أسابيع قليلة تفصل طلاب لبنان عن بدء العام الدراسي 2020-2021، بحسب قرار وزير التربية اللبناني في حكومة تصريف الأعمال الذي أعلن انطلاق الأخير في 28 أيلول/ سبتمبر الحالي. يأتي هذا العام في ظلّ أوضاع استثنائية يمرّ بها لبنان، من أزمة فيروس كورونا العالمية، إلى انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية في مقابل الدولار، وصولاً للأحداث الأمنية المتعثرة خاصة بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس.
كل تلك الظروف الخانقة اقتصادياً، تنعكس حُكماً على ذوي التلامذة الذين طال انتظار عودتهم إلى مقاعد الدراسة، والذين لم تتغير فقط طريقة تعلمهم بسبب الفيروس بل في حالات عدة تبدلت مدارسهم من خاصة إلى رسمية بسبب تعثر الأهل في دفع أقساطهم. والمدارس الرسمية هي الأقل تكلفة في لبنان مقارنة بالخاصة، لكنها لا تجذب الكثير من الأهالي بسبب ما طال القطاع من تردٍّ متزايد في المستويين التعليمي والتربوي منذ أكثر من ثلاثة عقود.
لا يعاني الأهل وحدهم ظروفاً قاهرة، بل أيضاً المدارس الخاصة، وفي الوقت الذي يتريث فيه عدد من الأهالي حتى الآن في تسجيل أولادهم، بادر آخرون الى طلب إفادات والتوجه الى مدارس أقل كلفة أو أخرى رسمية، ما يُنذر بأزمة حقيقية تترك تداعياتها على الطلاب.
الأقساط والقرطاسية… ارتفاع بحوالي 15٪
مايسا هارون هي أم لثلاثة أولاد، وصل اثنان منهم إلى المرحلة الجامعية وآخر لا يزال في المرحلة الابتدائية. على مدى ثلاث سنوات، ارتفع القسط المدرسي من 7.5٪ إلى حوالي الـ15٪، حتى باتت وطأة القسط ثقيلة أساساً، ثم جاء الوضع الاقتصادي والغلاء في أسعار السلع والقرطاسية والأقساط المدرسية لتجد مايسا نفسها مجبرة على نقل ابنها من المدرسة التي تأسس فيها إلى أخرى أقل تكلفة، بغض النظر عن مستوى التدريس فيها.
الإرباك نفسه تواجهه عائلة بدران التي تتألف من ولدين على مقاعد الدراسة. كانت الأم تعمل في إحدى المستشفيات في منطقة جبل لبنان لكنها صُرفت منذ حوالي الشهرين من عملها كممرضة بحجة الأوضاع الاقتصادية وعدم قدرة المستشفى على تسديد معاشها الذي كان بحدود المليون ونصف المليون ليرة لبنانية (حوالي مئتي دولار بعد انهيار سعر الصرف).
باتت الأم بلا عمل، والأب الذي كان يعمل في تصليح الأدوات الصحية في المنازل تضاءل راتبه غير الثابت أساساً بسبب غلاء البضائع وعدم قدرة المواطنين على دفع ثمن قطع تصليح أسعارها بالدولار في بلد يكاد يستورد كل شيء من الخارج.
دفعت هذه العوامل بالعائلة لنقل ابنتها من مدرسة خاصة بمستوى تعليمي جيد إلى أخرى رسمية، بعد أن كانت تتكلف عليها ما بين تسجيل وقرطاسية حوالي السبعة ملايين ليرة في السنة الواحدة. اليوم باتت القرطاسية وحدها تكلف "ثروة" في ظل غلاء المعيشة الهائل، بينما لا يتخطى القسط في الثانوية الرسمية ما بين رسم تسجيل وقرطاسية الثلاثة ملايين ليرة.
دفع الوضع الإقتصادي، من جهة أخرى، بابنتها الثانية للانخراط في سوق العمل بهدف تسديد تكاليف جامعتها.
يوسف رحمة شاب جامعي لبناني، أنهى مرحلة الثانوية بتفوق، وحصل على منحة جامعية من الجامعة الأمريكية في بيروت في مجال الطب. بعد أول سنة جامعية له، وجد يوسف أن المنحة لا تغطي سوى اتجاهاً معيناً في الطب، وبعد البحث في الموضوع مع الجامعة تبيّن أن اختصاص الطب الذي يريده يكلفه حوالي الأربعين ألف دولار للسنة الواحدة.
نظراً لأوضاع البلاد الاقتصادية المتردية، وعدم قدرة يوسف على تغطية هذه التكاليف الباهظة في الجامعات الخاصة، التحق بالجامعة اللبنانية ليكمل اختصاصه. ويوسف من عائلة تتألف من ثلاثة أولاد، الأب هو معيلها الوحيد، فيما يوسف يغطي فقط مصاريف النقل والمستلزمات الضرورية من برنامج تدريب مدفوع يشارك فيه.
خلال ثلاث سنوات، ارتفع القسط حوالي الـ15٪، ثم جاء الوضع الاقتصادي والغلاء في أسعار السلع والقرطاسية والأقساط المدرسية لتجد مايسا نفسها مجبرة على نقل ابنها إلى مدرسة أقل تكلفة، بغض النظر عن مستواها... حال آلاف الأهالي الذين يواجهون خيارات صعبة في ظل أوضاع خانقة
بدورها، تشارك ريتا بولس شهوان قصتها مع الوضع الاقتصادي المتأزم وسياسات البلاد التعليمية المعقدة التي تحول دون استكمال خططها. تعمل ريتا كصحافية منذ عام 2005، وكانت قد توجهت للتخصص في جامعة الروح القدس في الكسليك لقربها من مكان سكنها وخوفاً من أمها عليها بسبب الأوضاع الأمنية في البلاد. لم يكن في الجامعة في ذلك الوقت قسم صحافة، فتخصصت في الأدب العربي وتحديداً في تحليل الخطاب، لاحقاً حصلت على منحة إضافة الى مساعدة اجتماعية من الجامعة بسبب ضيق وضع العائلة، ولم تكن تتقاضى من عملها في الصحافة أكثر من 300 ألف ليرة شهرياً.
تبحث ريتا اليوم عن فرصة لإكمال الدكتوراه، لكن ظروفها المادية لا تسمح لها بذلك في جامعة خاصة كما اعتادت سابقاً، في وقت تحدد الجامعة اللبنانية الرسمية نسبة القبول فيها بواحد بالمئة فقط للطلاب الآتين من الجامعات الخاصة.
تقول ريتا: "أتمنى أن أحصل على فرصة تناسب طموحاتي، وأفكر بالعمل خارج لبنان لأكمل الجامعة الخاصة في لبنان أو خارج لبنان إن اقتصرت فرص النجاح على واحد بالمئة في الدكتوراه في الجامعة اللبنانية"، مطالبة الجهات الرسمية إعادة النظر بنسبة القبول المعتمدة لتلاميذ الجامعات الخاصة، لأن أوضاع البلاد ستدفع بعدد كبير منهم للانتقال إلى اللبنانية.
وضع هؤلاء الطلاب لا يختلف عن معظم الأهل والطلاب في البلاد، إذ أن البعض يواجه واقعاً أصعب كضياع العام الدراسي بالكامل.
ويعزو الخبير الاقتصادي والبروفيسور الجامعي روك أنطوان مهنا سبب ذلك إلى الوضع المالي الذي سيأخذ منحىً صعباً على الأهالي والطلاب، كما على المدارس المتعثرة مالياً وتعاني أساساً من غياب الحوكمة السليمة في إدارتها، وقد جاء الوضع الاقتصادي اليوم وفيروس كورونا ليزيد الأمور تعقيداً، ما سيدفع بالكثير من المدارس الى الاقفال وإبقاء عدد من الطلاب ضحية هذا الوضع الاقتصادي المتردي.
مئتا ألف تلميذ من الخاص إلى الرسمي؟
أكثر من مئتي ألف تلميذ قد ينتقلون من الخاص إلى الرسمي بعد أن كانت نسبة النزوح في العام الماضي قد ناهزت الثلاثين ألف تلميذ. هذه أرقام رئيسة اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة في لبنان لما لطويل التي تربط الأمر بتراجع قدرة الأهل المادية، خاصة وأن أغلب الإدارات في المدارس الخاصة أصرت على استيفاء الأقساط ولم تتحمل بدورها المسؤولية حفاظاً على طلابها.
وتشير الطويل إلى أن معظم المدارس فقدت ما لا يقل عن 20% من نسبة طلابها، وأن الطلاب الذين لم يسددوا أقساط العام المنصرم سيكون مصيرهم الانتقال إلى المدارس الرسمية.
وفيما أثنت الطويل على عمل وزير التربية طارق المجذوب في سبيل التوصل لاتفاقات ترضي جميع الاطراف، لفتت إلى أن معظم إدارات المدارس لم تلتزم بتقديم ملاحق موازنات شفافة تؤدي إلى تخفيض الأقساط بشكل جدي، وأصرّت على اعتماد الأساليب المعتادة في السابق وهي التهديد بالاقفال أو إنذار الأهل، فضلاً عن رفضها الكشف عن موازنات السنوات الخمس السابقة ليتم إثبات العجز الذي تدعيه فعلياً.
ولم توفر إدارات المدارس كذلك ممارسة الضغوط السياسية والدينية، بالإضافة لغياب الرقابة وغياب القضاء، ما أدى إلى إيجاد أنصاف حلول ووضع رقبة الأهل تحت مقصلة بعض المدارس.
لم تقف الجهة التي تمثلها الطويل دون موقف، على حد تعبيرها موضحة بالقول: "حذرنا كاتحاد على مدى سنوات من هذا الأداء الذي يهدد الأمن التربوي، وفي بداية الأزمة هذا العام كنا السباقين لتقديم دراسات شاملة مالية وتربوية وقانونية لإنقاذ العام الدراسي، لكن للأسف دائماً ما يعرقل العناد السياسي والمصالح الخاصة إمكانية إيجاد الحلول".
في سياق متصل، يشير منسق اتحادات لجان الأهل في المدارس الخاصة عبدو جبرايل إلى بلبلة كبيرة على أبواب العام الدراسي، المفترض انطلاقه في 28 من شهر أيلول/ سبتمبر الحالي، وستكون عواقبها وخيمة على الأهل والأساتذة على حد سواء.
ينتقد جبرايل غياب إطار قانوني وتشريعي ينظم الموضوع كله، رافضاً تحميل الأهل أعباء الارتفاع على الأقساط والقرطاسية، ومطالباً بالمقابل الأخذ في عين الاعتبار أن عدداً لا بأس به من طلاب المدارس الخاصة ليسوا من عائلات ميسورة مادياً.
وفيما ناشد الدولة والمعنيين بإعادة النظر في أسعار القرطاسية والعمل على توحيد الكتب خاصة، يعتبر جبرايل أن المطلوب اليوم من الدولة ووزارة التربية تحديداً خطط سريعة وسعي جاد لتأمين تكفي كافة التلاميذ .
ماذا عن تعاون الجهات الرسمية؟
الإقبال على المدارس الرسمية كثيف، لكن ليس بالحجم الذي كان متوقعاً. هذا ما كشفه مصدر إداري في إحدى المدارس الرسمية، رابطاً الأمر ببعض الإجراءات التي اتخذتها المدارس الخاصة، فضلاً عن غياب القناعة لدى الكثير من الأهالي بأن العام الدراسي سيبدأ قريباً وبالتالي فهم يتريثون في اتخاذ قرار حفاظاً على صحة أبنائهم.
وبما يتعلق بالتجهيز لاستقبال أعداد كبيرة، أشار المصدر إلى أن بعض المدارس مجهزة لكن يوجد نقص قد يظهر بأعداد الأساتذة ما يستدعي فتح باب التعاقد لمواكبة الأعداد الجديدة من الطلاب الوافدين الى التعليم الرسمي، وبالتالي توجد الكثير من التحديات أكثرها مادي، بالإضافة إلى الحاجة لزيادة وتدريب العنصر البشري.
أكثر من مئتي ألف تلميذ قد ينتقلون من الخاص إلى الرسمي بعد أن كانت نسبة النزوح في العام الماضي قد ناهزت الثلاثين ألف تلميذ... يرتبط الأمر بتراجع قدرة الأهل المادية، خاصة وأن أغلب الإدارات في المدارس الخاصة أصرت على استيفاء الأقساط ولم تتحمل بدورها مسؤولية الحفاظ على طلابها
وبما يتعلق بتوجيهات وزارة التربية حول عدم رفض أي تلميذ، أكد المصدر أن التوجيهات قائمة على استيعاب التلاميذ مع الالتزام في المقابل بالقدرة الاستيعابية للمدرسة، وهناك تشديد على فتح شعبات إضافية للطلاب.
لحد الآن، لا تزال هناك قدرة على الاستيعاب في المدارس الرسمية، نظراً لأن بعض الأهالي يتريثون في نقل أبنائهم ساعين إلى التوافق مع المدارس التي يتعاملون معها، أما في حال تطور الأمر وحصل نزوح كبير من الخاص إلى الرسمي، فليست واضحة قدرة الاستيعاب لدى الأخير.
وفيما أشار إلى وجود تعاون بين الإدارات لتوزيع الطلاب بالشكل الذي يلبي حاجة الطالب والقدرة الاستيعابية للمدرسة، أسف إلى غياب خطط جدية تدعم التعليم الرسمي كما الخاص، في حين أن الفرصة سانحة للتعليم الرسمي للازدهار بعد أن أثبت نفسه وأثبت جدارته.
من جهة أخرى، يرى مدير مدرسة "ليسيه المتحف" جوزف فهد أن القطاع التربوي تأثر بصورة مباشرة بالوضع الاقتصادي السيء، ما دفع العديد من الطلاب بالنزوح الى المدارس الرسمية بنسبة تتراوح بين 10 و20%، مؤكداً على انخفاض أعداد طلاب الخاص.
يشير فهد إلى أن مدرسته اعتمدت سياسة تخفيض الأقساط بنسبة 35% لجميع تلامذة مرحلة الروضات، وطبّقت حسومات لكل الذين لديهم أكثر من ولد في المدرسة، وذلك من باب تأمين مداخيل المدرسة كحد أدنى للحفاظ على استمراريتها.
يقول فهد: "في الظروف الاستثنائية، علينا أخذ قرارات وتدابير للتمكن من الاستمرارية، خصوصاً وأن هناك عائلات تعتمد على المؤسسات التربوية لإعالة نفسها، ومن هنا نعتبر في هذه المرحلة أن التكافل والتضامن مع أهالي طلابنا ضروريان لنعبر الأزمة معاً"، مضيفاً: "نحن مصرون على إتمام العام الدراسي لجميع تلامذتنا من خلال التعلم عن بعد في فترة التعبئة لتعويض ما فاتهم بالحد المناسب، ويجب بالتالي اعتماد حلول استثنائية تراعي ما هو أنسب للطلاب".
ويختم فهد كلامه مشدداً على أن ما نواجهه اليوم هو تحد كبير على كافة المستويات، وأن على التربويين في هذه الحال أن يكونوا على مستوى المرحلة ليتمكنوا معاً تخطي جائحة كورونا والظروف الاقتصادية الصعبة.
ثمة ما يشبه الإجماع على أن المشكلة هذا العام تتطلب التعاون بين جميع الأطراف، وتسليم الإدارات والخطط لمتخصصين في المجال.
وفي السياق، يشير مهنا إلى ضرورة الابتعاد عن سياسة إخفاء الموازنات، وبالتالي اتباع مبدأ الشفافية والتعاون مع وزارة التربية بشكل فعال، ووضع أصحاب الاختصاص في أماكنهم المناسبة وفرض الرقابة بحد سواء على كافة الجامعات والإدارات التعليمية.
ويختم كلامه بالقول: "على المؤسسات التربوية اليوم التعاون في ما بينها، وعليها التركيز بشكل أساسي وأولي على التعليم والتخفيض من الاستثمارات التي تقوم بها في الملاعب والنشاطات الثانوية، والعمل جاهدة على تدريب طاقمها التعليمي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 21 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت