شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"كورونا هدت كل حاجة"... انتكاسات تلاحق أطفال مصابين بالتوحد وأمهاتهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 27 يونيو 202004:00 م

"اتهمني إني السبب في مرض الولد، ورفض يصرف على علاجه، وكان دايماً يعامله باحتقار ويشتمه ويضربه ويضربني لو اعترضت، وبعدين يروح يكلم بنات عالفيسبوك، ما اتحملتش تصرفاته، اتطلقت، واهتميت بالولد واتحسن كتير، لكن الكورونا هدت كل حاجة"... تحكي أميرة عن معاناتها بسبب الإجراءات الاحترازية المصاحبة لانتشار فيروس كورونا وتأثيرها على عبدالله، طفلها المصاب بالتوحد.

التأثيرات التي طالت عبدالله، تمس مليون إلى مليون ونصف طفل آخر وأسرهم، وهو الرقم الذي أعلنته إنجي مشهور، مستشارة وزير التعليم لذوي الاحتياجات الخاصة، في 2019، عن عدد المصابين بالتوحد في مصر.

وصم وديون وانتكاسة

كان روتين حياة أميرة (29 عاماً)، المقيمة في الجيزة وطفلها ذي الأربع سنوات، يسير بانتظام، منذ طلاقها، وبداية رحلة تأهيل الصغير: يذهب صباحاً للحضانة، وتسرع هي صاحبة ليسانس الآداب لمصنع الملابس الذي اضطرت للعمل به، وفي الثالثة عصراً تصحبه للمنزل.

تحسن الصغير خلال عام ونصف من اتباع هذا الروتين، المصحوب بجلسات مع أخصائي نفسي، وأنشطة يقوم المختص والأم بتدريبه عليها، فبدأ بنطق بعض الكلمات بعد أن كان لا ينطق تماماً، وتحسن نومه، وبدأ ينام ليلاً بمساعدة الأدوية، وهدأت حركته قليلاً، وتباعدت نوبات صياحه وغضبه.

"صاحب المصنع طردني أنا وناس تانية من شهرين، بيقول مفيش طلب فمفيش فلوس للمرتبات، اضطريت أستلف عشان أعيش أنا وابني، بقيت عصبية ومش قادرة أستحمله، وشايفة كل جهدي بيضيع، الكلمات اللي كان بيقولها قلت، ورجع للصريخ والضرب والعض بعد ما كان بطل من سنة"

مع انتشار الفيروس، أغلقت الحضانة أبوابها، واضطرت أميرة لأخذه لمنزل والدتها صباح كل يوم، ليبقى حتى عودتها، ولكن أسرتها سرعان ما انزعجت من الصغير الذي لا يفهمونه ولا يقبلونه، ويبادلهم هو بالصياح والبكاء والعنف.

يتعرض المصابون باضطرابات طيف التوحد في كثير من الأحيان للوصم والتمييز وانتهاك حقوق الإنسان على نطاق العالم، ولا تتاح لهم فرص كافية للحصول على الخدمات، والدعم على الصعيد العالمي.

أقامت أميرة مع أسرتها عقب طلاقها، ولكن عدم تفهمهم لحالة طفلها وتعنيفه دفعها لاستئجار مسكن خاص، ورغم أن ذلك ليس شائعاً في مصر، فمعظم الفتيات يعدن لمنازل أسرهن في حال الطلاق، إلا أن أسرتها لم تعارض مقابل التخلص من الصغير.

"شفت كل جهدي بيضيع".

لم تطل حيرة أميرة كثيراً، تقول لرصيف22: "صاحب المصنع طردني أنا وناس تانية من شهرين، بيقول مفيش طلب فمفيش فلوس للمرتبات، اضطريت أستلف عشان أعيش أنا وابني، بقيت عصبية ومش قادرة أستحمله، وشايفة كل جهدي بيضيع، الكلمات اللي كان بيقولها قلت، ورجع للصريخ والضرب والعض بعد ما كان بطل من سنة".

تحاول أميرة الخروج بالطفل في محيط المنزل لتقلّل ملله وتوتره، توزع طاقته، وتردد ما كان يحفظه من كلمات وما كان يسمعه في الحضانة من سور القرآن وأغنيات الأطفال حتى لا ينساها، وإن لم تلق استجابة مرضية.

