شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أنا أم لطفل مصاب بالتوحّد… ولم يحرق قلبي إلّا المتنمرون

أنا أم لطفل مصاب بالتوحّد… ولم يحرق قلبي إلّا المتنمرون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 29 أبريل 202002:20 م

إذا كانت الجنة تحت أقدام الأمهات، فكم جنة يجب أن تكون تحت أقدام أمهات الأطفال ذوي الهمم؟! الهمم والهموم على أنواعها وشدتها وعمقها، جسدية كانت، نفسية أو عقلية.

إذا كانت أم الطفل المعافى تعزي نفسها بعد التعب والسهر، أن ابنها سيكبر يوماً وسيبدأ بالاعتماد على نفسه بالتدريج، إلى أن يصبح إنساناً مستقلاً بشكل كليّ، فإن أمهات الأطفال ذوي الحالات الخاصة، يعرفن أن هذا اليوم سيتأخر حتى يأتي في الحالات الصعبة جداً.

هل تعرفون كسرة القلب؟! نعم... أنا متأكدة أنكم تعرفونها، فنحن جميعاً نعاني، وكلنا محملون بالآلام وخيبات الأمل، لكن ما لا أتمنى أن تجربوه، هو كسرة قلب الأم المضاعفة على أطفالها.

أنت لست فقط إنسانة محملة بأعباء الطفولة المريعة ربما، ولست فقط امرأة داس على قلبها من استطاع إليه سبيلاً، ولست فقط أمّاً تسهر وتربي وتحلم وتعمل وتبتلع دموعها. أنت فوق هذا كله ربما تكونين مثلي، أماً لطفل شخّص الأطباء حالته بالتوحّد، لذلك أعرف جيداً الليالي العصيبة التي تمرّين بها كأم، وأشعر بما تشعرين به عندما تتحدثين عن معاناتك وعن التعب والإرهاق وكسرة القلب.

هل تعرفون كسرة القلب؟!

نعم... أنا متأكدة أنكم تعرفونها، فنحن جميعاً نعاني، وكلنا محملون بالآلام وخيبات الأمل، لكن ما لا أتمنى أن تجربوه، هو كسرة قلب الأم المضاعفة على أطفالها.

كم هي ثقيلة الليالي التي يبكي فيها ابنك ويصرخ ولا تعرفين السبب، لا تعرفين كيف تخففين ألمه، في الوقت الذي ينهكه النعاس والتعب ولا ينام، وكم صعب أن يتأخر الأطباء حتى يشخّصوا الحالة، وكم هو صاعق وقع الخبر على قلب الأم حين ينطقها الطبيب أخيراً ويقول: ابنك استثناء... ابنك حالة خاصة، إنه التوحد.. ويتحطم قلبك ليصبح آلاف الأجزاء، ولن يكون بإمكانك الذهاب إلى سريرك لتبكي، ولن تتمكني من أخذ وقتك لاستيعاب ما يحدث، لأن ابنك بحاجتك، بحاجة دعمك كأم متماسكة قوية، وأي لحظة استسلام لن تكون بمصلحة ابنك، خاصة اذا كنت أماً منفصلة كحالتي.

تركنا والده منذ بدأ قلب إسماعيل ينبض في رحمي... إسماعيل، سميع الله، نعم لقد اخترت له هذا الاسم قبل أن أعلم أن جنيني ذكر، لقد رأيته في منامي بعد أن عرفت أنني حامل بأيام وناديته بهذا الاسم، وصدقت الحلم لا أدري لماذا، تركنا والده لأنه، على حد تعبيره، يريد أن يعيش حياته دون مسؤوليات، وربما صدمتي وحزني كانا من الأسباب التي ساهمت بإصابة ابني بالتوحد.

 ابنك استثناء... ابنك حالة خاصة، إنه التوحد.. ويتحطم قلبك ليصبح آلاف الأجزاء، ولن يكون بإمكانك الذهاب إلى سريرك لتبكي، ولن تتمكني من أخذ وقتك لاستيعاب ما يحدث، لأن ابنك بحاجتك، بحاجة دعمك كأم متماسكة قوية، وأي لحظة استسلام لن تكون بمصلحة ابنك، خاصة اذا كنت أماً منفصلة كحالتي

منذ ولادته كان شديد البكاء، أكثر من باقي الأطفال في مثل عمره. لا يحب الأصوات العالية ولا الأماكن المزدحمة، لا يستجيب لأي تفاعل، هذا بالإضافة إلى دخوله في نوبات غضب وبكاء غير مفهومة.

كان قليل الطعام، لا يأكل إلا بعض الأطعمة المحددة، وعشق أكل التراب والورق وأشياء غريبة أخرى، ذهبت إلى أطباءٍ كُثر لمعرفة سبب ما يحدث، إلى أن عرف أحد الأطباء أنه كان يعاني من نقص حاد في الحديد، ما جعله يشتهي الطين والتراب والورق.

حبيبي (سيمو) كما أحب أن أناديه، أيضاً عانى من ضعف الرؤية، وأيضاً تأخر الأطباء حتى اكتشفوا معاناته، وارتدى النظارة الطبية مبكراً، كما تأخر بالكلام، كان لا يتكلم سوى بضعة أحرف نسيها فيما بعد.

منذ لحظة ولادته الأولى وحتى الآن، هو شديد التعلق بي. فكرة غيابي عنه ترعبه وتعني له نهاية الكون، حتى أنه ممنوع على أي أنثى أخرى في العالم أن تحمل اسم رشا، واحدة فقط يجب أن تكون رشا، هي أمه، أنا... أم إسماعيل... لا تتخيلوا فرحتي أنني أمه... أم إسماعيل أنا وافتخر.

في يوم صيفي كنت أرافقه وهو يلعب مع أولاد الحي خارج المنزل، تركته بضع ثوان لأحضر بعض الحلويات للأطفال الذين يلعبون مع ابني، عدت حاملة الماء والسكاكر لأفرح قلوبهم الصغيرة، أولاً وقع نظري على لعبته ملقاة على الأرض وحدها بدونه، والأطفال الآخرون كانوا قد غادروا.

نعم اختطف ملاكي الصغير... كادت الصدمة تقتلني خوفاً على سيمو الذي بالكاد يمشي، ولست بوارد ذكر التفاصيل أو توزيع الاتهامات، لكني أعدته مقابل المال... ولا تسألوني عن أثر هذه الحادثة عليه ولو بعد مرور سنوات عليها، فقط تخيلوا.

الآن، بدأنا السنة التاسعة معاً. أيام طويلة مرت وتمر، أشعر أحياناً أنها لن تنتهي، خذلتني، كافأتني، أعطتني وأخذت مني، لكن لم يكسرني ولم يحرق قلبي إلّا المتنمرون... أرغب أحياناً أن أقف في الشارع وأصرخ: "هييييييه توقفوا عن التنمر! ربوا أولادكم! علموهم احترام القلوب! ودعوا ملاكي يعيش بسلام…"

الآن، بدأنا السنة التاسعة معاً. أيام طويلة مرت وتمر، أشعر أحياناً أنها لن تنتهي، خذلتني، كافأتني، أعطتني وأخذت مني، لكن لم يكسرني ولم يحرق قلبي إلّا المتنمرون... أرغب أحياناً أن أقف في الشارع وأصرخ:

"هييييييه توقفوا عن التنمر! ربوا أولادكم! علموهم احترام القلوب! ودعوا ملاكي يعيش بسلام…".

اليوم أكتب لأن سيمو يدهشني بتحسنه المستمر وتفاعله واستجابته، اجتزنا معاً الكثير من الحواجز الصعبة وسنبقى في مواجهة هذا التوحّد القاسي. أطلب من الله القوة حتى أكمل رحلتي معه لأتعلم منه وأعلمه، إسماعيل هذا الذي يلفني ويغمرني بحبه الذي لا ينتهي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image