لا يرى صعوبة في صعود الجبال والخوض في المناطق الوعرة في سبيل الظفر بأفعى أو ثعبان. لا يأبه بالسموم ولا بالمخاطر التي قد تعترضه هناك، على العكس، فهو يرى في ذلك سعادة لا توصف.
استعداداته لهذه المهمة التي يراها البعض مجازفة خطيرة، بسيطة جداً، إذ يكتفي بالتسلح بمقص كبير صنعه بنفسه منذ ما يقارب الـ27 عاماً، وبحذاء عالٍ وكاوتشوك يقوم بربطه على رجليه للوقاية من اللدغ.
بدأ شغفه بصيد الأفاعي قبل أن يتجاوز الـ17 عاماً. في البداية، انشغل بالتعرف على أنواع الأفاعي والثعابين، والتفريق بين السام منها وغير السام، إلى أن تحوّل شغفه بهذا العالم إلى مهنة يجني منها المال لإعالة أسرته.
بشير البجاوي، تونسي يبلغ من العمر 44 عاماً، ترك مقاعد الدراسة باكراً بسبب ظروف أسرته المادية، وشُغف بعالم الحيوانات والصيد، وهو شغف ورثه عن أسرته الريفية في منطقة ماطر، التابعة لمحافظة بنزرت (شمالي البلاد). اليوم، هو متزوج وأب لطفل عمره 11 عاماً.
يقول البجاوي لرصيف22: "ترعرعت وسط عائلة مولعة بصيد الحيوانات، فتعلمت صيد الأفاعي من جدي وأعمامي. في البداية، انطلقت بصيد النحل البري الذي يعيش في المغاور والجبال ومن ثم تعلمت صيد الأفاعي. كنت مختلفاً عن أبناء جيلي، حتى أن لعبتي المفضلة كانت الأفاعي".
ويضيف: "كنت أتجول في الشوارع والأسواق وسط الناس وأنا أحمل ثعباناً. كانت متعتي لا توصف، خاصة عندما أرى انبهار الناس بي وخوفهم من الثعبان. كنت أشعر بالفخر".
يُشبّه البجاوي متعة ذهابه لاصطياد الأفاعي بزيارته لدولة أوروبية في رحلة سياحية مجانية، فيقول: "أشعر بفرحة كبيرة، متعتي وسعادتي تكمنان في البحث عن الأفاعي، وأحلى لحظة أعيشها عندما أكون في الجبال".
اللقاء بالصياد علي
مع الوقت، عمّق البجاوي معارفه في عالم الحيوانات، خاصة في الأفاعي والثعابين، لكنه بقي في هذا العالم بمفرده إلى أن التقى في صيف عام 2002 بصياد يُدعى علي، له خبرة في مجال صيد الحيوانات ويتعامل مع معهد "باستور" للدراسات والأبحاث الطبية.
و"باستور" هو ثالث أقدم معهد من نوعه في العالم، تأسس عام 1993 وهو عبارة عن مستشفى ومركز دراسات وأبحاث طبية، يضم مختبرات مرجعية وطنية وإقليمية للعديد من الأمراض، ويحتوي على وحدة متطورة لإنتاج اللقاحات والأمصال.
"كنت أتجول في الشوارع والأسواق وسط الناس وأنا أحمل ثعباناً. كانت متعتي لا توصف، خاصة عندما أرى انبهار الناس بي وخوفهم منه"... بشير البجاوي (44 عاماً)، تونسي ترك الدراسة باكراً وشُغف بالأفاعي حتى أصبحت مهنته. يحكي تفاصيل هذا الشغف الذي يتشاركه مع زوجته وابنه
بدأ البجاوي بمساعدة صديقه الجديد على توفير الأفاعي التي يحتاجها المعهد لأبحاثه، بمقابل مادي (الأفعى الواحدة بنحو 2 دولار)، لعجز علي عن استكمال مسيرة الصيد لوحده بفعل تقدمه في السن.
تابع البجاوي تزويد صديقه الصياد بالكمية التي يحتاجها من الأفاعي حتى ترك الأخير المجال إثر تعرضه للدغة أفعى عام 2006، ومنذ ذلك التاريخ، تولى البجاوي مهمة مدّ معهد "باستور" بالأفاعي التي يستخدمها الأخير في البحوث العلمية وصناعة بعض الأمصال الطبية، وذلك بسعر لا يتجاوز الـ26 دولاراً للأفعى الواحدة.
ظلّ البجاوي يتعامل مع المعهد التونسي طيلة 15 عاماً من دون أي عقد عمل أو ضمانات، إذ قامت المعاملة بينهما على الاتفاق على كمية الأفاعي والثعابين التي يحتاجها والتي لا تتجاوز عادة الـ60 أفعى خلال السنة، من ثم يقوم البجاوي بصيدها وتسليمها، وبعد التسليم بشهرين أو ثلاثة أشهر يحصل على مستحقاته المالية.