تظهر بعض علامات اضطراب طيف التوحد على الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة، مثل قلة الاتصال بالعين، أو عدم الاستجابة لاسمهم، أو عدم الاكتراث لمقدمي الرعاية، وقد ينمو أطفال آخرون بشكل طبيعي خلال الأشهر أو السنوات القليلة الأولى من عمرهم، لكنهم يصبحون فجأة انطوائيين أو عدوانين أو يفقدون المهارات اللغوية التي اكتسبوها بالفعل، وعادة ما تظهر العلامات عند عمر عامين.

"الأمهات محتاجين دعم نفسي"

تحاول سمر (34 سنة)، تجاوز آثار الحظر على طفلها مهاب، ذي الثلاث سنوات، رغم صعوبة ذلك.

في قريتها الصغيرة في محافظة الغربية، جهزت غرفة ألعاب وأنشطة لتقلل من تواجده أمام التلفاز والهاتف، بعدما عاد للتعلق بهما مؤخراً.

كان يوم مهاب ممتلئاً قبل انتشار كورونا، يذهب للحضانة صباحاً، بناءً على توصية أخصائية التخاطب، ثم يعود ظهراً للراحة والغداء، ويخرج مساءً لجلسة التخاطب، ثم يعود ليمارس بعض الألعاب والأنشطة، وكان مقرراً أن ينضم لتدريب السباحة هذا الصيف، إلا أن الفيروس لم يتح له تلك الفرصة، كما حرمه من الحضانة وجلسات التخاطب.

لا يتوفر علاج لاضطرابات التوحد حتى الآن، ولكن يمكن للتدخلات النفسية والاجتماعية، كأنشطة معالجة السلوك، أن تحد من المصاعب التي يصادفها الطفل في التواصل والسلوك الاجتماعي، وتؤثر إيجاباً في التعافي ونوعية الحياة، وفقاً للصحة العالمية.

مؤخراً تراجعت مهارات الصغير، فهو لا يتفاعل مع ما تردده والدته من آيات القرآن والأناشيد التي كان يرددها وقت الحضانة، ولتفادي نوبات الملل والغضب، يتجول مع والده في القرية من وقت لآخر، ولكن كلاهما يعود غاضباً، الطفل يصرخ لا يرغب بالعودة والأب منزعج بشدة لصراخه.

"كنت أتوقع الأسوأ".

سمر رغم كل ذلك راضية عن حالة طفلها، وكانت تتوقع الأسوأ، خاصة مع توقف الحضانة والتخاطب والمهدئات، وكانت تخشى أن يعود للعض وضرب رأسه بالحائط عندما يغضب، ولكن حتى الآن تراجعه محتمل ومفهوم بالنسبة لها، وتتمنى أن يستطيع تجاوزه لاحقاً.

رغم شخصيتها الهادئة والداعمة، تعاني سمر من ضغوطات كبيرة، تقول لرصيف22: "الموضوع محتاج صبر وطولة بال وجهد نفسي ومادي كبير، والأمهات بيتحملوا معظم الضغوط، والد مهاب مش مقصر معاه مادياً، لكن مايعرفش حاجة عن اللي بنعمله، ولا ممكن يطبق معاه نشاط، إحنا كأمهات محتاجين جلسات دعم نفسي".

بحسب تقرير نشرته الهيئة العامة للاستعلامات، يعاني مرضى التوحد في مصر من ندرة المراكز الطبية الحكومية المتخصصة، وارتفاع تكلفة العلاج في القطاع الخاص مع انخفاض الدعم الحكومي لهذا المرض الذي ينتشر بصورة متزايدة.

"ابني انتكس بعد العلاج"

تتمنى غادة (38 سنة)، أن تعود حياتها مع طفلها حسين، صاحب السبع سنوات والتوحد المتوسط، لسابق عهدها قبل كورونا، وتتشكك في قدرتهما على تجاوز الانتكاسات بعد انقضاء الأزمة.

تقول الأم لرصيف22: "قبل كورونا، كان بيخرج يومياً للمدرسة وللتنزه، ويومين تمرين سباحة، ويومين ألعاب قوى، كنا بنروح المراجيح عشان فيها ألعاب وإضاءات ومزيكا وأطفال كثير، وده ساعدنا نوقف الجلسات وكانت النتيجة أحسن وأسرع".

اضطرابات طيف التوحد هي مجموعة من الاضطرابات المعقدة في نمو الدماغ، وتتميز بمواجهة الفرد لصعوبات في التفاعل مع المجتمع والتواصل معه، وتشير التقديرات إلى أن طفلاً واحداً من كل 160 طفلاً في العالم يصاب بالتوحد، إلا أن بعض الدراسات الحديثة تفيد بمعدلات انتشار أعلى بكثير.

بعد أسبوعين من الحظر، لاحظت غادة التراجع الذي أصاب طفلها، توضح: "كل حاجة رجعت للخلف وكأنه مبيتعالجش من خمس سنين، وظهرت أشياء لم يكن لها وجود، عض وضرب وتكسير وصراخ مستمر، والنوم ساعتين بس، والأكل امتنع عنه، يعيش على معلقة سكر عند شعوره بالجوع".

تحاول الأم مساعدة حسين على تجاوز ما يعانيه، فيخرجون يومياً للمشي في الشوارع الجانبية لتفريغ طاقته، وتحسن قليلاً، ولكنه لا زال منزعجاً من الظلام، وغاضباً لمنعه من نزول البحر، ما اضطرها لاستخدام دواء لتهدئته وآخر لمساعدته على النوم.

 "كل حاجة رجعت للخلف وكأنه مبيتعالجش من خمس سنين، وظهرت أشياء لم يكن لها وجود، عض وضرب وتكسير وصراخ مستمر"

غادة محبطة بسبب الانتكاسة التي أصابت طفلها بعد سنوات من الجهد المكثف الذي تحملت معظمه بمفردها، وتواجد الأب من الخامسة عصراً بعد أن كان يعود في الثانية صباحاً، يضغط عليها أكثر، توضح: "مش متفهم الوضع، بيزعق له وده غلط جداً، وعايز كل حاجة في مكانها وده صعب لإن الولد بقى فوضوي جداً، وأنا مريضة غضروف وعرق نسا، بسبب شيل حسين، فمبقدرش ألمّ وراه طول الوقت.. للأسف باصرخ في البيت كله، وباضغط عالبنت اللي مالهاش ذنب".

تطالب غادة الحكومة بوضع أطفال التوحد في الاعتبار، لتقليل التأثيرات السلبية التي تقع عليهم بسبب الحرمان من النشاط، ولعدم كفاية أي جهد يبذل في المنزل لتعويضه.

تخفيف التأثيرات السلبية

يرى رامي رشاد، أخصائي التربية الخاصة والتخاطب، أن فترات الحظر الطويلة أدت لتراجع كبير في مهارات أطفال التوحد، مضيفاً أن الخطة الفردية التي يتم إعدادها للطفل من قبل الأخصائي يجب أن تقوم الأسرة فيها بدور فاعل، لتقليل الانتكاسة التي يتعرض لها الأطفال في هذه الظروف.

"لا تتركوهم أمام الشاشات لأوقات طويلة".

وحذّر رشاد، من ترك الأطفال المصابين بالتوحد أمام الشاشات لأوقات طويلة، رابطاً بين ذلك وبين انتكاس مهاراتهم وظهور المشكلات السلوكية، ناصحاً بالتواصل مع الأخصائي المتابع للطفل، والتعرف على الخطة الفردية والأهداف الموضوعة له، ومعرفة كيفية تطبيقها في المنزل لتجنب مزيد من التراجع.

وأكد رشاد، في تصريحات لرصيف22، على ضرورة تحلي الأسرة بالصبر في تلك المرحلة الصعبة على أطفالهم وعليهم، وأن يهتموا بالتواصل اللفظي المباشر مع الطفل، متابعة سلوكياته وتنمية مهاراته بممارسة الأنشطة الأكاديمية واللغوية ومهارات تعديل السلوك، بالإمكانيات المتاحة بالمنزل.

وأشار رشاد، إلى أن قدرة الأطفال على تجاوز التأثيرات السلبية التي لحقت بهم بعد انقضاء أزمة كورونا، ستكون أسرع في حال تحقيق التعاون والتكامل بين الأسرة والأخصائي المتابع للطفل، لأن الطفل يمضي وقتاً أطول مع أسرته، لذا سيكون عليهم دور كبير في تجاوز الانتكاسة التي تعرض لها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard