يلتقي التراث الأدبي لأمة ما بمفهوم "الكلاسيكي"، بالرغم من الاختلافات بينهما إلا أن لهما نفس الخصائص: للاثنين بعد تعليمي وثقافي، يجدر بنا إقحامهما في معركة الهوية والأصالة. ما يميز التراث الأدبي أيضاً احتواؤه مسؤولية حواس متعددة، لا ترتبط فقط بالقراءة واستنباط العبر، هو كائن تعليمي وأخلاقي وناقل متعدد الطبقات لإرث خيالي وموجود بنفس القوة، ويطرح بالتالي سؤالاً هاماً: كيف نتفاعل مع تراث أدبي كتب قبل أكثر من ألف عام؟ كيف نشركه في ورطة "الحداثة" والمعاصرة" لاستخراج "هوية" ما نقدمها للأجيال الجديدة، كعلامة جاذبة، تستحق أن نقتنص منها مادة فنية وأدبية تكون ملاذاً من "عماء" الماضي ورفضه بكليته أو قبوله بكليته، في الآن وهنا؟
يسعى مشروع المكتبة العربية في جامعة نيويورك أبو ظبي لإنشاء مكتبة كبرى تشكل مرجعاً قيماً للأدب العربي من العصر الجاهلي إلى عصر النهضة باللغتين العربية والإنكليزية
ذائقة متجددة وسياقات معاصرة
من سؤال التراث والقصص التي كتبت قبل أكثر من ألف عام، تنطلق سلسلة من الكتب، تحت عنوان سلسلة الأدب للناشئة تصدرها المكتبة العربية للأدب في جامعة نيويورك أبو ظبي The Library of Arabic Literature، لتعيد اكتشاف التراث العربي وتقديمه للأجيال الجديدة، برؤية بصرية غرافيكية أخّاذة، وباختيارات مدروسة ومدهشة.
حياكة الكلام... منازل الخيال
يأتي الكتاب الأول في السلسلة نحن عنوان "حياكة الكلام: اللهفة والصدفة والخيال في كتاب الفرج بعد الشدة، ونشوار المحاضرة" للقاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي (تـ. 384هـ/994م). باختيار من بلال الأورفه لي وإيناس خنسه، أستاذي الأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، وتصوير جنى طرابلسي وتحرير البروفيسور فيليب كينيدي، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك أبو ظبي.
القصص التي اختارها الأستاذان، أورفه لي وخنسه، بنيت على ثلاثة محاور، تم تصنيفها على أساس العلاقات المتنوعة التي تبديها هذه القصص والخيال المدهش الذي يتراوح بين الواقعي المبالغ به والبلاغي. قصص تتجاوز مفهوم "الحكمة" النهائية المستخلصة من تجارب شخص أو مجموعة أشخاص، وتبتعد عن الحبكة المعتادة لكتب التراث لنصل إلى معطى إيماني مثلاً أو تسليمي.
القصص تهدف لرسم "مكان" وتخيّله والسكنى فيه أيضاً، بمزيج عجائبي وغير متوقع ومثير، يدعو، كما هي العادة في كتب مماثلة، لمكارم الأخلاق والرفق بالناس والتسليم بالقضاء والقدر، لكن عبر رسم ثري لفضاء الحكاية، تهيئة المجلس لها ثم سردها بهيئة ممتعة، يمتزج بها السرد الواقعي بلامعقولية الحدث، لإنتاج نص قابل للقراءة من جديد، بل وطريف ومدهش أيضاً.
الكتاب الثاني: مخازن النفس
يأتي الكتاب الثاني بعنوان "لماذا اشتدّ عشق الإنسان لهذا العالم"، وهي مختارات من كتاب "الهوامل والشوامل"، أعدها واختارها الأستاذان، بلال الأورفه لي وإيناس خنسة، وتصوير ورد الخلف، وهو مراسلات بين أبي حيان التوحيدي وأبي علي مسكويه على شكل أسئلة، يسألها الأول فيجيب الثاني.
