فجأة، وبدون مقدمات، غرّد الجهادي السابق نبيل نعيم بأن "النشاط الاقتصادي للسوريين في مصر من أموال التنظيم الدولي للإخوان، ويمثل عمليات غسيل أموال لبعض الجماعات الإرهابية"، ثم تقدم المحامي سمير صبري ببلاغ للنائب العام طالب فيه باتخاذ إجراءات قانونية للكشف عن مصادر أموال السوريين الوافدين إلى مصر.
تحرك الرجلين المفاجئ، وهما من المحسوبين على النظام، للهجوم على السوريين في مصر فُهم منه ضمنياً أن الدولة بشكل أو بآخر تدبر شيئاً ما للسوريين. وعلى الفور، وفي رد فعل شعبي تلقائي تحول هاشتاغ #السوريين_منورين_مصر، الذي دافع فيه المصريون عن وجود السوريين في مصر، إلى ترند عالمي.
المفارقة أن معظم المصريين الذين هبوا لمساندة اللاجئ "الغريب" ودعمه وقفوا قبل سنوات بين صامت وشامت إزاء مذبحة أريق فيها دم "الغريب" اللاجئ... الفرق بين الموقفين أن الأول سوري والثاني سوداني.
والسؤال: هل دعم المصري لـ"الغريب" مطلق أم انتقائي؟ وهل المصريون شعب مضياف أم عنصري؟
مقارنة بين نموذجين
تعتبر مصر من ضمن أكثر بلدان المنطقة العربية استقراراً. هي تعاني من فقر حقيقي يدفع الكثيرين نحو حلم السفر، إما شرقاً صوب دولارات النفط، أو شمالاً حيث الحريات واحترام الآدمية، إلا أنها تظل بشكل عام دولة مستقرة، وهو ما جعلها أحد مراكز استقبال النازحين من بلادهم هرباً من الحروب وويلاتها.
لذلك، أتاها السوري والعراقي والصومالي والسوداني والليبي... أبناء جنسيات عدة، من مستويات اقتصادية متباينة، لجأوا إليها طمعاً بالأمان. وعليه، فمقارنة تعامل المصريين مع نموذجين مختلفين من اللاجئين (السوداني والسوري) ربما يكون كاشفاً أكثر للنظرة المصرية تجاه الآخر.
الشرخ الأكبر في نفوس السودانيين المقيمين في مصر هو حادث فض اعتصامهم أمام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عام 2005، عندما سقط 25 قتيلاً.
بدأ الاعتصام المذكور في يوليو 2004، عندما قررت المفوضية انتهاج برامج العودة الطوعية إلى جنوب السودان والاندماج المحلي، على أساس أن الظروف أضحت مؤاتية للسلام، وهو ما رفضه قطاع واسع من اللاجئيين السودانيين الذين تمسكوا بحقهم في اللجوء، على اعتبار أن الأوضاع ما زالت سيئة وخطيرة هناك.
رفضت المفوضية طلبهم، فقرر اللاجئون الاعتصام أمام مقرها في ميدان مصطفى محمود الشهير في الجيزة. وبعد عدة أشهر، قررت السلطات المصرية فض الاعتصام بالقوة، ما أسفر عن سقوط 25 قتيلاً على الأقل، في حادثة وصفها الأمين العام للأمم المتحدة حينذاك كوفي أنان بالمأساوية والتي لا يمكن تبريرها.
دينا سمك، مديرة تحرير موقع أهرام أونلاين تروي لرصيف22 شهادتها على تعامل المصريين مع فض الاعتصام وتقول: "ذهبنا صبيحة اليوم التالي للفض. كانت الدماء على الأرض لم تجف بعد، وبقايا التدمير والعنف كانت بادية، وأرقام الوفيات كانت قد بدأت في الظهور، لكن الذي صدمني لم يكن عنف الأمن في فض الاعتصام، الصادم حقيقة لي كان تعليقات الشماتة التي سمعتها من قاطني الميدان. سمعت بأذني مَن يقول "أحسن، بلاش وساخة، شايفين القرف اللي عاملينه"، خطاب الشماتة الممزوج بالاحتقار هو ما صدمني فعلاً يومها".
تسترسل سمك شارحة أسباب تلك "الشماتة" من وجهة نظرها وتقول: "ربما يعود ذلك إلى طبيعة المنطقة الطبقية، فالمهندسين يعد من الأحياء الراقية في مصر، قاطنوه من النخبة الاجتماعية، ووجود لاجئين فقراء في الحديقة العامة أمامهم أمر يخدش حياءهم الطبقي ويفرض عليهم ما لا يريدون رؤيته"، وتضيف: "أتفهم أن يضيق السكان بهم ذرعاً ويودون لو يرحلون، لكن أن يصل الأمر إلى الشماتة في قتلهم والاحتفاء به، هذا ما لا يمكن تفهمه مطلقاً".
ذكرى فض الاعتصام الدموي التي ما زالت عالقة في أذهان الكثيرين من السودانيين تمتزج مع شكاويهم الأساسية من العيش في مصر، وما فيه من تعرض للعنصرية.
يقول تاج البنبي، المدرس في إحدى المدارس السودانية في القاهرة لرصيف22: "المصريون شعب طيب. هذا حقيقي. لكن ما يزعجنا هنا هو الممارسات العنصرية. كلمات مثل يا شوكلاتة ويا سمارة التي يقولها الكثيرون مازحين هي في الحقيقة عنصرية وتعالٍ مستتر على أصحاب اللون الأسمر، ولا تضحكنا مطلقاً، ناهيك عن أن البعض يعبر عن عنصريته بفجاجة قائلاً يا أسود أو يا عبد".
ويضيف المدرس: "هنا في عين شمس، الأطفال في المنطقة المحيطة بالمدرسة كانوا يلقون الحجارة على تلامذتنا وهم قادمون في الصباح بدون مبرر أو معنى، اللهم إلا احتقار ورفض الآخر. الحقيقة أنه لا يوجد سبب منطقي أو مبرر لهذه السلوكيات من المصريين، خصوصاً أنهم بالأخير سمر البشرة هم الآخرون".
"أنا بحب يوم الجمعه". هكذا بدأت "أم دهب" حديثها مع رصيف22، شارحة جانباً آخر من الممارسات التي تراها النساء السودانيات عنصرية وتقول: "حين قدمنا إلى مصر منذ 24 سنة كنا نرتدي ثيابنا الملونة المعتادة، ولكن فوجئنا بالشارع المصري يسخر منا ومن تلك الألوان، فأصبحنا مضطرين أن نتخلى عن ثقافتنا ونتماهى مع ما اعتاده المصريون".
وتضيف: "الجمعة بالنسبة لي هو يوم الإجازة، اليوم الذي تتجمع فيه النسوة السودانيات ويكون فرصة لارتداء ثيابنا الملونة، شيء بسيط قد يبدو لك تافهاً، لكنه يعبر عن رفضنا في الشارع واحتقار البعض لثقافتنا".
تتحدث المرأة بأسى لا تخطئه عين وتشتكي من أن "فرص العمل المتاحة لنا ولأبنائنا تكاد تكون محصورة في الوظائف الدنيا وبرواتب لن يقبلها المصريون. أصحاب العمل هنا جشعون ويستغلون ظروفنا".
الآية المعكوسة
لكن على الجانب الآخر، لا تصدر الشكوى من العنصرية والتنمر من السوريين في مصر مطلقاً. بالعكس، الآية هنا معكوسة إلى حد كبير، وربما الشكوى الأبرز بينهم والتي لا يصرحون بها على الملأ، هي ضيقهم من عدم نظافة المدينة وفساد الذوق العام، إضافة طبعاً إلى الشكوى العامة المعتادة من كل النساء في القاهرة، مصريات وغير مصريات، من تحرش الرجال بهن.
والسؤال: لماذا تقبل الشارع المصري السوريين ورحب بهم تماماً، في حين يتنمر على السودانين والأفارقة إلى حد كبير؟ هل لون البشرة فقط هو السبب أم أن الأمور أعقد من هذا؟
"المصريون بحكم سنوات الاستعمار والانبهار بالغرب تولد لديهم ولع وحب للرجل الأبيض. يعتبرونه ‘أنظف’، ولهذا حين أتى السوريون إلى هنا بملامحهم الغربية، فرح المصريون بهم وحرصوا على الامتزاج بهم والزواج منهم"
"كلمات مثل يا شوكلاتة ويا سمارة التي يقولها الكثيرون من المصريين للسودانيين مازحين هي في الحقيقة عنصرية وتعالٍ مستتر على أصحاب اللون الأسمر، ولا تضحكنا مطلقاً، ناهيك عن أن البعض يعبر عن عنصريته بفجاجة قائلاً يا أسود أو يا عبد"
تجيب خبيرة التنمية المجتمعية لميس ناصف عن هذا السؤال وتقول لرصيف22: "هناك عوامل عدة شكلت هذا الفارق في المعاملة بين الوافد السوري في مصر والوافد الإفريقي".
العامل الأول، برأيها، "يعود بالطبع إلى لون البشرة والملامح، فالمصريون بحكم سنوات الاستعمار والانبهار بالغرب تولد لديهم ولع وحب للرجل الأبيض. يعتبرونه ‘أنظف’، ولهذا حين أتى السوريون إلى هنا بملامحهم الغربية، فرح المصريون بهم وحرصوا على الامتزاج بهم والزواج منهم، حتى أنه نشأ سوق وسمسرة لاستغلال فقر الشريحة الدنيا من السوريات للزواج منهن، بعكس الحال مع السودانيين أو الإفريقيين، الذين يمثلون لهم في اللاوعي الجنوب الفقير".
والعامل الثاني، برأيها، هو "عامل اقتصادي بالأساس، وهو شديد الأهمية في المقارنة التي نعقدها، فعدد ليس بالقليل من السوريين الذين قدموا إلى هنا هم تجار، فتحوا محلات كبيرة أو صغيرة لا يهم، واستخدموا العمالة السورية المدربة، التي بحكم طبيعتها البنيوية أكثر لطفاً وبشاشة من المصريين".
هكذا، تتابع، "أصبحت الصورة الذهنية للمواطن السوري السائدة أنه التاجر الغني اللطيف البشوش، بعكس الوافدين السودانيين الذين حضر أغلبهم مفلسين ولا يملكون مهارات التجارة واللسان الحلو، مثل السوريين، وهي مهارات تمكنهم من اختراق المجتمع، وبالتالي لم يكن أمامهم سوى الوظائف الدنيا المعتمدة على القوة الجسدية".
وتختم ناصف حديثها قائلة: "بالطبع هناك سوريون كثيرون من الفقراء الذين لم يعملوا في التجارة، لكننا نتحدث عن صورة ذهنية عامة تكونت لدى المصريين: السوري تاجر شاطر مؤدب شديد الوسامة…. فيا ألف أهلاً وسهلاً به".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...