شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أن تحيا بدون جدار... عن اللامنزل وكاميرا المراقبة

أن تحيا بدون جدار... عن اللامنزل وكاميرا المراقبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 21 أغسطس 202004:48 م

هتك انفجار المرفأ الكثير من المنازل في بيروت، وتركها نصف مفتوحة على الخارج، ما جعل "المنزل"، مساحة الاستقرار الشخصية، بلا قيمة رمزية، لا جدران أربعة تختزن الأسرة، العشاق والمختفين سراً. أصبح المنزل واجهة للخراب، داخله حطام ويطل على حطام الخارج وآثار عنف السلطة. الجدران التي يفترض أن "تحتوي" الأفراد تلاشت. الانتهاك الذي حصل والتشريد نفى مفهوم "الخاص"، لا منزل قائم على حاله، وكل ما هو مطل على الانفجار مباح للكاميرات وأعين المارة والصحافيين والفضوليين.

لا يوجد فرق بين "الداخل" و"الخارج" دون جدران، إذ انتُهكت أشد الخصوصيات الفردية، ليس فقط صور الدماء مباحة، بل المنازل نفسها ومكوناتها شديدة الحميميّة (كتب، صور تذكاريّة، ثياب..)، لا فضاء خاص بالنسبة للكثيرين. السلطة بإهمالها وفسادها، تركت "الجميع" مرئيين أمام "الجميع". الداخل وما يحمله من مكونات مادية ورمزية أصبح مزيجاً من زجاج وذكريات وغبار يستعرض علناً. لا منزل في بيروت، فقط الشارع وجموعه.


في بيروت يلغي غياب الجدران الفرق بين الداخل والخارج فتصبح أشد الخصوصيات الفردية حميميةً منتهكةً ومباحة لأن الجدران التي تختزن "الأنا الصرفة" قد تلاشت

اللامنزل لا يعني غياب الملكية للمكان، بل تهديد الأنا الخاصة التي ينتجها الداخل. مرة أخرى، ماذا يعني أن نفقد الجدار، وأن يطل الواحد من منزله على "الجميع" وعلى منازل الآخرين؟ هذا الانفتاح الجزئي ينفي الفردانية، بصورة أدق، ينفي شرط تكوين الفرد لذاته داخلاً، بأسلوب يختلف فيه عن الخارج ومكوناته، فضمن الداخل تكوّن الأنا صورتها أمام المرايا والمقتنيات الشخصية، تلك التي ترتب "داخلاً" فيها الذكريات والتجارب الحميمية.

الداخل مساحة للانفلات من أعين الرقابة، أي رقابة كانت، لكن الجدران التي تختزن "الأنا الصرفة" تلاشت، ما يعني أن الجميع على قدم المساواة في العلنيّة والتعرض لمخاطر الخارج: المرض، الجوع، غياب المال، التجمهر وازدحام الأبدان لا عودة عنه، لأن لا "مكان" للعودة إليه، حتى للنوم بعيداً عن الأعين، فلا أبواب لتغلق ولا جدران لترد "الخارج".

في فيديو مسجل لدرون يتنقل بين الأبنية في بيروت، نشاهد الدواخل دون أي حواجز. الشائعات والهمسات التي من المفترض أن تسلك هذا الطريق، أصبحت مساراً لعدسة الدرون، الذي يكشف خصوصية الداخل حد الإباحيّة، بمعنى العلنية بأقصاها، في ذات الوقت، أصبح الهمس علنياً بين المنازل المحطمة، هتاف وشعار، سُباب ولعنات كانت تتداول سراً أو في "الداخل"، أصبحت في "الخارج" على مسمع "الجميع"، الأجساد تجتمع وتكتظ صارخة بما كانت الجدران تخبئه لسنوات: لا بد من شنق الجميع، ولابد من ثأر ما علنيّ وأمام الجميع، فلا مكان للتهامس والتفكير السريّ والمنظم بها بدون جدران وسقف.

تجتمع الأجساد في شوارع بيروت وتكتظ صارخةً بما كانت الجدران تخبئه لسنوات: لا بد من شنق الجميع، ولابد من ثأر علنيّ وأمام الجميع، فلا مكان للتهامس والتفكير السريّ والمنظم بها بدون جدران

الآن، هناك فقط جدار شفاف يرسم بدقة حدود الاشتباك، لا يختفي وراءه سوى الخائف، المدافع ربما عن منزل ما أو خصوصيّة لم يطلها الانفجار. الجموع تدفع وتتدافع، تشتبك وتتراجع، تختلف وتتماثل وتتحرك باتجاه هذا الجدار الشفاف الذي يحمله العسكري، ويجعل "العدو" و"الصديق" مرئيين أمام بعضهم البعض، لكن من هو وراء الدرع، مُهاجم دوماً كونه يَقمَع، من أمامه مُدافع دوماً لأن حياته على المحك. الدرع الشفاف سلاح لتثبيط الجموع، في ذات الوقت يبيح لها أن تنظر بوضوح بأعين "السلطة"، مرئية من ورائه وأمامه، هي أشد أشكال القمع وقاحة، لسان حال العسكري يقول: "سأحدق في عينيك وأنا أدفعك إلى الأرض، لا مكان للاختباء"، لا خصوصيّة حتى في الاشتباك، كل شيء مرئي، الداخل والخارج ينتميان لفضاء واحد، كل ما فيه علنيّ وأمام الجميع.

كاميرا المراقبة: العدو خارج الكادر

الكثير من الفيديوهات التي توثق لحظة الانفجار التقطتها عدسات كاميرات المراقبة، سواء المنزلية أو التجارية، تلك التي تسجّل إلى ما لا نهاية. لا جدوى مما تسجله إلا في الحالات الاستثنائية، التقت عدستها الغافلين بلحظات قبل الانفجار، الكثير منهم لم يتوقع حدوثه، الخطر في هذه التسجيلات "خارج الكادر" غير مرئي، لا لنا كمشاهدين ولا لمن تلتقطهم الكاميرا.

الأغراض اليومية والاعتيادية والتي ترتبط بالداخل تحولت فجأة إلى أفخاخ، لا يمكن تحديد ما سينهار أو يقع ويودي بحياة من تحدق به الكاميرا. الرعب الذي تخلقه هذه الفيديوهات يرتبط بما لا نراه، بالخفي الذي لا نعلم من أين يأتي، الذي يتطابق مع نظام الفساد والمحسوبيات، ذاك الذي زحزح التراب ونسف الأرض، دون أن "نراه"، دون أن نعرف بدقة مصدر "الخطر" وكيفية حصوله.

الكثير من الفيديوهات التي توثق لحظة انفجار مرفأ بيروت التقطتها عدسات كاميرات المراقبة، سواء المنزلية أو التجارية، والزمن اللامتناهي للتصوير تركنا أمام رعب المفاجأة للعنف الهائل الذي يستهدف جسد الفرد داخل منزله

الزمن اللامتناهي للتصوير الذي تخلقه كاميرا المراقبة ولحظات ما قبل الانفجار، تركنا أمام رعب اللامتوقع، الثواني المعدودة تمتدّ وقلب المشاهد ينكمش أمام الخوف، أمام العنف الهائل الذي يستهدف بدقة جسد الفرد في أشد الأماكن أمناً، في منزله. تلتقط الكاميرا ما لا نراه إلا في العنف السياسي، تُكدّس المكان ضمن لحظة واحدة، ليعود بعدها وينتشر بدون أي نظام مسبق.

لحظة انهدام "الداخل" ثم الانفتاح لتختلط المكونات، هي لحظات يفقد فيها الجسد البشريّ ثباته على الأرض وتماسكه، تتكشف هشاشته أمام عنف السلطة، وعدسة كاميرا المراقبة شديدة الحياد، لا تهتز، لا تتحرك، تحدّق بأثر الجريمة على "الداخل"، وكيفية انتهاكها لتكوين الأفراد ومنازلهم، ثم تركهم عرضة للـ"خارج" بكل عنفه ولا ثباته.

صورة المقال من تصوير مصطفى عبد الواحد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image