شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"هاي الجمّيزة"... لحظات هائمة بين طهران وبيروت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 6 أغسطس 202004:07 م

"هاي الجمّيزة"؛ هكذا علّق الرّجل بعد أن مرّت الكاميرا على حطام في الشّارع لعدّة ثوان. كان هذا الفيديو الثاني الذي وصلني بعد فيديو الانفجار في بيروت. وسط كثير من الرّسائل التي كنتُ أرسلها لأطمئن على حال الأحبة في بيروت، وكمّ هائل من الرسائل الأخرى التي كانت تصلني من صديقات وأصدقاء إيرانيين يسألونني عن حال أصدقائي هناك، ويعبّرون عن أسفِهم، عدتُ وشاهدتُ الفيديو لمرّات أخرى.

كتبتْ صديقتي في طهران:"أنتِ أمام عينيّ الآن أكثر من أي وقت آخر. كنّا نفكر أن نقضيَ ليالي مقمرة معاً هنا. هل تتذكرين؟". فشاهدتُ الفيديو ثانية. كتبتْ أخرى من أمريكا: "في هذه الأيام المليئة بالحزن والدخان، أفكّر بك". ومرّت صورة الشارع في الفيديو أمام عيني دون أن أفتحه.

كنتُ في طهران، وفي نفس الوقت جزءاً من دمار أصاب بيروت. ربما لم أعِ الأمر هذا، فالحزن كان أشدّ طغياناً من أي شعور آخر في تلك الساعات، لكن هذا هو ما أشعرَني به أصدقائي وصديقاتي هنا وهناك. صديقتي اللبنانية المقيمة في أوروبا، بادلتني المشاعرَ، وقالت: "تحطّمت تلك البيوت التي تحبينها يا مريم!". وكتب صديقٌ من أقاصي الأرض: "لنا مريم واحدة نعرف بيروت بها. كوني بخير!".

في الردّ على جميعهم وعلى كلّ هذا اللطف كتبتُ بعض الجمل المقتضبة، ومن قلب طهران سلكتُ ذلك الطريق الذي كنتُ أسير فيه مشياً على الأقدام من البيت إلى المكتب في بيروت، مروراً من أمام شارع "الجميزة" الجميل.

كنتُ في طهران، وفي نفس الوقت جزءاً من دمار أصاب بيروت. ربما لم أعِ الأمر هذا، فالحزن كان أشدّ طغياناً من أي شعور آخر في تلك الساعات، لكن هذا ما أشعروني به أصدقائي وصديقاتي هنا وهناك

سرتُ هناك وأنا أحاول أن أسند زهرة الأوركيد إلى عمودٍ رفيع، وأُطعم القطة تحت أغصان الشجرة خلف الشّباك المطلّ على الشارع. ثمّ وأنا أكتب لصديقة هناك: "ليتني هناك"، اشتريتُ أسطوانات فونوغراف قديمة لفيروز وصباح فخري برفقة أصدقائي ذات يوم أخير لي في بيروت من محلّ قديم في "الجميزة". جالسون ذات ليلة خريفية في مطعم في وسط الشارع. أمامنا في الجهة الأخرى من المطعم كثير من الأجانب يلتقطون الصور ويحدثون أصواتاً مبتهجة. فكرتُ أنني أحبّذ أن أسمع مزيداً من الضحك بالعربية هنا، ومسحتُ الطاولةَ دون أن تكون بحاجة إلى التنظيف. ثمّ وأنا أتناول الحبوب المسائية في المطبخ، وأنتظر أن يغلي الماء على النار من أجل قهوة بيضاء، همس الرّجل في أذني: "هاي الجمّيزة".

المدينة التي عشتُ فيها وتردّدتُ إليها عدّة مرات طوال هذه السنوات، والتي -أعي أنها- أنقذتني من السّقوط في هاوية الدّمار أكثر من مرّة، كانت الآن محطَّمةً شوارعُها وبيوتُها وشرفاتُها التي أحبّ. إنها المرة الوحيدة التي كنتُ ألعن فيها كورونا خلال الأشهر الأخيرة. كنت سعيدة أنني مضطرة إلى البقاء في البيت والعمل لساعات طويلة. لم أتذمّر ونظرتُ إليها كمرحلة ستمرّ، وحمدت الله على أنني ما زلتُ أستطيع لمسَ جلدِ الحياة. لكن هذه المرّة لا تسمح لي الظروفُ الكورونية أن أكون هناك. في بيروت. إلى جانب كلّ الأناس الرائعين الذين أعرفهم ولا أعرفهم في مدينتي الصغيرة الفاتنة.

أترك النصّ. أترك هذه الغرفة. أذهب إلى الصالة الصغيرة، وأنظر إلى علَم لبنان الصّغير الذي التقطته من الأرض في "الجميزة" ذات ليلة من ليالي الثورة في لبنان. أنظر إلى العلم، وينظر إليّ، ويقول: "هاي الجمّيزة"

صديقتي التي تأخرتْ حتى كتبتْ لي اليوم، عبّرت: "كنتُ أخشى سماعَ خبرٍ سيء إن كتبتُ لكِ". عبّرت. التعبير. أن نعبّر. أن نقول ما حدث ويحدث كما هو. ويطلّ فالتر بنيامين ثانية على نصّي بأفكاره عن الدّمار. دمار المُدن. دمار النّصوص. أن يكون كلّ ما نعبّر به عن الدّمار، مدمّراً، وألا تكون الاستعارات والتماثيل إلا صورة مدمّرة لنصّ سليم عن الدّمار. أن يكمن الجمالُ في حطام ما نكتبه عن الحطام. كأني لا أستطيع حتى أن أكتب نصّاً محطّماً كما ينبغي. أصفّ الكلمات والصّور جنباً إلى جنب في قلب طهران لأكتب عن دمار في بيروت. نصّ سليم له شروق وأفول؛ له شوارع مبلّطة وعابرون يسيرون بطمأنينة نحو وجهاتهم؛ نساء ورجال ينتظرون القهوةَ والخبزَ في طوابير قصيرة، ويعرفون أنهم سيحصلون عليهما بعد دقائق دون أن يهبط عذاب مباغت؛ نصّ له يدان سليمتان وقدمان متينتان وعينان بصيرتان وذاكرة تبدو أنها شفافة ولامعة، لكن الذكريات تخيّم عليها مثل دخان حارق، فتشلّ رشاقتها.

أترك النصّ. أترك هذه الغرفة. أذهب إلى الصالة الصغيرة، وأنظر إلى علَم لبنان الصّغير الذي التقطته من الأرض في "الجميزة" ذات ليلة من ليالي الثورة في لبنان. أنظر إلى العَلَم، وينظر إليّ، ويقول: "هاي الجمّيزة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image