عندما اندلعت الاحتجاجات المطلبية الشعبية في بيروت لليوم الثاني على التوالي، في 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، قرّرت تجاهل خوفي من العمل الصحافي الميداني في لبنان، والنزول لميادين التظاهر. كان سبب حالة قلقي الدائمة التي عشتها هناك أنني لا أملك إقامة أو حق العمل في ذاك البلد، فقط لأنني أحمل الجنسية السورية.
بعد ساعات، اتصلت بي والدتي المقيمة في سوريا، اضطررت للردّ حتى لا تظنّ أني أصبت بأذى: "ابني … ما تحكي بالسوري وأنت هنيك".
الشامتون بكارثة بيروت في خندق واحد مع من يظنّون أنهم استوجبوا تلك الشماتة.
نعم. أقْلق أمي أن يعرف من في محيطي أنني سوري، فيعرّضني ذلك لخطرٍ يفوق خطر القنابل المسيلة للدموع التي انهمر وابل منها على المتظاهرين دونما تفرقة، أو خطر التعرّض للاعتداء الجسدي العنيف من قبل القوى الأمنية ومكافحة الشغب، الذين لم يتوقفوا لسؤال ضحاياهم عن جنسيتهم، قبل أن ينهالوا عليهم ركلاً وضرباً بالأيادي والعصيّ.
لم يكن خوف أمي غير مبرر. كان خوفي أيضاً بالدرجة الأولى ناتجاً عن ظروف إقامتي غير الشرعية التي اضطرتني إليها الظروف، كما هو حال مئات آلاف السوريين. التعرض للضرب يعني التعافي منه لاحقاً، والغاز المسيل للدموع لن يقتلني، لكن اعتقالي يعني ترحيلي إلى سوريا التي كنت قد غادرتها فارّاً.
لم أكن لأتوقع ردّي على أمي قبل وصولي إلى ساحة رياض الصلح ببضعة ساعات: "إلي تلات سنين ببيروت وهي أوّل مرة بحس فيها بإنو ما في مشكلة بكوني سوري".
نعم، كنت قد تكلمت مع عدد كبير من المتظاهرين، بلهجتي نفسها، كما أنا، مزيج من دمشق وحلب، ولاحظت أن أحداً منهم لا يكترث عند سماع اللهجة، وهو ليس ما اعتدت عليه في لبنان، إذ لطالما طلبت من زميلاتي من أميركا أو بريطانيا بالحديث للمصادر اللبنانية، لأن الكثير منهم لا يبدي رغبة بالتحدث معي أو بالنظر إلي كصحفي جدي يعمل في وسائل إعلام دولية.
بعد ذلك بأسابيع، بدأ بعض المشاركين بالانتفاضة الشعبية بتنظيم حلقات لمناقشة أبرز القضايا الشائكة في لبنان، فتمّ تخصيص ساعات وأيام للحديث عن قضية النزوح السوري، وسوء المعاملة التي يتلقّونها من قبل الأمن العام، البلديات، السلطات والكثير من الناس. كذلك كان الأمر بالنسبة للاجئين الفلسطينيين والعاملات المنزليات الأجنبيات.
بتُّ أرى في لبنان، وعلى نطاق أوسع من العاملين في منظمات المجتمع المدني التقدّمية فقط، من لا يستطيع أن يقاوم ويناهض العنصرية فحسب، بل أن يثير في نفسي رغبة أكبر بلعب دور بنّاء في هذا النضال. في أرجاء الساحات والشوارع، كان هنالك سوريون يقدمون العون للبنانيين، منهم من تطوّع لتنظيف الساحات، ومنهم من تبرّع لمجالسة أطفال المحتجّين والمحتجات في المنزل، ومنهم من تبرع بالماء والمأكولات للمتظاهرين. أحد المحتجين الذين تكلّمت معهم، أوضح لي أنه يدرك أنني سوري، من خلال الإشارة إلي بسبّابته في معرض حديثه إلى أن لامست وسط صدري: "نحنا هون كمان لنقول إنّو مش السوريين هنّي سبب مشاكلنا متل ما الزعما بيقولوا".
يبدو فعلاً للوهلة الأولى أن "السوريين" شامتون ويتلذذون بمصاب لبنان، لماذا؟ لأنهم مثل العنصريين في لبنان تماماً، الأكثر ضوضاء والأكثر فجاجة
يوم الثلاثاء، 4 آب/أيلول 2020، أرسلت لي صديقة سورية فيديو يظهر تفجيراً ضرب مرفأ بيروت، وقالت لي: ألم تسمع شيئاً. بعد دقائق، أرسلت لي تسجيلاً يرتجف فيه صوتها، إذ تبذل جهداً حتى تتنفس وتتكلم: "أنا حيّة… شقتي بكاملها دُمرت… لا أبواب ولا نوافذ فيها… لكنني حية… أردت فقط أن أُطمئنك"، قالت لي بنبرة متقطّعة أثارت الذعر في قلبي.