يتضمن المحور الأول والثالث من الكتاب أسئلة عن قضايا تشاكل الإنسان في يومه، ويمكن اعتبارها من أوائل محاولات الإجابة عن أسئلة علم النفس: عن النهايات والشيخوخة، الغضب والضجر، الاختيار والجبر، التذكير والتأنيث والعديد من المسائل التي تمزج الإجابات على أسئلتها ببين اليقين بالله ومقاربة التفكير العقلاني، أو ما يُظن في تلك الآونة أنه كذلك، لكن المقاربة العقلانية والتساؤل الحذر في طبيعة الفكر الإنساني وجدليته دون الابتعاد عن فكرة الخلق الإلهي، تشكل، إضافة لبلاغتها الماكرة، جانباً مهماً من الأسئلة التي كانت تتصارع في نفوس المفكرين والعلماء آنذاك.
بينما يتضمن المحور الثاني نصوصاً تحاول تبرير مجموعة من المشاعر الإنسانية التي يختلف فيها الأشخاص، بين حب المعرفة والسفر لطلب العلم، الأمل، الإلفة، العشق والنقصان وعشق الإنسان للعالم وطلب الاستزادة في الأعمار، في بلاغة مدهشة ومحاولة متقدمة لسبر أغوار النفس البشرية.
يمكن الاستماع إلى عدد من قصص السلسلة في SoundCloud، ضمن بودكاست المكتبة العربية (الرابط).
الكتاب الثالث: في الجنون والحرية
الكتاب الثالث في السلسلة يأتي بعنوان "ما لذة العشق إلا للمجانين"، وهو مختارات من كتاب "عقلاء المجانين" لأبي القاسم النيسابوري، اختارها بلال الأورفه لي وموريس بومرانتز، وشاركت في التحرير إيناس خنسة، وتصوير ورد الخلف.
يتناول الكتاب قصصاً وأحاديث في المجانين وأخبارهم، والجنون وتعريفاته، فنحضر قصص مشاهير المجانين من الحب والشغف وما جرى على ألسنتهم من أشعار ومقولات، أصبحت خالدة في التراث العربي، كهذا البيت على لسان أحد المتولّهين حباً: لو صاح إنسانٌ لشدّة حبّه/لملأتُ بين الخافقين صياحا.
كما يتضمن بحثاً لغوياً شيّقاً في كلمات الجنون والجنّة في العربية وأصلها، وكما يبدو، أن هناك العديد من المفردات التي تشير إلى أنواع مختلفة من الجنون، فرّق بينها العرب وأعطوا كلاً منها اسماً وصفات متباينة، وهذا أيضاً يطرح فكرة جديرة بالدراسة عن الجنون وعلاقته بالإبداع، الوحي والإلهام، عند العرب، قبل الإسلام ومع بدايته.
الجمال المخفي
من أسئلة البداية التي تفتتح بها السلسة مشروعها إلى رغبة المحررين باختيار قصص من التراث تظهر أنه حافل بمفاجآت مسكوت عنها، يجب أن يبقى ضمن الوعي الثقافي والمعرفي للأمم المشاركة فيه، فالتراث لا يضم فقط كتب الفقه والتفاسير، بل ثمة متسع رحب فيه لأعمال الخيال ومفاعيل الجمال الثرّ، وإن كنا قد صرفنا النظر عنه مؤقتاً بسبب الأوضاع السياسية والثقافية المتدهورة في القرنين الماضيين، فلا يجب أن ننسى أنه جزء من هويتنا المعرفية يصحّ الاتكاء على بعض مما جاء فيه، برؤية جديدة ونظرة تفاعلية، تجعلنا ننظر بعين الرضى إلى ما دوّنه أولئك الأجداد، الذي انصرفوا إلى اهتماماتهم الفكرية، ليكتبوا لنا ما يجعلنا الآن وبعد أكثر من ألف عام، نبتسم ربما، نضحك، نندهش نكتشف ونعيد الاكتشاف، ونؤمن أن تراث الأمم لا يفنى.
"كيف يمكن أن نتفاعل مع قصص كتبت قبل ألف عام؟ وكيف يمكن إعادة صياغة البنى الجمالية والأدائية في النصوص الأدبية بصرياً؟"
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 16 ساعةمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي