شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أنا ابنة الحسكة

أنا ابنة الحسكة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 24 أغسطس 202003:53 م

"كبرتُ في أقصى الشمال الشرقي السوري، حيث يمرُّ الفرات خجولاً في المنطقة ويشقّ طريقه عميقاً في ذاكرة وذكريات أهلها، يترك من أثره رافداً صغيراً يدعى الخابور، ومثلما كان الخابور يجفّ أكثر مما يفيض، كانت قصصنا وخساراتنا تتلاشى وتختفي..."

بهذه المقدمة نشرت مقالي الأول، أنا ابنة الشمال الشرقي السوري، أو كما تسميني صديقتي: ابنة الفرات، لم أستطع يومها أن أكتب دون أن أذكر الفرات الذي علّقت جسره برقبتي، وحمّلت نفسي مسؤولية الدفاع عن ذكراه.

ابنة الجزيرة التي اكتشفت أنها لا تعرف الكتابة عنها، بل تتهرب تماماً من ذكرى البلاد التي ولدت وكبرت فيها: الحسكة، والتي تعرفونها اليوم بالمدينة العطشى، وأعرفها بالمدينة المنسية، وربما ذكرتموها جميعاً ببوست عاطفي على الفيسبوك.

لطالما كانت الحسكة مدينة وحيدة ومهجورة، لا أتذكر متى أدركت هذا بالضبط. كنت أحضّر لامتحان الثانوية العامة، منذ سبع سنين، على ضوء الشموع، وكل ما أذكره هو أصوات أولاد الجيران يركضون ويصرخون: "عمو أبو المجد يقول حفرنا البير الكل يجي يعبي".

كان هذا بعد انقطاع المياه لمدة أحد عشر يوماً عن الحسكة الذي رافق انقطاع التيار الكهربائي. لم يسمع أحد بنا يومها ولم يعرف بنا أحد. لا قيمة لسبق صحفي، فالمحافظات في بلادنا مقامات. لا صفحات على الفيسبوك تطالب وتستنكر وتشتم محتلاً وهمياً أو حقيقياً، لا حملات تضامن، لا ركوب للموجة. ببساطة كانت شبكة الإنترنت الحكومية مقطوعة ولازالت إلى يومنا هذا.

لتصبح الحسكة، منذ تلك الأيام، مدينة البدائل، ففي البدء هاجر أغلب سكانها الأصليين ربما ليتركوا مكاناً لمن هُجّروا قسراً من المحافظات والقرى المجاورة، انقطع التيار الكهربائي تماماً لنجد مدينة كاملة تعتمد على مولّدات الحي، شبكة إنترنت فضائية تحلّ محل الأصلية، آبار مالحة غير صالحة للشرب أمام كل بناء، واليوم بدلات عسكرية جديدة في نصف شوارع المدينة.

لطالما كانت الحسكة مدينة وحيدة ومهجورة، لا أتذكر متى أدركت هذا بالضبط. كنت أحضّر لامتحان الثانوية العامة، منذ سبع سنين، على ضوء الشموع، وكل ما أذكره هو أصوات أولاد الجيران يركضون ويصرخون: "عمو أبو المجد يقول حفرنا البير الكل يجي يعبي"

منذ زيارتي الأخيرة للمدينة في أيلول/ سبتمبر، والتي لم تستمر لخمسين ساعة، وأنا أهرب من أخبارها، من صورتها الأخيرة في ذهني، من المعبر الذي أوقفني ليتأكد أنني أملك إثبات إقامة في المدينة، ليكون أول معبر حدودي أقطعه في حياتي يفصل بين محافظتين سوريتين: العاصمة ومسقط رأسي.

واليوم أهرب من عيني أمي وأبي، بينما ينتظران أن أقول أي شيء، تسألني أمي: "كتبتي شي عن الحسكة؟".

فأخجل من حزنها ومن يأسي، واليأس ليس حجة كافية لأهرب من كل العيون، من الشفاه الذابلة ومن الحياة، فكان عليّ أن أدعمه بحجّة الحجر الطوعي الذي أحشر نفسي فيه منذ خمسة شهور، وكأنني أرتمي في حضن خوفي ليقتلني.

