"الاعتداء على القيم العائلية"، "القيام بأعمال منافية لقيم ومبادئ المجتمع المصري"، "الإتجار بالبشر"، "التحريض على الفسق والفجور"... هذه اتهامات وُجّهت لعدد من الفتيات المصريات صانعات المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن يُحكم عليهم بالسجن لمدة عامين وأكثر مع غرامات مالية مرتفعة.
راكبو الدبابات
مرّت ست سنوات على وصول "ديكتاتور ترامب المفضل" إلى السلطة، حقق خلالها عدة "إنجازات" تُحسب له ولفريقه مثل تحويل مصر إلى واحدة من أكثر دول العالم مديونية، وبناء قصور رئاسية ومدن أشباح وسط الصحراء، وزيادة يومية في نسبة الفقر، وفرار المستثمرين وحرب غير منتهية ضد الإرهابيين في سيناء.
ومثل أي ديكتاتورية عسكرية أخرى، لا تملك السلطة المصرية فكرة عن التخطيط الاستراتيجي. وبدون أي حلول حقيقية لبناء الدولة وحل المشاكل الاقتصادية إلا بسياسة الاقتراض والمساعدات المالية، سيفتح هذا النظام صندوق باندورا في محاولة لإيجاد حل يساعده على توجيه تركيز الشعب عن الظروف الاقتصادية والمعيشية السيئة التي يمرّ بها.
ومثل أي نظام شمولي آخر، يلعب النظام المصري بورقته الوحيدة وهي الدين والفضيلة، وهي ورقة أثبتت على مدار السنوات السابقة أنها جوكر الفكر القمعي، يرميه المتسلّط كلما وجد نفسه محشوراً في زاوية.
متلازمة حساسية الطهارة والأخلاق
معظمنا يعرف حساسية المجتمع العربي عندما يتعلق الموضوع بالقيم الإسلامية والمجتمعية وحماية الفضيلة و"الطهارة" و"الشرف"، حتى أصبحت هذه الحساسية بمثابة مطية مربحة للديكتاتوريات العربية، كلما تبدأ الأمور في الانهيار.
ومثل كل حملة تطهير، يبدأ الأمر بحالات فردية ثم تتوسّع عندما لا تجد مَن يوقفها في مجتمع مشغول بتأمين لقمة عيشه. بدأت الحملة الحالية قبل وقت ليس بقصير ولم تبدأ مع "فتيات التيك توك". كلنا يتذكّر الهجوم على فستان الممثلة رانيا يوسف الذي ارتدته في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. اضطرت الممثلة لتقديم اعتذار عام، مع بيان رسمي ومقابلة تلفزيونية. أُجبرت تحت سلطة الترند والبيانات الموجهة للنائب العام على الاعتذار لمجرد ارتدائها فستاناً قصيراً. استمر هذا النقاش لما يقرب من 10 أيام على التلفزيونات الوطنية والبرامج الحوارية المصرية رغم كل ما يمرّ به اقتصاد مصر من مصائب.
لم تتوقف مساعي "نشر الفضيلة" من خلال المراقبة والملاحظة لأي "سلوك سيئ" بناءً على معايير قلة قليلة من المحامين الباحثين عن الشهرة والذين يركزون على أي قضية إشكالية ويسارعون بها إلى النائب العام.
لا للأولويات
عشرات الدعاوى القضائية والترندات المعدة والمنظمة ظهرت خلال الأشهر الماضية بحق صانعات محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي أو على شابات عاديات يعشن فترة شبابهنّ، لمجرد ربما إصدار بيان يدعم مجتمع LGBTQ، أو لنشر فيديو على منصات تواصل اجتماعي أو ربما للظهور بملابس "غير مناسبة" في حدث خاص أو حفلة أو على شاطئ البحر.
وكل مرّة، تنشغل "أم الدنيا" بالحدث ويتحوّل حديث الناس اليومي وبرامج التوك شو إلى ما يشبه صحافة الفضائح.
محاكم عشوائية تقام بحق فتيات ونساء لمجرد تلفظهن أو ظهورهن بشكل لا يتناسب مع عقلية بعض الذكور الموتورين الذين عيّنوا أنفسهم حراساً للفضيلة في مجتمع مليء بالتناقضات والكيل بمكيالين بحق النساء
في نفس الوقت الذي تُقدَّم فيه البلاغات، تواجه المستشفيات المصرية نقصاً شديداً في الاحتياجات الطبية الأساسية مثل الأقنعة والقفازات الملابس الواقية من فيروس كورونا، وبحسب حديث ممثل منظمة الصحة العالمية في مصر، وصلت نسبة الإصابات في الكوادر الطبية المصرية إلى 13% من مجمل الإصابات في البلاد.
انتشار الفقر وارتفاع المديونية وتخبط القرارات الحكومية وعشوائيتها لم تمنع بعض محامي الشهرة من التصيد في الماء العكر والترصد للفتيات الشابات بحثاً عن صورة تظهر أجزاء من الجسم أو فيديو رقص لفتاة تحاول فقط العيش مثل فتيات جيلها، والإسراع بها إلى النائب العام ببلاع تشبه صيغته نشرة إعلامية لحركة طالبان.
من أين تبدأ الحكاية؟
إشعار موجَّه إلى المدعي العام ضد فتاة تستخدم تطبيق تيك توك لنشر مقاطع فيديو وصور مخلة بالآداب. عندما تقرأ الخبر للوهلة الأولى، تشعر أنه واحد من ملايين الأخبار المزيفة التي تنتشر على الإنترنت، ولكن الخبر يُتداول على نطاق واسع في وسائل الإعلام ذات المصداقية.
وتبدأ الأخبار تتوالى عن بدء حملة لأجهزة الأمن المصرية للقبض على الفتاة المبلّغ عنها. وتتوالى البلاغات على فتيات في العشرينات من العمر لمجرد نشرهنّ صوراً أو فيديوهات لم تعجب أحدهم على تيك توك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، بتهم فضفاضة مثل الترويج للإباحية وخدش الحياء العام مع دعم البلاغ بمواد من القانون المصري تتحدث عن مكافحة الدعارة!
حراس الفضيلة
تهم فضفاضة وتحمل عشرات التأويلات، مثلما كان النظام السوري يستخدم تهم المس بهيبة الدولة ووهن نفسية الأمة للقبض سنوياً على عشرات الناشطين قبل تحويل خطه إلى "مكافحة الإرهاب" بعد الثورة.
محاكم عشوائية تقام بحق فتيات ونساء لمجرد تلفظهن أو ظهورهن بشكل لا يتناسب مع عقلية بعض الذكور الموتورين الذين عيّنوا أنفسهم حراساً للفضيلة في مجتمع مليء بالتناقضات والكيل بمكيالين بحق النساء.
فبينما كانت جرائم التحرّش الجماعي بفتيات المنصورة وغيرهن ماثلة أمام أعين الجميع، كان التلفزيون الرسمي والأبواق الإعلامية يتكفلون بتحميل الضحايا المسؤولية إما بإلقاء اللوم على لباسهن أو على خروجهن ليلاً بشكل فردي، وكأنّ مصر غابة يعيش فيها الذئاب الأقوياء فقط وذوو الجبروت.
دول المواطنين السمر
تخيّل أن تقضي عمرك في عالم شرق أوسطي ابتليت فيه بأنظمة حكم لم تتغيّر عليك منذ الولادة، وأجهزة أمن تعرف عنك ما لا تعرفه عن نفسك. تخيّل أن تقضي حياتك مكمم الفم سياسياً وثقافياً، يُسمح لك بما يرضى عنه الحاكم ويُمنع عنك ما لا يرضى عنه الحاكم الذي سيجلس على كرسي الحكم حتى وفاته.
مجموعة ذكور بطريركيين يخشون على قيم أسرية هي من الضعف والعجز بحيث يمكن أن تفككها وتعتدي على قيمها فتاة تنشر بضعة فيديوهات على موقع تواصل اجتماعي
وفوق ذلك كله، يظهر بعض الأشخاص المجرّدين من أي معرفة هامة، ويستغلّون القوانين الفضفاضة ليمارسوا محاكم تفتيشهم عليك وعلى أصدقائك، تارةً بحجة الملابس وتارة أخرى بحجة الألفاظ المغرية، رغم أن جزءاً واسعاً من أبناء عالمنا العربي يقيم في دول الشمال الأوروبية بفعل اللجوء والهجرات، هرباً من أنظمة القمع، ولا تُثار غرائزهم كلما شاهدوا فتاة ترتدي "ملابس فاضحة"، كما يسميها محامو النفاق.
ظلم ذوي القربى
خلال الشهر القادم ربما أو ما يليه، ستحكم محكمة الاستئناف بقضايا فتيات التيك توك بعد حكم المحكمة الأولية. وحتى لو حكمت المحكمة ببراءة الفتيات، فأي مستقبل ينتظرهنّ في مصر؟ أو لنسأل أي واقع حالي سوف يعشنه عند خروجهنّ من المعتقل وسط مجتمع جزء منه ما زال يؤمن بالذبح لغسل عار الشرف وجزء آخر يقضي جلّ يومه يشتم ويكفّر غيره.
قد تحكم المحكمة ببراءة الفتيات بعد أن أصبحت قضيتهنّ قضية رأي عام، وربما تتدخل بعض دول غربية وتنتهي القضية، ولكن السؤال الحقيقي هو لماذا تمّت ملاحقة الفتيات مثل ملاحقة قطاع الطرق؟ لماذا حكمت المحكمة الأولية عليهن بدليل جنائي يحتمل التأويل أكثر من مئة مرة؟ لماذا أخذت المحكمة بادعاء محامٍ يجمع من العقد النفسية بقدر ما تجمعه مصر من مشاكل اقتصادية؟ ولماذا تناست أو تجاهلت حقّهن كفتيات بحرية عيش أسلوب الحياة الذي اخترنه؟
هي ثقافة قندهارية تعامل الأنثى كتابع وتلميذ لمعلمي الفضيلة.
صراع الثقافات
حنين حسام، منار سامي، مودة الأدهم، مي محمد وأخريات، يحاكمن ويُشهَّر بهنّ علانية كما في محاكم القرون الوسطى، مع استخدام مفردات تربطهنّ بالتعري وإثارة الغرائز الجنسية ونشر محتوى منافٍ للأخلاق.
إنها الأخلاق التي يحددها بعض القضاة والمحامين الذين تناسوا وتجاهلوا العشرات من معتقلي الرأي والمسجونين بدون محاكمة أو تهم، وتسلطوا على بضع فتيات لتشويه سمعتهن والتربح منهن والحصول على شهرة بنيت على جثة القانون.
مجموعة ذكور بطريركيين يخشون على قيم أسرية هي من الضعف والعجز بحيث يمكن أن تفككها وتعتدي على قيمها فتاة تنشر بضعة فيديوهات على موقع تواصل اجتماعي.
قد يظن البعض أن الموضوع سخيف أو لا يحتمل هذه الضجة الإعلامية، لكن ما يحصل اليوم في محاكم مصر التي برّأت وزير الداخلية في نظام مبارك وباقي أركان النظام السابق من تهم الاختلاس والقتل هو جزء من معركة بين ثقافتين: ثقافة الحياة وثقافة الموت. وإنْ كانت المحاكم تمثّل طرفاً، فهو بالتأكيد ليس ثقافة الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...