وبعدها؟
هناك من يعتبر القتال "مصدراً للمتعة المكثفة لأنه يوفر فرصة للقتل والاغتصاب والتدمير والسرقة والنهب، بحصانة مطلقة"... ولكن هل هذه هي حقيقة ما يعيشه المحاربون؟
المحاربون ماكينات قتل؟!
ربما يفترض معظمنا أن للحرب مقاتليها المستعدين بشكل دائم لخوضها تحت أي شرط، لأنهم مهيؤون أو مبرمجون على أداء مهامهم القتالية بمعزل عن عواطفهم ومخاوفهم الشخصية. لكن الأمر أكثر تعقيداً من هذا الطرح السطحي، فمشاهد الحرب لن تمر دون أن تترك ندبها النفسية العميقة على أطراف القتال. في دراسة نفسية تحليلية لدوافع الحرب، يبحث الفرنسي جان بايكلر، مؤرخ وبروفيسور في علم الاجتماع، ضمن أطروحة بعنوان "ملخص سيكولوجيا الحرب" في دوافع الحرب، ويعتبر في دراسته أن القتال يشكل "مصدراً للمتعة المكثفة لأنه يوفر فرصة للقتل والاغتصاب والتدمير والسرقة والنهب، بحصانة مطلقة".
وهذا يتماشى مع افتراض فرويد للنوازع الشريرة الفطرية للنفس البشرية والتي تكبحها الرقابة المجتمعية والحضارية والذاتية. وبرأيه، بالرغم من أن الحرب ليست نتاجاً طبيعياً للبنية النفسية البشرية ولا تعبيراً عفوياً عنها، إلا أن النفس تميل إليها، فيما إذا اتخذت شكل الدفاع عن معتقدات لها علاقة بالسيطرة والمكانة والملكيات، ربما تحت مسميات أخرى أكثر نبلاً وإنسانية. لكن بايكلر يؤكد أن الساديين المختلين هم وحدهم من يشعرون بالسعادة الغريبة النابعة من الأعمال الوحشية والقتل المتطرف، وأن حقيقتين متوائمتين تفسران دوافع الحرب عند الناس الطبيعيين، هما الولاء لأيديولوجيات سياسية معينة، والضغط الناجم عن الحاجة لتلبية غريزة البقاء. وبما أن البنية النفسية مصممة بحيث تتفاعل مع الحدث، يصبح الدفاع عن النفس أو عن المجموعة، بكل الوسائل، رد الفعل الأمثل للفرق المقاتلة والقرار المبرر تحت أي شرط.
لكن، ماذا لو كانت لمشاهد العنف المباشرة وضغط غريزة البقاء أثراً عكسياً يشل الحركة ضمن المعركة وبعدها؟
PTSD اضطراب ما بعد الصدمة:
تعد الحروب من أكبر الصدمات النفسية التي قد يتعرض لها الإنسان، ودراسات آثار هذه الصدمة بدأت تحتل موقعاً هاماً في الطب النفسي منذ بداية القرن العشرين، وتحديداً بعد الحرب العالمية الأولى. فأول محاولة لتشخيص الأعراض المرضية الناجمة عن الصدمة كانت على يد الطبيب الإنكليزي تشارلز مايرز عام 1915، والذي اعتبرها إصابة جسدية عزاها للارتجاج الدماغي.
في دراسة بعنوان "قرن مضى على صدمة الحرب الخفية"،
تذكر كل من ماري كاثرين ماكدونالد وماريسا برانديت وروبن بلام، الأستاذات المساعدات في الفلسفة في ولاية ميتشغان، أن حالات الجنود الذين لم يتعرضوا لإصابات جسدية سرعان ما اثبتت خطأ التشخيص. وقد قدمت المجلة الطبية البريطانية عام 1922، سبباً للأعراض التي ظهرت عليهم، يعود "للافتقار للروح المعنوية ونقص التدريبات"، إضافة إلى أنها وجدت "أن التذرع بالصدمة يبدو حجة جذابة".
إن النموذج التقليدي للجنود في الذاكرة الشعبية، يتضمن من صفات القوة والبطولة ما يجعل امتناعهم عن أداء مهامهم الحربية أو عودتهم لمنازلهم بدون القدرة على التذكر أو التحرك أو الكلام، ومن غير آثار جسدية ظاهرة، يعتبر ضعفاً في الشخصية، كثيراً ما كان يواجه علاجات مجحفة كالصدمات الكهربائية، أو عقوبات جائرة بتهمة التقاعس عن أداء الواجب الوطني قد تصل حد الإعدام.