15 عاماً دون ضمانات
يقول البجاوي إنه بعد 15 عاماً من العمل مع المعهد من دون عقد أو تأمين على حياته، طلب من الإدارة إبرام عقد يضمن حقوقه لا سيما في عمل يحتوي على نسبة مخاطر مرتفعة، ومساعدته على توفير وسائل الوقاية اللازمة، لكن المعهد رفض العرض رفضاً تاماً، فقرّر البجاوي إنهاء تعامله معه رغم أنه المزود الوحيد له.
بموازاة انقطاع تعاملاته مع المعهد التونسي، تلقى البجاوي العديد من العروض من مختبرات أجنبية، واقتنت منه مختبرات فرنسية كمية من الأفاعي والثعابين قُدرت قيمتها المالية بثمانية آلاف دينار (حوالي ثلاثة آلاف دولار).
كما كان قد قام ببيع كمية من الأفاعي يقدر عددها بألف، عام 2013، لمختبر "لاتوكسان" الفرنسي الذي ساعده على تأسيس شركته الخاصة، "شركة المتوسط لتربية الأفاعي والحيوانات السامة"، العاملة في مجال تربية هذه الحيوانات وتصديرها إلى الخارج.
وبحسب البجاوي، فإن مساعدات المختبر الفرنسي في تأسيس الشركة جاءت قبل عملية اقتناء الكمية المذكورة، وذلك بهدف تسهيل إجراءات التصدير.
وعن كيفية التصدير، يقول البجاوي إن العملية تمت بشكل قانوني باسم الشركة وعبر الديوانة التونسية، كما اتبعت الإجراءات المعمول بها في تونس لتصدير الحيوانات.
وتُقيّد تونس تصدير كل أنواع الحيوانات من طيور وحشرات وزواحف أو توريدها إلا بموافقة مسبقة وترخيص من وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري.
بموازاة ذلك، تمكّن البجاوي من تكوين شبكة علاقات جيدة مع صيادين من مختلف أنحاء العالم، مستغلاً منصات التواصل الاجتماعي للتعريف بمهنته وبأنواع الزواحف الموجودة في تونس.
وبفضل شبكة العلاقات التي كوّنها في العالم الافتراضي، تلقى البجاوي عروضاً متنوعة من مخابر أجنبية، أولها كان من شركة أمريكية متخصصة في تربية الأفاعي والثعابين (امتنع عن ذكر اسمها) ترغب في اقتناء كميات كبيرة من الحيوانات غير السامة في تونس، خاصة تلك التي تُستخدم في البحوث العلمية (سلاحف، عقارب، أفاعي، ثعابين...).
مع ذلك، يشير البجاوي إلى أنه عاجز عن قبول عرض الشركة الأمريكية لضعف إمكانياته، إذ تحتاج عملية التصدير إلى نحو 13 مليون دينار تونسي (4.57 مليون دولار)، إضافة إلى ضرورة توفر آليات الصيد اللازمة من وسائل وقاية ووسيلة نقل تسهل عليه عملية التنقل بين الجبال والمناطق للبحث عن هذه الزواحف.
الصيد داخل المناطق السكنية
ضعف الإمكانيات منع البجاوي من توسيع عمله والتعاون مع جهات خارجية، فقرّر الاستثمار في مجال الصيد داخل المناطق السكنية.
بعد مسيرة تتجاوز الـ27 عاماً، اكتسب البجاوي تقنيات خاصة في صيد الحيوانات، تكمن أساساً في معرفته لأوقات خروجها وأماكن اختبائها في الجبال وكيفية تعامله مع كل نوع منها.
هذه الخبرة جعلت البجاوي يترك الجبال ويبحث عن قوت عائلته بين سموم الأفاعي والثعابين داخل المناطق السكانية، كتجربة جديدة تختلف عن الصيد في الجبال والمناطق الوعرة.
هكذا تحوّل البجاوي إلى الصيد في المناطق السكانية بمحافظات تونس الكبرى (أريانة، بن عروس، منوبة، تونس...)، إضافة إلى عدة محافظات أخرى (صفاقس، سيدي بوزيد، القيروان، سوسة)، حيث يقوم بمساعدة السكان على التخلص من الأفاعي والثعابين والحيوانات السامة التي تزور حدائقهم ومنازلهم ومزارعهم.
يقول البجاوي: "أستقبل يومياً طلبات ونداءات كثيرة عبر الهاتف من مواطنين يجدون أفاعي وثعابين في منازلهم ومزارعهم طالبين مساعدتي في التخلص منها، أقوم بالاتفاق معهم حول السعر المناسب بناء على المسافة التي تفصل منطقتهم عن مقر إقامتي"، والذي عادة ما يتراوح بين 50 و70 دولاراً، وأحياناً أكثر.
وبحسب البجاوي، فإن العمل داخل المناطق السكنية يوفر له خلال فصلي الربيع والصيف دخلاً يومياً يتراوح بين 100 و200 دولار، حيث يساعد في اليوم ما بين 7 أو 8 عائلات في التخلص من هذه الحيوانات السامة.
