اشتهرت مدينة دمشق منذ آلاف السنين بمهارة حرفييها في صناعة السيوف الدمشقية، والتي استخدمت على مر العصور، سواء كأداة حربية أو قطعة تراثية تزين بها البيوت والمحال.
وفي يومنا هذا تعتبر مهنة "السيوفي" من المهن التراثية القديمة المرتبطة بحضارة سوريا ورمزاً يتفاخر به السوريون، ولكنها مهنة تصارع للبقاء وفي طريقها للاندثار، بعد سنوات الحرب التي عصفت بالبلاد.
بعد بحث طويل بين المحلات التراثية في سوق مدحت باشا والأسواق القريبة منه وسط دمشق القديمة، عثرنا على محل واحد فقط متخصص بهذه المهنة التي وصفها البعض "بالمنقرضة"، بينما خصصت المحلات التراثية الأخرى زاوية صغيرة، علقت عليها بعض السيوف ليكتمل ديكور المكان، كما يقول مروان بقبوق، صاحب ورشة لتصنيع السيوف.
ويتحدث الرجل لرصيف22 عن مهنة السيوفي بالقول: "هي مهنة شارفت على الاندثار، فقد تراجع نشاطها بمعدل 90% عما كان عليه قبل عام 2011. في دمشق لوحدها كان هناك ما يقارب 300 ورشة حرفية لتصنيع السيوف، وتجاوز عدد الحرفيين الذين يعملون في هذه مهنة 3000 حرفي، أما الآن لا يتجاوز عدد من تبقى العشرات، حيث هاجر معظمهم أو لقوا حتفهم أو انتقلوا لمهنة أخرى، لأن مهنة السيوفي أصبحت لا تسمن ولا تغني من جوع، وبقيت سبع أو ثماني ورشات تصنع السيوف من الألف إلى الياء".
وتعتمد صناعة السيف الدمشقي على الحرفيين الدمشقيين، ولكن سوقها خارجي يعتمد على التصدير والسياحة، حسب ما ذكر ياسر المهايني، الذي يعمل في الشرقيات لرصيف22: "فالمواطن السوري لا يقتني السيف الدمشقي ولا حتى كتحفة، والزبائن المحليون لا يميلون لشراء السيوف إلا فيما ندر كنوع من الهدايا، أو لتقطيع قوالب الحلوى في حفلات الزفاف. هي حرفة تعتمد بالدرجة الأولى على السياح من بلدان الخليج، وعلى رأسها السعودية وقطر والكويت والإمارات، والذين باتوا نادرين للغاية بعد الحرب".
يتحدث ياسر عن صعوبات أخرى يعانيها الحرفيون، وتتعلق ببعض القرارات الرسمية التي تمنعهم من الاستمرار، ومنها مرسوم صدر بداية هذا العام ويشدد العقوبة على المتعاملين بغير الليرة السورية كوسيلة للدفع أو التعامل المالي. "هذه القرارات قضت على الأنفاس الأخيرة للمهنة حيث توقفت الطلبات الخارجية بنسبة 90%، وبات من النادر أن يأتي زبون طالباً كميات للتصدير، بعد أن كان هذا الأمر شائعاً قبل العام 2011".
ويصف الرجل صناعة السيف الدمشقي بأنها "حرفة مرتبطة بحضارة وتراث سوريا"، لكنه يأسف لأن الحرب والقوانين ساهمت بشكل كبير في دمارها والقضاء عليها: "كيف تبقى المهنة إذا لم يكن هناك سوق للعمل؟"، يتساءل بحسرة.
أسعار السيوف
تختلف أسعار السيوف الأثرية -ويطلق على السيف الواحد منها اسم النصل أو جوهر ويعود إلى حقب زمنية قديمة- عن السيوف التي تصنع في الفترة الحالية.
وبحسب مروان بقبوق، يختلف سعر السيوف الحديثة على حسب المعدن الذي تصنع منه وحسب حرفيتها، ويبلغ سعر السيف العادي بين 100 ألف و300 ألف ليرة (ما يعادل 50-150 دولاراً)، والسيف المطلوب عادة من الأمراء الخليجيين بين ألف وألفي دولار.
ويضيف الرجل شارحاً: "في المهن اليدوية والشرقية لا يوجد سقف للأسعار. قد يصل سعر السيف الواحد إلى 6000 دولار وربما أكثر، فالأمر يختلف حسب المعدن المصنوع منه كالحديد أو النحاس، مع إمكانية تلبيسه بالفضة أو الذهب، أو حتى تصنيعه من الذهب الخالص".
بعد بحث طويل بين المحلات التراثية في سوق مدحت باشا والأسواق القريبة منه وسط دمشق القديمة، عثرنا على محل واحد فقط متخصص بهذه المهنة التي وصفها البعض "بالمنقرضة"، بينما خصصت المحلات التراثية الأخرى زاوية صغيرة، علقت عليها بعض السيوف ليكتمل ديكور المكان
المعدن الأسطوري سر صناعة السيف الدمشقي
لا يمكن الحديث عن مهنة السيوفي في الوقت الحالي دون الرجوع لتاريخ السيف الدمشقي.
وحول البدء بصناعة السيف الدمشقي وسمعته الأسطورية، يذكر الباحث التاريخي الياس بولاد لرصيف22، بأن الإمبراطور ديوقليسيان (284-305 م) جعل من دمشق مكاناً لصناعة ترسانة أسلحة، اكتسبت شهرة مع الأيام بفضل حرفية بعض صناع النصال، ومنهم عائلات بولاد والسيوفي والسكاكيني.
وعن مميزات النصل الدمشقي الأصيل، يقول الباحث بأنه "يستطيع أن يقطع بكل يسر قطعة من الشاش في الهواء، وعظاماً ومسامير من غير أن يتثلم. ومن أهم مميزاته المرونة الفائقة، حيث يمكن أن نثنيه على شكل زاوية قائمة من غير أن ينكسر، ثم يعود إلى حالته الأولى. للسيف الدمشقي لدانة وصلابة كبيرتان، وحد قاطع ومرهف".
وأشار بولاد إلى ما كتبه بعض المؤرخين، ومنهم هيد، وهو من أهم من أرخ للقرون الوسطى، حيث ذكر بأن دمشق يقطنها شعب صناعي وذكي، وكانت تنتج بنفسها سلعاً ذات جودة عالية، وبأن النصال الدمشقية، مثلها مثل جميع المنتجات التي تصنعها أيدي مصنعي الأسلحة في هذه المدينة، كانت لها شهرة عالمية، فكان المرء يجد عند مصنعي المعادن أسلحة تضرب بجودتها الأمثال.
ويكمل الباحث حديثه بالقول: "يوجد في كتاب تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية لتوفيق يوسف بولاد، والذي قمت بترجمته، فصل عن السيف الدمشقي الذي كان يصنعه أجدادنا في حارة بولاد، بحي باب توما بدمشق قبل العام 1400 م، ثم هجرهم الطاغية تيمورلنك إلى خرسان وسمرقند وأراد انتزاع سر نصل السيف الدمشقي، وعندما رفضوا ذلك أعدمهم وضاع معهم السر".
وبعد العام 1400، يقول الباحث بأن مصنعي الأسلحة الدمشقيين الذين أجلاهم تيمورلنك إلى خرسان حاولوا أن يصنعوا شبيهاً بالسيف الدمشقي إلى حد ما، ودعي بالسيف الخرساني، ولكنه لا يملك ذات الصفات وسر الصناعة الذي يعرفه فقط أشخاص معدودون، وحاول كثيرون من دمشقيين وفرس وإيطاليين تقليده، ولكن لم يتوصل أحد لمعرفة هذا السر.
وهذا أيضاً ما أشارت له رانيا قطف وهي باحثة في التراث السوري لرصيف22، حيث تقول بأن مهنة صناعة السيوف الدمشقية بدأت في التراجع عندما دخل تيمورلنك دمشق وسفك الدماء وحرق المسجد الأموي، وأخذ معه عدداً كبيراً من الحرفيين الدمشقيين ونقلهم لمدن أخرى، فأصبحت السيوف تصنع على أيديهم خارج دمشق، وهذا ما يفسر أننا نجد سيوفاً دمشقية قديمة كتبت عليها أسماء ورشات غير دمشقية أو مدن مختلفة، حيث نرى عادة على السيف ختم أو اسم الورشة وصانع السيف وأين صنع والمعدن الذي صنع منه، إلى جانب عبارات مثل "يا قاضي الحاجات".
وتضيف رانيا مستذكرة: "في إحدى زياراتي لأحد محال الأنتيكا في دمشق القديمة، رأيت سيفاً دمشقياً قديماً حفر عليه أنه صنع في خراسان، كما أنني شاهدت خلال زيارتي للهند بعض السيوف الدمشقية المصنوعة من الفولاذ الدمشقي في متحف Albert بمدينة جايبور، لكنها مصنوعة في الهند".
وترى رانيا بأن السيف الدمشقي يعتبر إرثاً يفتخر به السوريون، لكن من يسعى لاقتنائه هم السياح المهتمون بشكل أكبر بالقطع الأثرية، وخاصة القادمون من روسيا، وكثيراً ما يعرضون هذه المقتنيات كالسيوف الدمشقية للبيع في مزادات علنية، مع إرفاق منشور يحوي عرضاً لصفات السيف.
""لن تجدي هنا محلات لبيع السيوف الدمشقية. على طول هذا الجانب من السوق كانت تنتشر محلات شرقيات، وجميعها الآن تحولت لمحلات أحذية"
سيوف معدودة متبقية في دمشق
في بداية الحرب في سوريا اتجه الناس لبيع مقتنياتهم والسفر، وكان من بينها السيوف الدمشقية التي كانت تحتفظ بها بعض العائلات العريقة التي توارثتها عن أجدادها.
وحسب تقديرات صرح بها بعض التجار الذين يعملون في بيع الشرقيات والتحف القديمة لرصيف22، فقد كان عدد السيوف الدمشقية الأثرية المتبقية والتي عرضت للبيع في تلك الفترة حوالي مئة سيف تعود لحقب تاريخية قديمة جداً، وبعضها يصل عمره إلى 500 عام، ويتفاوت سعرها من 150 ألف ليرة سورية حتى المليون، والتجار بدورهم باعوها لأمراء كويتيين بأثمان باهظة تجاوزت المليون ليرة، وكانت تعادل حينها 20 ألف دولار أمريكي.
ويرى صاحب محل البشائر للشرقيات، والذي يقع في سوق الجابية وسط دمشق القديمة، أن على الجهات الحكومية المعنية شراء السيوف الدمشقية ووضعها في المتاحف نظراً لقيمتها التاريخية والتراثية. ويضيف في حديثه لرصيف22: "تفتخر متاحف العالم بحصولها على سيف دمشقي، ولنأخذ متحف برن في سويسرا على سبيل المثال، حيث يوجد قسم عن التاريخ العربي ومن بين مقتنياته السيف الدمشقي الذي يعد العمدة في السيوف الدمشقية الحقيقية، في حين أننا لا نتملك هنا على الأغلب سوى عدد قليل من السيوف متبقٍ من الأنصال الحقيقية، موجود في قصر العظم".
في نهاية حديثنا مع صاحب محل الشرقيات نسأله أين من الممكن أن نجد محلات لبيع السيوف الدمشقية. يشير بيده إلى السوق ويقول: "لن تجدي هنا. على طول هذا الجانب من السوق كانت تنتشر محلات شرقيات، وجميعها الآن تحولت لمحلات أحذية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...