يذكر تقرير "العائدون من الحروب":
الذي أعدته الصحفية سلمى حسن لقناة تي آر تي التركية، أن الحكومة البريطانية قدمت اعتذارها لأسر أكثر من 300 جندي بريطاني أعدموا في الحرب العالمية الأولى بتهمة الجبن أو التهرب من المعركة، وهي ما عرف لاحقاً بصدمة القصف. وفي التقرير نفسه تعرّف سماح جبر، رئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية، ثلاثة أعراض مهمة لصدمة القصف، وهي إعادة تذكر، ومعايشة التجربة الصادمة على شكل ومضات وكوابيس، ويرافقها أعراض جسدية، مثل تسارع دقات القلب وضيق التنفس، كما أن التفادي والتجنب هو أحد أهم أعراض الصدمة. ويؤكد البروفيسور همام يحيى، أستاذ مساعد في الطب النفسي، على أنه "من المهم للمحيط الاجتماعي والعائلي والمهني أن يسيطر على توقعاته فيما يتعلق بطبيعة استجابة المصابين باضطراب ما بعد الصدمة"، وعلى وجه الخصوص هؤلاء العائدون من الحروب.
كيف يشعر العائدون من الحرب؟
إضافة إلى الدعم المعنوي والمساعدة النفسية، يحتاج الجنود السابقون إلى التقدير المادي الكافي من دولهم، مثل تقديم تسهيلات خدمية وضمانات صحية واجتماعية وتعويضات مادية، أو رواتب تقاعدية لقاء الخسارات التي تكبدوها خلال الحرب. في دراستها "يبحثون عن التقدير بعد العودة للحياة المدنية"، تقدم جوهانا سودرستروم ثلاثة نماذج لمجندين سابقين من كولومبيا وناميبيا والولايات المتحدة الأمريكية، وبرغم اختلاف الخلفيات السياسية لهؤلاء إلا أنهم أجمعوا على أن المجتمعات يجب أن تفي بديونها لهم، من خلال تعويضات مادية، أو برامج تعيد دمجهم في الحياة المدنية وتساعدهم في إيجاد فرص عمل، وربما تشركهم في الحياة السياسية للبلاد.
تذكر الدراسة أن الجنود الأمريكيين المشاركين في الحرب الفيتنامية، بشكل خاص، عبروا عن استيائهم من حكومتهم التي "خانتهم"، على حد تعبيرهم، ففقدوا ثقتهم بها، فهي أقنعتهم أنهم يؤدون واجبهم، فوجدوا أنفسهم أمام مذابح مدنية لأطفال ومسنين وأبرياء ليسوا طرفاً في الحرب. وهذا ما تكرر في الحرب الأمريكية على العراق، حيث يذكر تقرير قناة سكاي نيوز أن معدلات انتحار الجنود الأمريكيين العائدين من حرب العراق خلال عشر سنوات تلت الحرب، وصلت إلى انتحار واحد يومياً. يشير التقرير إلى أن الأسباب تتراوح من الاكتئاب والصدمات النفسية وحتى التشرد والفقر والحاجة المادية.
منظمات دولية تعنى بدمج الجنود السابقين
أحدث المشاريع الدولية لإعادة الدمج هو مشروع منظمة أطباء بلا حدود الدولية.
يعمل فريق عمل من المنظمة على إعادة دمج الأطفال/ الجنود السابقين من الذين شاركوا في النزاع المسلح جنوب السودان، وعلاجهم وتهيئتهم للحياة المدنية. تصف مديرة أنشطة الصحة النفسية سيلفيا ماركيز هذا المشروع على أنه الأول من نوعه على مستوى المنظمة، ويعمل على علاج القاصرين الذين انضموا إلى الجماعات المسلحة بإرادتهم، أو بسبب اختطافهم وهم في طريقهم إلى المدرسة أو للعمل في الحقول. يقوم الفريق بإجراء فحوصات طبية وتوفير رعاية نفسية لمساعدتهم في التغلب على تجاربهم العنيفة، وخاصة أن 35% منهم يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب ويظهرون ميولاً انتحارية. وإضافة إلى العلاج الطبي والنفسي وتقديم الدعم المعنوي، تقدم المنظمة دعماً مادياً خدمياً بربط هؤلاء الأطفال مع منظمات أخرى، تساعدهم في التسجيل بالمدرسة أو تعلم مهن، ليشعروا أنهم مكون نشط من مكونات المجتمع.
تؤكد ماركيز أن التعافي من صدمات الحروب والعودة إلى الحياة الطبيعية ممكن لأن "البشر يتمتعون بمناعة عالية، ولديهم القدرة على التركيز على أهدافهم المستقبلية، لإيجاد السعادة مرة أخرى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...