وعن مصير هذه الزواحف بعد القبض عليها، يوضح البجاوي أن علاقته الوطيدة بهذه الحيوانات تمنعه من قتلها، كما أنه يعجز عن القيام بتربيتها كلها، لضعف إمكانياته المادية وعدم قدرته على توفير مكان خاص لذلك، ولذلك يقوم بإطلاق سراحها في أحد الجبال القريبة من المنطقة التي وجدها فيها.
ورغم أن البجاوي وجد راحته في الصيد داخل المناطق السكانية، إلا أنه يواجه أحياناً صعوبة في القيام بذلك بسبب عدم امتلاكه لوسيلة نقل تُسهّل عليه التنقل بين المناطق والمحافظات وإنقاذ من يطلبون مساعدته، الأمر الذي جعله يربط خدماته غالباً بتوفير طالب العون لسيارة تنقله إلى المكان المطلوب.
الحياة مع الأفاعي
بسبب شغفه بعالم الزواحف وتردي ظروفه الاجتماعية، أُجبر البجاوي على تقاسم بيته وصالونه الخاص مع قرابة 36 أفعى.
رغم أن هذه الحيوانات تسببت في منع أقاربه وأقارب زوجته والأصدقاء من دخول منزلهما، حتى أن أب زوجته لم يقدر على زيارتهما منذ 15 عاماً، يرى البجاوي الأمر عادياً لأن الثعابين والأفاعي حيوانات برية تتعود بسرعة على الإنسان بعد 10 أو 15 يوماً من اصطيادها، وهو مضطر لتقاسم بيته معها لعدم قدرته على توفير أماكن خاصة بها.
في المقابل، تقوم زوجته بمساعدته على تربية هذه الأفاعي والثعابين إلى جانب عدد من الحيوانات الأخرى كالفئران البيضاء.
تربية الأفاعي والثعابين لا تقتصر على البجاوي وزوجته، فقد انضم ابنهما (11 عاماً) لهذا العمل مُظهراً شغفاً كبيراً، وبات يعرف التفريق بين السام منها وغير السام... عائلة تونسية تشارك تجربتها في العمل مع الأفاعي وتطالب بدعم رسمي يحميها ويحمي مهنة مفيدة للاقتصاد والطب
وفي هذا الإطار، يقول البجاوي إن زوجته لم تعلم بأنه يمتهن صيد الأفاعي إلا بعد شهر من زواجهما، وذلك تزامناً مع انطلاق عمله مع معهد "باستور".
لم ترفض زوجته عمله هذا وإنما شجعته على ذلك، حيث تعلمت في البداية التفريق بين أنواع الأفاعي والثعابين وكيفية ترويضها وتربيتها، وبعد فترة لا تتجاوز الشهرين، انطلقت في تقاسم متاعب المهنة معه، حيث أصبح زوجها يقوم بصيد هذه الزواحف وجلبها للمنزل، وبعدها تتولى هي مهمة تربيتها والاهتمام بها دون خوف أو ملل وإنما بحب وشغف كبيرين، وذلك تقديراً لمهنة زوجها وحفاظاً على قوت يومهم.
وبعد 14 عاماً من تربية الأفاعي والثعابين مع زوجها، لم تعد سلمى تأبه للمخاطر التي قد تسببها تربية الأفاعي والثعابين داخل منزلها، وإنما باتت تفضل هذه الحيوانات على الإنسان وتثق بها وتستبعد فرضية غدره، كما تقول.
تربية الزواحف لا تقتصر على البجاوي وزوجته، فقد انضم ابنهما البالغ من العمر 11 عاماً لهذا العمل مظهراً شغفاً كبيراً بهذه الحيوانات، وبات يعرف التفريق بين السام منها وغير السام ويتعامل معها دون خوف.
وفي هذا الإطار، يوضح البجاوي أنه اضطر عند ولادة ابنه إلى التخلي عن تربية الحيوانات السامة داخل منزله واقتصر على تربية الأفاعي غير السامة، خشية على ابنه.
ورغم خطورة هذه الزواحف، لم يشعر البجاوي وزوجته بالخوف على ابنهما من الزواحف، وإنما حاولا تربيته منذ الصغر على ضرورة التعود على تواجدها في المنزل والتعامل معها والتفريق بينها دون خوف.
في النهاية، يشكو البجاوي من أن مهنة صيد الأفاعي والثعابين تفتقر في تونس إلى الآليات التنظيمية اللازمة والاعتراف بأهميتها وبمساهمتها الفاعلة في دعم الاقتصاد الوطني كمهنة قائمة بحد ذاتها.
ورغم أن الدولة تعترف بالبجاوي كصياد وحيد مرخص له من وزارة الفلاحة والبيئة للعمل على كامل التراب التونسي، تشتكي العائلة من نقص اهتمام الجهات الحكومية بهذه المهنة.
ويطالب البجاوي الدولة بضرورة مساعدته في استثمار شغفه بهذا المجال ودعمه وتوفير وسائل الحماية اللازمة له وتأمين حياته وحياة عائلته من المخاطر التي تعترضه أثناء العمل، مشيراً إلى أن هذه المهنة - في حال توفرت لممتهنيها آليات الصيد الضرورية - تدر أموالاً طائلة خلال السنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.