يصادف الأول من أيلول/ سبتمبر 2020، الذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير. تحلّ هذه المناسبة على لبنان وهو متشح بالسواد حداداً على عاصمته المفجوعة ببشرها وحجرها. لم يخلُ القرن المنصرم من فواجع تفاوتت من حيث الشكل والمضمون، وكان لكل منها آثاره العميقة في اللاوعي اللبناني، توارثتها الأجيال أباً عن جد.
فخلال مئة عام، لم توثّق الذاكرة الجماعية اللبنانية زمناً نَعِمَ فيه البلد بالازدهار والبحبوحة من دون أن يعكّره توتر ما أو خطر داهم. كانت جريمة الرابع من آب/ أغسطس 2020 خير معبّر عما هو مكتوب لهذا البلد منذ تأسيسه: الدمار.
وككل مرة، يكون للداخل والسلطات المتعاقبة اليد الطولى في التسبب بأي نوع من أنواع الدمار (الاقتصادي، الاجتماعي، الأمني إلخ...) نتيجة المنظومة الطائفية الفاسدة المجرمة التي نشأت منذ أيام المتصرفية ولا تزال تسيطر حتى يومنا هذا، بوجوه مختلفة ولكن في ظل عباءة الزعامة نفسها. الفارق الوحيد هذه المرة هو ثورة 17 تشرين التي وضعت لبنان وشعبه على مفترق طرق، قد يحدد مصيره للقرن القادم.
المئة العام الأولى من عمر لبنان
رزح لبنان منذ نشأته تحت شتّى المصائب والويلات، من حروب واحتلالات وأزمات معيشية، غالباً ما كانت هذه الأحداث نتيجة لصراعات طائفية رسختها ولاءات دينية لجهات خارجية. لن نسرد هذه الأحداث فهي باتت معلومة للجميع، بل سنسلط الضوء على الرواسب الناتجة عنها، وتُختَصَر بثلاث ركائز:
أولاً، العقلية والثقافة السياسية: أخطر هذه الرواسب هي العقلية الطائفية المتوارثة من جيل إلى جيل على مدى مئة عام، ولو بأحجام متفاوتة. انحدرت الثقافة السياسية خلال الحرب الأهلية إلى قعر نظام القيم التي نشأ على أساسها لبنان، لتصبح عبارة عن ثقافة تأليه الزعيم وما يمثله. غابت مفاهيم المواطنة والمساواة، احترام المؤسسات، العدالة الاجتماعية والهوية الوطنية، واستُبدِلَت بالتبعية لحزب الطائفة والمذهب أولاً وأخيراً.
يصادف الأول من أيلول/ سبتمبر 2020، الذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير. لم يخلُ القرن المنصرم من فواجع تفاوتت من حيث الشكل والمضمون، وكان لكل منها آثاره العميقة في اللاوعي اللبناني، توارثتها الأجيال أباً عن جد
ثانياً، المنظومة: النتيجة الطبيعية المنبثقة عن هذا النموذج الثقافي السياسي هي منظومة طائفية حاكمة تفتقر لأي مشروع أو نظرة إنمائية مؤسساتية، تتغذى فقط على إثارة النعرات من أجل شدّ عصب جمهورها وتمتين تمسكهم بها، ما ساهم بإيصالها إلى الحكم من خلال مجلس النواب والوزارات، لتتحكم بمفاصل البلد كلياً وتتقاسم مغانمه ومكاسبه ومناصبه.
ثالثاً، صراع المحاور: انتهجت هذه المنظومة العاجزة وغير الكفؤة مسار التعويل على الغرب تارة لإنقاذ الاقتصاد المهترئ، عبر التوسّل لضخ الأموال، وتارة أخرى لتبنّي مشروع سياسي معيّن، يخدم مصالح وأجندات خارجية مربوطة بصراعات إقليمية دولية. انقسم اللبنانيون تاريخياً بين موالين للمحور العربي الذي نشأ على أنقاض السلطنة العثمانية وكانوا من المسلمين، ومحور ينادي بالاستقلال تحت الغطاء الفرنسي وكانوا من المسيحيين. أفقد هذا الاتكال والتسليم للخارج أي قدرة للبنان على تحقيق الاكتفاء الذاتي والاستقلالية، فتحوّل الاقتصاد إلى نموذج ريعي ركيك معرّض لتحمّل تبعات التحالفات والخصومات السياسية.
المئة العام الثانية من عمر لبنان
وعندما انصهرت جميع هذه العناصر وتلاحمت سوية، انفجر الوضع، مجازياً وحرفياً، تاركاً الشعب اللبناني أمام خيارين لا ثالث لهما:
الخيار الأول: تغيير العقد السياسي والاجتماعي
بعد أن شارف الشعب اللبناني على فقدان الأمل في بناء الدولة، خاصة بعد تجربة انتفاضة الـ 2015 التي فشلت في أن تُحدِث ثقباً في جدار المافيا الحاكمة بعد أن عُقِدَ عليها الكثير من الآمال، أتت ثورة 17 تشرين الأول 2019، لتُحدث صدمة إيجابية لدى الشعب وتجدد فيه الإرادة على تغيير النمط الراهن. التحدي الكبير الآن هو إسقاط كل ما كان متعارفاً عليه طوال مئة عام، فلا يمكن بناء دولة حقيقية يفضل شعبها مصالح طائفته ورعاتها الإقليميين على مصلحة الوطن.
يجب أن يصرّ الشعب، بصفته مصدر السلطات، على تغيير العقد السياسي الموجود (تمويه لكلمة دستور أو اتفاق الطائف) الذي تمت صياغته ليُكافئ زعماء الحرب ويبقيهم على عروشهم الطائفية ولو بشكل مختلف.
الخطوة المقبلة يجب أن تؤسس لعقد سياسي جديد يشمل تعديلاً دستورياً ليس برعاية أي جهة خارجية، يقوم أساساً على قانون انتخابي غير طائفي، ينتج عنه سلطات تشريعية وتنفيذية عادلة وممثلة شعبياً وليس طائفياً. كما يجب اغتنام هذه الفرصة واستغلال صحوة الشعب لإحداث خرق في منظومة القيم وإعادة ترتيبها لتتناسب مع طموحات الشعب، فيتم إلغاء الطائفية السياسية والمحسوبيات، ويتم ترسيخ مبدأ المواطنة والمحاسبة ودولة القانون والولاء للوطن والأرض. إذا أراد الجيل الجديد حقّاً البقاء في لبنان والتطلع إلى مستقبل مزدهر في أحضان بلدهم، فهذا هو الخيار الصحيح والوحيد.
وكما في عام 1920 عندما أُعلن قيام دولة لبنان الكبير، على أنقاض مجاعة ووضع اقتصادي مزر مصحوب بعمليات نفي وقتل وسجن لزعماء الحركات التحررية، لعل وعسى يعيد التاريخ نفسه بعد مئة عام، وينشأ لبنان جديد على أنقاض فساد الدولة وانفجار 4 آب وقمع الدولة البوليسي
الخيار الثاني: الاستسلام والرضوخ
بصريح العبارة، إن الفشل في تحقيق التغيير هذه المرة قد يُعلن فعلياً القضاء على الدولة اللبنانية. هذا ليس استنتاجاً متشائماً بل تصويراً لما ستؤول إليه الأمور إذا ما استطاعت السلطة إعادة إنتاج نفسها من جديد، واضعة حداً لأي محاولة لاستبدالها بنظام مدني تكنوقراطي. ستتعامل السلطة عندئذ مع الثورة على أنها محاولة انقلاب فاشلة وتتمادى في قمعها وشلّها وإقصائها من المشهد السياسي، فتعود جماهير الأحزاب لمبايعة زعمائها لمئة سنة جديدة. لن يبقى أمام الشعب اللبناني الرافض لهذا الواقع خيار سوى الهجرة وترك البلد ليُحكم من قبل نفس الطبقة المحتكرة لجميع مرافق الدولة.
الأرض مهيأة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتحقيق التغيير المنشود، فقد استفاق الشعب في تشرين 2019 من سبات دام قرناً كاملاً، وكسر حاجز الخوف الذي لطالما منعه من التمرّد على السلطة.
أصبح من الغريب التكلم باسم الطائفة والمذهب، وبرزت نزعة جادة باتجاه تشكيل دولة مدنية وحكومات مطعمة بعناصر كفؤة متخصصة لم تكن واردة منذ مدة.
وكما في عام 1920 عندما أُعلن قيام دولة لبنان الكبير، على أنقاض مجاعة ووضع اقتصادي مزر مصحوب بعمليات نفي وقتل وسجن لزعماء الحركات التحررية، لعل وعسى يعيد التاريخ نفسه بعد مئة عام، وينشأ لبنان جديد على أنقاض فساد الدولة وانفجار 4 آب وقمع الدولة البوليسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين