في وقت متأخر من الليل، عادت غادة محيي الدين إلى منزلها في حي كوبر في ضاحية الخرطوم بحري. كانت في حالة من الترّقي الروحي والنشوة الوجدانية والثقة بالنفس وبالله، كما لم تعرفها من قبل ولم تتذوقها قط. كانت تشعر باتساع مدارك عرفانها، وكأنما روحاً علِيّةً غمرتها بفيوض من المحبة والسكينة والسلام الداخلي.
تقول لرصيف22: "كأنما كُنتُ أُحلِّقْ بين ناسوت الأرض ولاهوت السماوات. إنّها المرّة الأولى التي أحظى فيها بحضور جلسة للإنشاد العرفاني، بدعوة من صديقة جمهورية، والآن أتوق إلى المزيد".
وتضيف، وعيناها شاردتان كأنهما تبحثان على أفق غير مرئي: "سرّني أنّ المُنشدتان من جيلي وفي عمري تقريباً، وأنّهما لم تكونا مُلتزمتين بالثقافة السلفيّة والإخوانيّة في مظهريهما، ولا ترتديان ما يُسمّيه البعض زيّاً إسلامياً. كانتا ملتزمتين بجوهر الدين، وكذلك كان معظم الحاضرين من الجنسين. هكذا أحسست، وهذا ما جعل روحي طليقة وخفيفة ومتوهجة".
"ليلتها عرفت أن ديننا أكثر تسامحاً ومحبة وتصالحاً مع مقتضيات العصر ومستوجبات الحداثة مما تطرحه أحزاب الإسلام السياسي وفقهاء المؤسسات الدينية الرسميّة"، تقول غادة.
مجتمع نخبوي طوباوي
للوهلة الأولى يبدو نخبوياً، إلا أنّ الناظر عن قرب والراصد للمجتمع الجمهوري عن كثب سيجده أكثر بساطة وأقل تعقيداً على مستوى العلاقات الإنسانية البينية القائمة على المحبة والتسامح والعفو عند المقدرة وعدم الانشغال بصغائر الأمور والإيثار والزهد والتقشف والتضحية من أجل المجتمع.
لكن هذا المجتمع شديد التعقيد إيدولوجيّاً أيضاً. تخالف أفكار زعيمهم الذي أعدمه الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري بتهمة الردة، بإيعاز من الإخوان المسلمين والسلفيين، ما تذهب إليه المذاهب الأربعة والمؤسسات الدينية الرسمية في تفسير الإسلام وشرحه.
هذا الأمر جرّ على المجتمع الجمهوري رفضاً من عامة الناس. رغم أن معظمهم يشهدون لأعضائه بالاستقامة والتهذيب والرفعة والسمو، إلا أنهم لا يثقون في مدى التزامهم الديني بالمعنى التقليدي للعبارة، فالجمهوري السوداني بالنسبة إلى عموم الناس كافر لكنه محترم وأخلاقي.
تشابكات وتداخلات
كان زعيم الجمهوريين الراحل محمود محمد طه يرغب في تأسيس حزب سياسي مدني بصبغة دينية وصيغة حداثية، والدليل على ذلك أنّه حاول المواءمة بين الفكر الاشتراكي العلماني ومبادئ الإسلام في النظر إلى المجتمع والعلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق والميراث وحقوق النساء والأطفال والأقليات، يقول الباحث في الفكر الجمهوري عثمان رجب.
ويضيف أن هذا ما جعل فكر طه معقّداً وصعب الفهم على عموم الناس، الأمر الذي سهّل على مناوئيه ومنافسيه من الإخوان والسلفيين والصوفيين التقليديين مهمّة الترويج لكفره وخروجه عن الإسلام، وشجّع السلطة السياسية في مختلف الحقبات على ملاحقته بتهمة الرِدّة إلى أن قرر الرئيس النميري شنقه وهو على تخوم الثمانين.
الآن، هنالك حزب جمهوري، يشارك بفعالية في الحراك السياسي والفكري والثقافي في السودان، لكنه ينأى بنفسه عن المنافسة في الانتخابات، فقد أعلن أنه لن يشارك في أيه انتخابات قادمة، وفي ذلك إشارة إلى عنايته بالجانب الفكري والثقافي أكثر من السياسي، أو لربما بالجانب السياسي النظري أكثر من الممارسة العمليّة.
يعتقد الجمهوريون السودانيون بتخلف المدنية الغربية بنظاميها الرأسمالي والاشتراكي، وعجزها عن تكييف البشر روحياً وماديّاً في آن واحد، فهي برعت علمياً ومادياً لكنها أخفقت في استيعاب طاقة الإنسان المعاصر بعد أن حوّلته إلى ماكينة للإنتاج والاستهلاك فخسر روحه وحريته
ولعلّ ذلك يؤشر بشكلٍ ما إلى خشية مُبطّنة من خوض الانتخابات التي دائماً ما تتوسل فيها الأحزاب التقليدية الشعارات الدينية لإقصاء الخصوم وابتزاز عواطف الناخبين. وغالباً ما يخسر الجمهوريين في معاركٍ مثل هذه.
تعقيدات السياسي والإيديولوجي
"أغرب ما في الجمهوريين أن معظمهم ليسوا أعضاء في الحزب الجمهوري"، يقول رجب شارحاً أن إيديولوجيتهم تسمح للعضو بالانتماء الفكري دون الانخراط في التنظيم السياسي.
لذلك، يتابع، فإن المجتمع الجمهوري يبدو شديد التعقيد وصعب الفرز بين مَن هو الجمهوري الحزبي، ومَن الجمهوري فكرياً، ما يُسهّل على المنتسبين إليه القول إنهم ليسوا أعضاءً في الحزب ولا يمثلون وجهة نظره وإنما يدلون بآرائهم الشخصية، عند تعليقهم على الأحداث وتحليلهم للحراك الجاري في البلاد.
والدليل على ذلك أن النور حمد، أحد أبرز الجمهوريين وأكثرهم نشاطاً، صرّح مراراً بأن الحزب الذي تترأسه زوجته أسماء، وهي ابنه زعيم الجمهوريين الراحل محمود محمد طه، لم يوقّع على إعلان الحرية والتغيير، كما أنّ أعضاءه لم يسعوا إلى تولي مناصب في الحكومة الانتقالية الحالية، ومَن تقلّد منصباً منهم فهو ينتمي إلى الحزب فكرياً لا سياسياً.
النور حمد
مدنيّة جديدة
يولي المجتمع الجمهوري شديد العناية للتربية والتهذيب على أساس الاحترام والتعالي عن الصغائر، ويدعو إلى السلام والمحبة والحوار، من خلال منابر ووسائل متعددة ومتنوعة، بعضها روحاني يستهدف ترقية النفس وترقيقها وتهذيبها والسيطرة عليها والتحكم بنزعاتها الشريرة ومقاومة شهواتها ودحر شرورها، عبر الإنشاد العرفاني وتحفيز التأمل والتفكير وإثراء الحوار الفكري حول الأمور الدينية والمجتمعية.
يسعى الحزب الجمهوري السوداني إلى "إحداث تغيير شامل في حياة أفراد الشعب السوداني، ليأتي المجتمع الصالح، الذي يتساوى فيه الناس، في الثروة، والحكم، والوضع الاجتماعي"
ويعتقد الجمهوريون بتخلف المدنية الغربية بنظاميها الرأسمالي والاشتراكي، وعجزها عن تكييف البشر روحياً وماديّاً في آن واحد، فهي برعت علمياً ومادياً لكنها أخفقت في استيعاب طاقة الإنسان المعاصر بعد أن حوّلته إلى ماكينة للإنتاج والاستهلاك فخسر روحه وحريته، كما وضعته على أعتاب الحيرة باحثاً عن القيمة وراء المادة.
لا فروق جوهرية
الناظر إلى أدبيات الحزب لن يلحظ فروقاً جوهريّة بين ما يدعو إليه وما تدعو إليه بقية الأحزاب المدنية في السودان، وسيلمح بسهولة أنه يفوقها طوباوية.
فعندما يكتب حزب سياسي في ديباجته أنه يسعي إلى "إحداث تغيير شامل في حياة أفراد الشعب السوداني، ليأتي المجتمع الصالح، الذي يتساوى فيه الناس، في الثروة، والحكم، والوضع الاجتماعي"، فإنّ هذه جرعة مفرطة من المثالية.
بطبيعة الحال يدعو الحزب الجمهوري إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مُعتمداً فكرة تحقيق "المجتمع الصالح" الذي ينبني على روافع أساسية: الحق بالحياة وحق الحرية للأفراد والجماعات، والعناية بحرية الرأي والتعبير والتنظيم الاعتقاد والتدين، وكفالة حرية النساء وكرامتهن ومساواتهن في الحقوق الأساسية مع الرجال وبعث ثقافة السلام بنبذ العنف وإعلاء قيم الحوار، وتوحيد الهوية السودانية ومراعاة التنوع العرق والديني والجمع بين الديمقراطية والاشتراكية في نظام واحد.
لربما يُخبئون جحيماً
"بالفعل تمّكن الجمهوريون على المستوى الفكري من خلق مجتمع نخبوي صغير ومؤثر على الفضاءين الفكري والثقافي، وهما فضاءان نخبويان بامتياز، وفيهما وخلالهما يتمتع المجتمع الجمهوري بتقدير يصل في بعض الأحيان حدّ التبجيل"، يقول عثمان رجب ويضيف: "لكن ذات المجتمع يجد مقاومة ومناوءة شديدة الوطأة من النخب من اليمين إلى اليسار إلى الوسط عند خوضه غمار السياسة، خِشية أن يسحب البساط من تحت أقدامهم إذا ما ترك له الحبل على الغارب".
ويشير إلى تمتّع كوادره بـ"قدرات فذّة على الجدل والحوار وبقوة معنوية على تحمل الشطط وامتصاص الغضب والتعامل بحكمة وأدب مع مَن يختلفون معهم، ولذلك تلجأ الأحزاب اليمينية إلى تكفيرهم، أو التواطؤ بالصمت عمَّن يكفرونهم، فيما تلجأ أحزاب اليسار إلى التقليل من قيمتهم والسخرية من أسلوب عملهم في الفضاء السياسي باعتباره مثالياً وغير واقعي".
وبين هذا وذاك، يظل كثيرون من السودانيين وغيرهم، ينظرون إلى المجتمع الجمهوري بإعجاب مشوب بالتوجس والحذر، فلربما وراء هذا المظهر العام المحتشد بالفكر والثقافة والاحترام وقوة الحجة والمنطق والصوت الخفيض وإظهار المحبة للغير ما قد يقود إلى الجحيم في حياة أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع