شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"التغيير تصنعه الشجاعات"... كيف أثرّت عليّ تجربة الانفصال عن بيت عائلتي في سوريا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 2 يونيو 202002:19 م

الخوف من أي مجهول والحذر من كل جديد، شكلا قوقعة الحماية التي ولجها إنسان الكهف الأول، وليضمن بقاءه على قيد الحياة رسم قوانين نجاته على حجارة كهفه. عندما يحين الليل يُسدّ مدخل الكهف وتُحرّم مغادرته، فالليل بظلامه وكثرة خفاياه فيه كل أنواع الخوف وعدم الأمان بالنسبة له. في فيلم الأنيميشن The Croods خرقت الفتاة "إيب" قانون الكهف، عندما لمحت من ثقب في الجدار نوراً يتحرّك في الخارج، قررت أن تتبع الضوء، أن تكسر لعنة الظلام والخوف، شجاعتها بمغادرة حضن العائلة الآمن أوصلتها لاكتشاف النار والحب.

في كل منزل سوري تسكن الفتاة "إيب"، وفي داخلها رغبة هائلة بمغادرة الكهف، ولكن تنقصها أحياناً الجرأة والكثير من الشجاعة لاتخاذ القرار.

بعض الفتيات استطعن اتخاذ القرار وغادرن العائلة، إذ نجد اليوم في مجتمعنا السوري تزايداً خجولاً في أعداد النساء اللواتي اخترن الانفصال عن العائلة، سواء كان ذلك من أجل العلم، العمل، أو بهدف الاستقلال وبناء الشخصية، بعيداً عن الوصايات العائلية والخطوط المرسومة بحدّة ووضوح بحيث يصعب الحياد عنها، وفي الحقيقة لا تقلّ تجربة هؤلاء الفتيات خطورةً عن تجربة أنثى الكهف، إذ تتكدس تلك الوصايات فوق كاهل ابنة اليوم كجعبة مليئة بالتحذيرات والمخاوف والمحرمات، تكبر البنت وتكبر معها جعبتها، فتألفها وتتأقلم معها، إذ إن سيرها مع هذه الأحمال التي يعتبرها المجتمع طبيعيةً يمنحها شعوراً وهمياً بالأمان، فالإنسان بطبيعته خوّاف من المجهول، وهذا ما يتكشّف لنا بوضوح شديد إذا ما ألقينا نظرة سريعة على الآلهة التي قدّسها عبر الزمن.

ومن أجل هذا، لا يمكن اعتبار تجربة الانفصال عن العائلة ومغادرة بيتها هي تجربة سهلة، لكنها في الحقيقة مليئة بالمتعة، متعة اكتشاف الذات والمحيط، إنّها أشبه بترك الجسور المتينة الثابتة التي تنقلكِ بين ضفاف واضحة مألوفة، واختيار القفز فوق الحجارة للوصول إلى ضفة جديدة مجهولة.

يولد الأطفال وفي داخلهم ألف طائرة ورقية ملونة، في الطفولة تتكسر بعض هذه الطائرات نتيجة التربية أو أحكام المجتمع وتوجيهاته، يكبر الأطفال ويصيرون فتياناً وفتيات، وقراراتهم هي التي تكسر طائراتهم، تحدّ من حركتها أو تطلقها حرةً تحلّق، بعض النساء يسلّمن طائرات أحلامهن ليد تمسك بخيوطها، تطيلها وتحركها كما تشاء، وأخريات يقررن تحرير حبال الطائرات الورقية لأحلامهم الملونة لتحلّق في سماوات جديدة رحبة.

لا يمكن اعتبار الانفصال عن العائلة ومغادرة بيتها  كتجربة سهلة، لكنها في الحقيقة مليئة بالمتعة، متعة اكتشاف الذات والمحيط، إنّها أشبه بترك الجسور المتينة الثابتة التي تنقلكِ بين ضفاف واضحة مألوفة، واختيار القفز فوق الحجارة للوصول إلى ضفة جديدة مجهولة

في جامعة تشرين بمدينة اللاذقية، نجد العديد من البنات اللواتي قدمن إليها بغرض الدراسة، واستقرين إما في بيوت مستأجرة أو في السكن الجامعي، بنات قَدِمن من محافظات الداخل السوري، أو من المدن الساحلية المجاورة مبتعداتٍ عن بيوت العائلة، الكثيرات منهن خضن هذه التجربة بحذر، ترافق وسائد نومهن توصيات الأهل وعباراتهم التي علقوها كتمائم في رقاب بناتهم، مشبهين إياهن بلوح زجاجي لا يمكن إصلاح أي عطب يصيبه دون أن يتشوّه، غير آبهين بتداعياتها النفسية على البنت، عبارات أدمنتها المجتمعات العربية وتناقلتها العائلات، من الجدة إلى الأم ومن الأم إلى البنت.

لكن إذا وسّعنا زاوية الرؤية قليلاً نجد شريحة غير قليلة من البنات اللواتي أحرقن تلك التمائم، ورمين رمادها من نوافذهن التي شرّعنها للحياة، قافزات فوق حواجز الخوف، درسن ونجحن واستمتعن واستغلّين الكسور التي أحدثتها الحياة في ألواحهن الزجاجية، ليملأنها بالذهب على الطريقة الصينية، كما أنّ بعضهن لم يعدن إلى الحضن العائلي بعد انتهاء مرحلة الجامعة، بل استقرين في اللاذقية، وشرعن بتحقيق أحلامهن على المستوى العملي والعقلي والعاطفي، وصار بيت الأهل بالنسبة لهن بيتاً ثانياً، يحمل بين جدرانه ذكريات الطفولة والمراهقة.

طبعاً لا يمرّ هذا الانفصال في حياة المرأة بسلاسة، ودون أن يُحدث صدوعاً مختلفة الشدة على المستوى النفسي، لاسيما في مراحله الأولى، إذ تتأرجح البنت بين حاجاتها الطفليّة للأهل وتعلقها القسري بهم، وبين رغبتها باكتشاف نفسها بعيداً عن القوالب الجاهزة.

لا يمرّ الانفصال عن بيوت العائلة في حياة المرأة بسلاسة، ودون أن يُحدث صدوعاً مختلفة الشدة على المستوى النفسي.

عند سؤال بعض الطالبات الوافدات إلى اللاذقية عن رغبتهن بالعودة إلى منزل الأهل بعد انتهاء فترة الدراسة، أجابت هلا كوركيس، طالبة طب بشري سنة سادسة من محافظة الحسكة: "لا أفكر كثيراً بالعودة والاستقرار مع أهلي، لأنني بدأت أشعر بحب الاستقلال والعيش معتمدة على نفسي، سواء من الناحية المادية أو من حيث المسؤوليات الأخرى، ثمَّ أن توجهاتي الفكرية بعدما خرجت من المنزل وقصدت مدينة اللاذقية للدراسة، صارت بعيدة كل البعد عن توجهات أهلي، ولا أحبذ أن أفرض آرائي وقراراتي عليهم أو العكس، لأن ذلك سيخلق الكثير من المشاكل التي يقينا البعد شرها، فالاستقلال عنهم سيُبقي علاقتنا مبنية على الود والاحترام".

أما رين يوسف، وهي طالبة صيدلة سنة رابعة من محافظة طرطوس، قالت: "بالنسبة لي فأنا أحب أن أستقل عن أهلي بعد انتهاء مرحلة الدراسة، لكن ذلك يتوقف على قدراتي المالية واستعدادي النفسي أيضاً، وفي حال لم يتوفر لي ذلك فلا مشكلة عندي بالبقاء في بيئتي الأولى، فالاستقلال ليس مشروعي الحتمي الذي أسعى إليه في حياتي، ولكنني أحب، إذا أُتيحت لي الفرصة، أن أعيش هذه التجربة، وأن أكون قادرة على تحمل مسؤولية نفسي، بعيداً عن الاتكال على الأهل، سواء مادياً أو معنوياً، فذلك يمنحني شعوراً بالنضج وفرصة لأرد لأهلي شيئاً من فضلهم علي".

بالنسبة لهديل مخايل، وهي طالبة طب بشري سنة رابعة من إحدى قرى محافظة طرطوس، فهي ما زالت تتأرجح بين رغبتها في العودة إلى بيت أهلها وبين رغبتها في الاستقلال عنهم، وتضيف في حديث لرصيف22: "أحبُّ قريتي وبيت أهلي، وفي الوقت نفسه أحبّ اللاذقية والحياة التي خلقتها لنفسي فيها، إنني مرتاحة جداً مع نمط الحياة الذي أحياه الآن، إذ أقضي نصف الأسبوع في اللاذقية والنصف الثاني في قريتي، وأعتقد أنني سأستمر فيه بعد تخرجي من الجامعة".

وعند سؤال يارا حداد، خريجة كلية الهندسة المعلوماتية، والتي اختارت الانفصال والعمل بعيداً عن العائلة بعد انتهاء المرحلة الجامعية، عن الأسباب التي دفعتها لهذا الخيار وعن الصعوبات التي واجهتها وطريقة تعاملها معها، أجابت: "منذ أن بدأت أعي حياتي قررت أنه في مرحلة ما لابد لي من الاستقلال عن أهلي مادياً ومعيشياً، يجب أن أعمل وأسكن وحدي، ففي مجتمعنا غالباً ما تتجاوز النساء هذه المرحلة دون أن يتوقفن عندها، إذ تنتقل الأنثى من بيت الأهل إلى بيت الزوج.

لكنني أرى أن هذه المحطة المُتجاوَزة في مجتمعاتنا، ولاسيما بالنسبة للنساء، ذات أهمية شديدة، حيث تسهم في صقل الشخصية وتُعلّم المرأة كيف تعتمد على نفسها، من أصغر التفاصيل إلى أكبرها، ما يساعدها على اكتشاف الكف التي ستسندها دائماً والتي هي كفها، العديد من جوانب شخصيتها ستتغير، إنها تجربة ممتعة وصعبة في الوقت نفسه، ومثل أي شيء في الحياة لها سلبياتها وإيجابياتها، وبرأيي فإن الإيجابيات أكبر طبعاً.

بالطبع لا يخلو الأمر من الصعوبات التي ستواجهك كأنثى عندما تتخذين قرار الاستقلال، ففي الدرجة الأولى هناك المجتمع، فانتقال البنت إلى مجتمع خارج محيط أهلها واستقلالها عنهم كامرأة عزباء هو أمر غير مألوف، ستكثر الأسئلة وعلامات الاستفهام

أما بالنسبة لتجربتي الشخصية، وإضافة إلى الأسباب التي ذكرتها، فإن سكن أهلي في قرية كان سبباً لاختياري الاستقلال عنهم، فبعد خمس سنوات دراسة وعيش في المدينة، كان صعباً بالنسبة لي أن أعود إلى القرية، فالأفق فيها محدود والخيارات ضئيلة، أما في اللاذقية فخياراتي في العمل والتسلية، وحتى الخيارات الاجتماعية، أوسع وأكبر.

بالطبع لا يخلو الأمر من الصعوبات التي ستواجهك كأنثى عندما تتخذين قرار الاستقلال، ففي الدرجة الأولى هناك المجتمع، فانتقال البنت إلى مجتمع خارج محيط أهلها واستقلالها عنهم كامرأة عزباء هو أمر غير مألوف، ستكثر الأسئلة وعلامات الاستفهام.

ثقتي بقراري هي التي ثبتتني في خياري، فالعادات والتقاليد وعلامات الاستفهام تسقط أمام الثقة. "التغيير تصنعه الشجاعات"، هذا ما أؤمن به، ولذلك لم يشكل لي اعتراض المجتمع عقبة حقيقة، أما السبب الأهم والأكبر لتجاوزي هذه العقبة فهو تشجيع عائلتي التي دعمت قراري، فقد احترم أهلي رغبتي وقراري، فوقوف الأهل في صف أولادهم في خياراتهم لا بد سيُسكت الألسنة التي تلوم، وسيرضخ المجتمع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image