ثم رأيت مقاطع الفيديو التي أظهرت التفجير الثاني وبدأت باستيعاب ما حصل. قضيت ساعات من القلق والهلع وأنا أحاول التواصل مع أصدقائي من مختلف الجنسيات للاطمئنان عليهم. بدأت النظريات والأخبار التي كان معظمها غير دقيق، بالانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي على ناطق واسع جداً، فاخترت ألّا أشارك جوقة المنظّرين، بل أن أشارك شيئاً أكثر إفادة: نداءات عناوين وأرقام التبرع بالدم، نصائح ونداءات الصليب الأحمر، روابط لتقديم العون المالي استجابة للكارثة... وكذلك فعل الكثير من السوريين كغيرهم من الناس.
رد الفعل كان مستغرباً
"أنت أيضاً تركب الموجة"، "سبحان الله! ما سر هذا التعاطف مع اللبنانيّين؟"، "كل الشعب السوري أضحى لبنانياً، يا سلام"، "أين كان كل هذا التضامن حين كانت حلب تحترق؟"، "طبعاً، تشتاقون للانحلال الأخلاقي والحانات والملاهي الليلية في بيروت"، وبالتأكيد كان هناك: "لم أر لبنانياً واحداً تضامن مع الشعب السوري" و"ألم تروا ما فعل اللبنانيون باللاجئين السوريين… نحن الّذين استقبلناهم في بيوتنا عندما نزحوا" وغير ذلك. بعض التعليقات استخدمت شتائم وتشابيه بحق اللبنانيين لا تليق بهم ولا يجوز تعميمها على حملة جنسية أو سكّان بلد قاطبة.
شكراً لكل من لقنني درساً عن العنصرية ضد السوريين في لبنان. دعوني أخبركم أنّني محيط بواقع الظاهرة جيداً. شعرت بتلك العنصرية عندما أبرزت بطاقتي الصحفية المماثلة لبطاقات زملائي، لكنني كنت الوحيد الذي مُنع من دخول مؤتمر صحفي لأحد المسؤولين السياسيين، فقط لأني ألقيت التحية على من يحرس المدخل باللغة العربية وبلهجتي. شعرت بها عندما رفض البعض أن استأجر منهم لأنني سوري، وقبول إحدى مالكات البيوت على شرط ألا أشتري من الدكان المجاور للبناء، لأنها تخشى أن يعلم أهل الحي أنها أجّرت سورياً. تذكرتها كل يوم، إذ تنتابني عند رؤية حاجز مُفاجئ (طيّار) أو مجموعة من عناصر الأمن في الشارع.
ينبغي التأكيد على أن ردود فعل معظم السوريين، وجميعهم يدرك جيداً أن هناك معاناة إنسانية في بلادهم أيضاً، خلاف ما يتهمهم به البعض، كانت إيجابية جداً. تعاطف الآلاف منهم على وسائل التواصل الاجتماعي، مع كل لبناني وسوري أو أي جنسية أخرى، قُتل أو جُرح أو خسر منزلاً أو عملاً بسبب هذا التفجير المريع، أو أصابت البلية أحد أصدقائه أو أفراد أسرته. بين أولئك السوريين من عاش في بيروت ويعرف مشقّة الحياة فيها، خصوصاً كلاجئ أو كسوري (أو الاثنين معاً)، ومنهم من له فيها أقارب وأحبّاء، ومنهم من يكفيه أن يدرك أن طامة إنسانية كبرى حلت ببلد منهك أصلاً، ليعرف أين تطلب منه أبسط معاني الإنسانية أن يقف.
كذلك الحال بين العنصريين في لبنان: قطعاً ليسوا الأغلبية من الناس. هناك في لبنان تركيبة نوعية تسمح لمن لديه ميول عنصرية بأن يرتديها علناً، كما يرتدي ملك ثوبه الأرجواني
ولكن رغم ذلك، يبدو فعلاً للوهلة الأولى أن "السوريين" شامتون ويتلذذون بمصاب لبنان، لماذا؟ لأنهم مثل العنصريين في لبنان تماماً، الأكثر ضوضاء والأكثر فجاجة. لن ينجح ألف سوري في ألمانيا بتحسين صورة اللاجئين أو طالبي اللجوء، بقدر ما سيستطيع سوري واحد يرتكب فعلاً شنيعاً بتشويه صورتهم. كما يحتاج مجتمع اللاجئين بذل أعتى الجهود لتبرئة أنفسهم من جريمة اغتصاب أو سرقة ارتكبها أحد باسمهم.
كذلك الحال بين العنصريين في لبنان: قطعاً ليسوا الأغلبية من الناس. هناك في لبنان تركيبة نوعية تسمح لمن لديه ميول عنصرية بأن يرتديها علناً، كما يرتدي ملك ثوبه الأرجواني. هناك سياسيون ومسؤولون كبار يرون في العنصرية ضد السوريين وغيرهم من الفئات المستضعفة، مخرجاً سهلاً يقيهم عناء مواجهة أخطائهم، فيشجّعون إلقاء اللوم على اللاجئين. معظم اللبنانيين أبرياء من العنصرية الملصقة بهم، براءة معظم السوريين من إلقاء البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية أو قطع الرؤوس.
الشامتون بكارثة بيروت في خندق واحد مع من يظنّون أنهم استوجبوا تلك الشماتة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...