يحكي أبو رامي (57 عاماً)، موظف في بلدية دمشق، معاناته مع فصل الصيف لرصيف22: "أثناء عودتي من عملي أرى بعض الفواكه، يُغريني منظر بطيخة حمراء. أفكر بشرائها. أتخيّل منظرها مقطّعة باردة في الثلاجة، لكن أتذكر السلالم التي سأصعدها. من المستحيل الصعود بها الى الطابق السابع. أستبعد الفكرة، يجب أن أضبط مواعيد شراء الأغراض مع قدوم الكهرباء لأنقلها بالمصعد".
يذكر أبو رامي يوماً من أيام شهر آب، وصل إلى المنزل يتصبب عرقاً، تنفّس رائحة المحشي تعبق في البيت، يقول لزوجته: "حدا بيطبخ محشي بالشوب! تنظر زوجته إليه وتستمر بتحريك المروحة الورقية بيدها، تقول: مو أنا... حماتي هي التي طبخت. يجيب: حماتي... أقصد أمي! ليش يا أمي، لو طبختي معكرونة باللبن كنا بوردنا شوية".
"أُدخل رأسي في الثلاجة"
يسير أبو رامي باتجاه المطبخ مباشرة، يفتح الثلاجة ويضع رأسه بداخلها، يا إلهي كم هي منعشة هذه البرودة التي لامست وجهه. يبحث عن المياه الباردة، يأتيه الرد من غرفة الجلوس: "لا تحاول، ما أجت الكهربا اليوم، ضاربين خط الغاز... هيك قالوا بالأخبار".
يجيب: "ضاربين خط الغاز! بس خط الغاز! ضاربين حياتنا كلها... يضرب الغاز... لك يضرب الصيف وساعته. أكره الصيف، لو يحذف من قاموس الفصول ممتاز".
"ما الذي يجعلني أحب الصيف؟ من أجل رائحة العرق التي تفوح من أجساد الناس في المواصلات العامة أم من أجل الرحلات التي لا نقدر على ثمنها، انقطاع الكهرباء، وغلاء الأسعار حوّل صيفنا إلى كابوس"
أبو رامي شرفته قبلية، أي تحمل له هواء غربياً لطيفاً في المساء، كما يقول، وفراشه ممنوع أن يقترب منه أحد، ينام يومياً على الشرفة، يقول لرصيف22: "إنها الحل الوحيد. لا نقود للخروج إلى البحر أو الجبل. ولا حتى لدينا رفاهية للجلوس تحت المكيّف في أحد المقاهي. ويسألوني لماذا لم أعد أحب الصيف؟".
"الحمّام البارد هو الحل"
"اللي بحبوا الصيف ليه بيحبوه! الصيف ليه بينحب! حدا بحب الخنقة! ألف شتوية طويلة ولا نصف شهر صيف"، هذا ما كتبته الصحفية روان السيد، على صفحتها الشخصية فيسبوك.
تقول روان (30 عاماً)، لرصيف22: "ارتفاع الحرارة يجعلني عصبية. الهواء في دمشق جاف وساخن جداً، أشعر أنني سأختنق، خاصة عندما أعيش حالات سيئة أو مواقف مزعجة يصبح تأثير الحر أقوى".
وتكمل: "إضافة إلى كل هذا جاءنا فيروس كورونا هذا العام، يعني فوق أنه مكمومين من الحر وقطعة الكهرباء بدنا نلبس كمّامة... نختنق بزيادة، أما الفُسح التي من الممكن أن نهرب إليها من الحر، أصبح ارتيادها شبه مستحيل، مع انتشار فيروس كورونا وارتفاع الأسعار. لا زبداني ولا ربوة ولا حتى كأس من العصير المثلّج".
تشرح روان: "الناس هنا في دمشق كانت تنتظر فصل الصيف للانطلاق إلى البحر، لكن مع ارتفاع الأسعار استغنت الكثير من العائلات عن هذه الرحلات، تكلفة المواصلات فقط بين دمشق واللاذقية لعائلة مكونة من 5 أفراد نحو 50 ألف. هذا لم نتحدث عن إيجار الشاليهات المرتفع والمصروفات الأخرى".
"أما الآيس كريم فأسعاره أيضاً لم تثبت، كله يحتاج إلى حسابات، لابد من آلة حاسبة قبل اتخاذ القرار بشراء أي شيء، إذا كأس من الآيس كريم بـ 500 ليرة، هل تفكر العائلة المكونة من 5 أفراد بشرائه؟".
الحل الوحيد، برأي روان، هو الحمّام البارد، طبعاً عند توفر المياه، لأنه في بعض الأوقات لا تصل الكهرباء مع وصول المياه، بالتالي لا يمكننا تشغيل الموتور الكهربائي الذي يملأ الخزان، أما عند امتلاء الخزان بالمياه فما بيدنا حيلة سوى شطف البيت بالمياه، طريقتنا الوحيدة للتخلص من الحر.
"أحلم بانتهاء الصيف"
أبو عمّار سائق سيارة أجرة وأب لأربعة أولاد، لا يحب الكلام كثيراً، يقف على الدور منذ الصباح الباكر أمام إحدى محطات البنزين في اللاذقية، علّه يحصل على حصّته قبل اشتداد الحرارة.
يقول أبو عمّار (55 عاماً)، لرصيف22: "أزمة البنزين زادت الصيف سوءاً، تخيّل كيف سيكون يومك بعد انتظار 5 ساعات على الدور في ذروة ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة في هذه المدينة! لا أملك شيئاً لمحاربة الحر سوى هذه القطعة من القماش التي أمسح بها عرقي، وعلبة ماء أبلل جسدي بها بين دقيقة وأخرى".
ويكمل: "لا أستطيع تشغيل المكيّف في السيارة، لأن ذلك يتطلب مزيداً من البنزين، وهذا غير متوفر طبعاً، أبحث عن توفير أي قطرة لا يمكنني هدرها على رفاهية المكيّف، جل ما أتمناه أن ينتهي هذا الفصل بسلام وتنتهي معه أزمة البنزين والانتظار ساعات أمام محطات الوقود".
أما هدى أحمد (55 عاماً)، من مدينة اللاذقية، فعليها تصحيح الأوراق الامتحانية، خاصة بعد أن وصلتها بعض التحذيرات من المدير أنه يتوجب عليها تسليم الأوراق في الوقت المحدد.
"أخرج من الحمّام لأرتدي ملابسي فأتعرّق من جديد".
لكن الرطوبة التي ترتفع إلى أقصى درجة في مدينة اللاذقية تعيق عملها، تقول هدى لرصيف22: "أنا جالسة على الكرسي أتعرّق من أعلى رأسي إلى أخمص قدميّ، حتى الحمّام البارد لا يجدي نفعاً مع هذه الرطوبة اللعينة، أخرج من الحمّام لأرتدي ملابسي فأتعرّق من جديد".
تتحدث هدى عن معاناتها اليومية خلال فصل الصيف لرصيف22: "لماذا لم أعد أُحب الصيف في سوريا؟ ولماذا أُحبه؟ من أجل رائحة العرق التي تفوح من أجساد الناس في المواصلات العامة؟ أم من أجل الرحلات والمغامرات التي لا نستطيع أن نجربها؟ انقطاع الكهرباء وغلاء الأسعار حوّل صيفنا إلى كابوس".
تحاول هدى دائماً أن تحافظ على مظهرها أنيقاً، تسرّح شعرها لكنها ترفعه طبعاً، لا مجال لتركه منساباً على كتفيها، في ظل انعدام وسائل التهوية في المدرسة.
تبحث هدى عن أرخص البدائل لشراء صابونة أو بارفان سعره مقبول، تقول: "أذكّر الطلاب يومياً بضرورة الاستحمام، واستخدام البودرة أو البارفان أو العطور للحفاظ على رائحة الجسد عَطرة، لكن لا فائدة".
تحكي هدى قصتها مع العصير المثلّج، تقول لرصيف22: "كنت أسير في الشارع منطلقة إلى منزل أحد الطلبة لأعطيه درساً في مادة الرياضيات، فكرت أن أشتري كأساً من العصير المثلّج، فكرة حلوة تبعث البهجة في القلوب".
"سارعت إلى المحل وطلبت كأساً من العصير المثلّج بطعم التوت، كانت الإجابة: نعتذر لم تصل الكهرباء منذ 6 ساعات، نفذ المازوت من المحل، لم نستطيع تشغيل المولّدة الكهربائية لإعداد الثلج مع العصير".
"كل شي مكربج"
غلادس قزمة، مدرّسة لمادة المعلوماتية في مدينة اللاذقية، تشاطر هدى كراهية فصل الصيف، تقول: "بدأت أكره الصيف، همّنا الوحيد كيف نتخلص من الحر والرطوبة، لم يعد فصل الاستجمام والمتعة. انقطاع الكهرباء قطع كل متعة لدينا"، تضحك ضحكة ساخرة، وتقول: "كل شي مكربج".
وتكمل غلادس قصتها: "أما ارتداء فستان والخروج به إلى الشارع للتخفيف من الحر فيحتاج للكثير من التفكير، هل سأستقل سيارة أجرة أم باص؟ وإلى أين سأذهب؟ هل يتقبل سكان هذا الحي شابة بفستان؟ لذلك تعود لقرارها الأول، ترتدي الجينز وتنطلق. عندما تعود لتبديل ملابسها تلاحظ أن درزة خيط سروال الجينز تركت أثراً على جسدها على شكل خط مستقيم".
"الحمام البارد هو الحل، أسعار المواصلات ارتفعت، وإيجار الشاليهات، والمصروفات الأخرى، حتى شراء آيس كريم لعائلة من 5 أفراد تحتاج إلى آلة حاسبة"
تسكن غلادس في حي تجاري وسط مدينة اللاذقية، أي أصوات المولدات الكهربائية الخاصة بالمحلات التجارية أضحت جزءاً من حياتها، تشرح ذلك لرصيف22: "القيلولة في الصيف مستحيلة، خاصة مع انقطاع الكهرباء، تبدأ المولدات بالدوران واحدة تلوى الأخرى. إن قررت إغلاق النوافذ هرباً من صوتها يحاصرني الحر، أما إن قررت فتح النوافذ تدخل رائحة البنزين والمازوت إلى غرفتي، ويصبح صوت المولدات وكأنها تهدر في غرفتي تماماً".
"رأسي يذوب من الحر"
أما أبو يوسف، بائع قهوة متجوّل على دراجته النارية في مدينة اللاذقية، يضحك باستهزاء ويقول لرصيف22: "تَمْسَحْنا، لا بيهمنا الحر ولا الرطوبة ولا حتى كورونا".
يعمل أبو يوسف (38 عاماً)، يومياً من الساعة السابعة صباحاً حتى الرابعة ظهراً، يتجوّل بحثاً عن زبون يريد أن يشرب القهوة، سلاحه الوحيد لمحاربة الحر هو قبعته السوداء يضعها على رأسه وينطلق.
يقول أبو يوسف لرصيف22: "أحياناً أشعر أن رأسي بدأ يذوب من أشعة الشمس، أقف في ظل شجرة قليلاً، لكن لا أستطيع أن أُطيل المكوث، يجب أن أتحرك بحثاً عن زبائني".
لا بحر ولا جبل، الناس مثلنا لا تفكر بالصيف ولا بالاستجمام، هذا ما يقوله أبو يوسف: "كيف لنا التفكير أو التخطيط لرحلة على البحر، وإيجار الخيمة الصغيرة في شاطئ بحري مفتوح 5 آلاف ليرة في اليوم".
يختم حديثه بالقول: "بعد انتهاء خدمة الجيش والتسريح اشتريت هذه الدراجة. قررت العمل في بيع القهوة. لا أهتم إن كان الوقت صيفاً أو شتاء، كل ما يهمني أن أكسب ما يكفي عائلتي، زوجتي وأطفالي الثلاثة. لكن لماذا لم أعد أحب الصيف؟ ليس لدي جواب، الحقيقة لم أعد أحب كل الفصول".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...