أهرب من شاشة الأخبار، من مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يهدأ قلبي، فأحاول التنصت على مكالمات أبي وأمي المستمرة مع العائلة في الحسكة. لا أتذكر متى اتصلت بأحد أقاربنا، ولا أتذكر أنني شرحت لهم أنني أضعف من حزنهم الكبير، وأنني عاجزة للحد الذي لا عجز بعده. أسمع أخبارهم عن بعد. أرسل لخالاتي التوصيات الصحية مع أمي. يخبرني أبي أن ابنة عمي، صديقتي الأولى، صارت عروساً جميلة تبحث عن بيت لتستقر فيه مع زوجها، فأدرك فجأة كم كبرنا، كم بعدت وكم صرت وحيدة.

"بنتي لا تخافين مدبرين أمورنا"، قالها جدي على عجل، وتهرّب من اتصال أمي قبل أن يبدأ بالبكاء، جدي السبعيني الذي لم يحاول حبس دموعه حين ودعني في زيارتي الأخيرة لبيته، وأنا ما كنت مسافرة إلا لدمشق. ربما كان يعرف أن رحيلي ذاك لا رجعة بعده.

أسمع حديث أمي عن أخبار إلغاء المساومة على الماء خلال الساعات المقبلة، ويأخذ أبي بشرح الخصوصية السياسية للمنطقة، لأنسحب إلى غرفتي، محاولة التماسك والهرب من جديد.

في غرفتي المرفهة بدمشق، حيث أستلقي نصف نهاري بجانب مكتبتي التي يتكوّم فوقها الغبار، أخفض صوت محمود درويش الذي ينطلق من هاتفي المحمول، أقاطعه بينما يقول: "فرغت من شغفي"، لأستمع إلى جارنا يهدد زوجته بأنه سيقتلها. أحاول أن أقوم من فراشي وأفشل، وأُرجع عجزي لعوز فيتامين دال أو الاكتئاب، وقبل أن أنتهي من تعداد مشاكلي الصحية، يصلني صراخ ابنتهما الصغيرة الذي يوحي بأنه قتل أمها. أحاول تخيل شكلها، علامات الفزع على وجهها، استدارة فمها الفاغر، جسدها النازف والساطور مرمي بجانبه، لأستوعب أنني، وبعد أكثر من سنتين في هذا البيت، لا أعرف وجه أحد في الجوار، فلقد دربت نفسي جيداً ألا أحب أحداً جديداً، ألا أخاف على أحدٍ في بلاد المأساة، وألا أحفظ وجهاً ربما يطلب مني التعرّف إلى جثته.

الحسكة ليست مدينة عطشى فحسب بل هي مدينة محرومة، سنحكي لأولادنا وبناتنا عن حقول القمح التي أطعمت بلاداً بأكملها وحُرقت، عن حقول النفط التي سُرقت، وعن حقدنا وحزننا، لنورثهم مع جيناتنا الغضب

يصلني إشعار رسالة من شاب جميل كان من المفترض أن أشاركه فنجان القهوة صباح السبت لنتكلم عن أحلامنا، وبالطبع وضعت الحجر حجة، وبدل أن أقول له: لديك عينان جميلتان، تركت له رسالة كتبت فيها: أريد أن أموت...

وبمحاولة فاشلة لتصحيح رسالتي الأخيرة أكتب:

"ليك أنا ما بدي موت... بس بدي تخلص هالحياة".

بعد عدة ساعات أنجح في مهمة النهوض من فراشي، أذهب لأعرف حال جارتنا الغريبة، فيؤكد لي الجميع أن لا أصوات سُمعت في الحي، ولا وجود لطفلة صغيرة في البيت المقابل لغرفتي.

أعود إلى غرفتي، أكتب في دفتر يومياتي، ومثلما كان الخابور يجفّ أكثر مما يفيض، كانت قصصنا وخساراتنا تتلاشى وتختفي... لكننا نحن سنتذكرها جيداً، قصصنا وخساراتنا وعطشنا وحرماننا حتى لو كلفنا ذلك عقلنا، قلبنا أو حياتنا.

الحسكة ليست مدينة عطشى فحسب بل هي مدينة محرومة، سنحكي لأولادنا وبناتنا عن حقول القمح التي أطعمت بلاداً بأكملها وحُرقت، عن حقول النفط التي سُرقت، وعن حقدنا وحزننا، لنورثهم مع جيناتنا الغضب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard